أليس الارتقاء العقلي أساس كل ارتقاء آخر؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف يـمكن لـمن يصرف جميع قواه العقلية في الكد وراء فخفخة الـمعيشة أن يساعد على تقدم البشرية، اللهم إلا إذا كانت هذه الأمور هي الارتقاء بعينه؟ أما القول إنّ الـمادة التي يسعى وراءها البشر تسهل سبل الارتقاء، فهو قول يصح في ظروف معينة فقط، يقابله قول آخر هو أنه إذا كانت الـمادة تساعد على الارتقاء فالفقر لم يـمنع أحداً من بلوغه. مثال ذلك أنّ شكسبير أعظم نابغة إنكليزي لم يكن غنياً، وإسحق نيوتن مكتشف نصف النواميس الطبيعية كان فقيراً جداً، وكذلك كان نابوليون أعظم نابغة حربي في التاريخ الـحديث. ومن البديهي أنه إذا كان الفقر لا يحول دون الارتقاء فبالأولى أن لا تكون بساطة الـمعيشة حائلة دونه. وخطأ صاحبة الـمساواة من هذا أنها دغمت بساطة الـمعيشة في الهمجية وجعلتهما شيئاً واحداً وهو غير الـحقيقة.
والآن لأعد إلى متابعة أبحاث الكتاب لأن من الأقلام ما يعثر في كتاب غير مرة. فبعد أن انتهت الكاتبة من تفصيل الطبقات الاجتماعية وإثبات وجوب التفوق الذي ظنت خطأ أنّ بساطة الـمعيشة تـحول دونه، إنتقلت إلى البحث في الأرستوقراطية فجاءت على نبذة تاريخية منها، واستطردت في الوجهة العلمية مشيرة إلى الـخطأ الذي يرتكبه بعضهم بالاعتقاد أنّ الـملكية وأرستوقراطية الـحسب متلازمتان، وهو قول فيه صواب من وجهة واحدة وهي احتياج الـملكية إلى أرستوقراطية تظاهرها. أما وجهة الـخطأ فيه فهو أنّ الأرستوقراطية في غنى عن الـملكية. وذكرت معنى الأرستوقراطية الأصلي الذي هو حكم الأفضل وتعريف أرسطو لها، وأيدت ضرورة الأرستوقراطية لـمنفعة الأمة.
ثم انتقلت بعدما تقدم إلى البحث في العبودية والرق، فوفّت هذا البحث حقه من الشروح، إذ أتت فيه على قِدَم العبودية وما جاء بشأنها في بعض الكتب القديـمة، وكيف أخذت تخف وطأتها بالتدريج، إلى أن انتهت أخيراً بتلك الثورة التي قامت على الظلم والإجحاف والـجوع وقضت على الرق الذي لازم نظام الاقطاع في القرون الوسطى كما قضت على العبودية ودكت معقل الـجور في فرنسة إلى الأساس.
كل ذلك كان حسناً لولا أنّ قلم الـمؤلفة عاد فعثر عثرة تكاد أن تقضي على ما تبقّى من الـحياة العائلية. ولا أكون مبالغاً إذا قلت إنها تقضي على العلاقات الزوجية وتنفي وجود الـحب. ولكي لا أكون قد اتهمت بريئاً وظلمت عادلاً أورد هنا ما جاء في الكتاب بالـحرف:
«يرمز الـمصورون إلى العبودية برسم رجل بائس رسف في قيوده، ولو أنصفوا ما كان غير الـمرأة رمزاً. الرجل عبد مرة وهي عبدة مرات. قيمة الرجل في استقلاله النفسي وطموحه إلى بعيد الغايات. والـمرأة إن هي أبدت ميلاً إلى الانعتاق من الأوهام القديـمة والتحرير من العادات الـمتحجرة نُظر إليها كفرد شاذ أو كخيال في دوائر الرؤيا. ذلك لأنهم اعتادوا استعبادها، ليس بالـجور والضغط والتعذيب فقط، بل باللطف والتدليل والتحبب. وإلا فماذا تعني هذه الـحلي وهذه الـجواهر؟ بل ماذا يعني تغنّي الشعراء بجمال الوجه وملاحة القوام؟ النساء الـمسكينات يتهن دلالاً أن يكن محبوبات لـجمالهن، ولو تفكرن قليلاً لأدركن ما في ذلك من معنى التحقير لـجميع قواهن، حتى الأنثوية نفسها، ولكفى أن يتقدم إليهن رجل بامتداح حسنهن وحده ليرفضنه زوجاً. وهؤلاء هن اللواتي بعد أن يشترين بالـمال والـحلي والتملق - وقد عنى سكوتهن قبول نير العبودية والرضى عنه - ينبرين فجأة مطالبات بحقوقهن بالاستقلال والتحرير. وأنا التي أكتب هذا يشوك الآن ساعدي سوار دار حوله فأنظر إليه وأضحك ولا أزيحه عني. لقد توارثت النساء حمل القيود في صورة الـحلي حتى عشقنها، إن هي لم تثقل حركتهن لغرض ما وضعن مكانها ما يشير إليها من غير سبب.
«تشكون من زواج هذا العصر وتستصغرون الذي يتزوج البائنة ويقبل صاحبتها معها بدلاً من أن يتزوج الـمرأة ويقبل معها بائنتها. ولكن أتظنونه أفظع من زواج يؤدي فيه الرجل مهراً؟ إذا ساء شراء الـمرأة زوجها فكيف يحسن ابتياع الرجل زوجته؟»
أنطون سعاده