إني أحد أولئك الذين وقفوا في بعلبك أمام تلك الأعمدة التي لا تزال رغم كرّ الأعوام رمز تلك العظمة التـاريخيـة، متهيبيـن خاشعيـن يتأملون تلك البقايا الـخالدة، فلا تـزيـدهـم الـتـأمـلات إلا حـيـرة. ويفكـرون في دقـة ذلك البناء العجيبة فلا يزيدهم التفكير إلا رهبـة.
أمام تلك الأعمدة التي غالبت الدهر وأبناءه وصارعت الطبيعة وعناصرها، وقفت مسائلاً إياها عن ذلك الـماضي الـمجيد. فكان جوابها ذلك الصمت الرهيب الذي هو أبلغ من كل كلام، فشعرت بعاطفة ارتعشت لها نفسي وتأثير عميق تردد صداه في قلبي.
أنا أيضاً أحد أولئك الذين أسعدهم الـحظ أن يقفوا أمام تلك البقايا الـخالدة في تدمر، وشاهدوا عظمة تلك الآثار التي أكبرَها التاريخ أيّـما إكبار. وهي وآثار بعلبك أشهر ما بقي ليحدّث العالم عن أمجادنا القديـمة الباذخة.
هذه الآثار التي لا تعادل بثمن، تريد لـجنة التمثال أن تقتلعها من أماكنها لتجعلها وقفاً على البرازيل والشعب البرازيلي لأن أعضاء اللجنة أثْروا في هذه البلاد.
إنّ عظام أولئك الـجبابرة الذين على إرادتهم الـحديدية وسواعدهم الفولاذية قامت هذه الأمجاد التي قصّر عن أمثالها العالم والتي خلّدت اسم «سورية» في بطون التاريخ إلى الأبد، لَتنتفض في مراقدها حنقاً لهذه الإهانة التي وجّهتها لـجنة التمثال ليس إلى العالـميـن الـمسيحي والإسلامي فقط بل أيضاً إلى أرواح أولئك الـجبابرة الراقدين رقادهم الأبدي.
إنّ أولئك الـجبابرة من أجل سورية وأبناء سورية وأمجاد سورية أقاموا تلك الأمجاد، والآن تريد لـجنة التمثال من أبناء سورية أن تنتزع كل أثر من آثار مجد سورية وكل معلَم من معالم عزها القديـم وتقفها كلها على البرازيل، لأن البرازيل في حاجة إليهم كما أنهم في حاجة إليها! - فما أمجد سورية في نظر العالم على زمن أولئك الـجبابرة، وما أحقر سورية في نظر البرازيل على عهد لـجنة التمثال!
إننا لم نرَ لـجنة فرنسية تقول لو أتينا بقبر نابليون ودانتون، ولا إنكليزية تقول لو أتينا بقبر ولنتون ونلسن، ولا أميركية تقول لو أتينا بقبر واشنطن ولنكلن لـما وفينا البرازيل ما علينا لها من الإكرام. فما قولك بلجنة سورية تقول لو اغتصبنا قبر صلاح الدين من دمشق واغتصبنا قبر الـمسيح من القدس ووقفناهما على البرازيل لـما وفينا ما علينا لها من الإكرام؟
إنّ اللجان الفرنسية والإنكليزية والأميركية التي تقول هذا تقتلعها جواليها من كراسيها اقتلاعاً في خلال أربع وعشرين ساعة، وينقضّ عليها غضب شعوبها انقضاض الصواعق من عنان السماء!
ومن هما نابليون ودانتون، ومن هما ولنتون ونلسن، ومن هما واشنطن ولنكلن في عيـن العالم الـمسيحي بالنسبة إلى يسوع الـمسيح؟ إنّ هؤلاء العظماء وألوفاً سواهم من الأباطرة والأمراء كانوا ينحنون لاسمه ويسجدون له ويركعون لتمجيده في كنائسهم، لا ركوع العبد أمام السيد بل ركوع الـمخلوق أمام الـخالق!
ألا تفقه لـجنة التمثال أنّ هذا القبر الـمقدس إنـما هو وحده دون سواه كان سبب الـحروب الصليبية؟ هل تفقه ما معنى الـحروب الصليبية؟ إحدى عشرة حرباً هائلة نشبت بيـن الأوروبييـن والـمسلميـن بعد أن طاف الناسك بطرس الشهير عواصم أوروبة وبلاطات باباها وملوكها وأشهر مدنها وبلدانها، خاطباً مثيراً الـحماسة في الصدور للاستيلاء على القبر الـمقدس - جيوش جرارة تسير على أقدامها قاطعة أوروبة مؤلفة من رجال تركوا وراءهم نساءهم وأولادهم، ومن شبان تركوا وراءهم أمهاتهم وعرائسهم - في تلك الأيام التي لم يكن فيها سكك حديدية ولا مراكب بخارية ولا أسلاك برقية ولا ذخائر حربية - يسيرون في الفيافي والقفار تـحت تأثير الـجوع والعطش - تـحت حرارة الشمس الـمحرقة أو سيول الأمطار الـجارفة - تتفشى فيهم الأوبئة ويجرفهم الـموت كما تـجرف الأنهار الأشجار اليابسة، قبل أن يبلغوا ميناء بحرياً للإقلاع منه إلى قبر الـمسيح - كم مات منهم على الطريق! كم تألـموا! كم لاقوا من الـمصاعب والـمصائب التي تقصر الأقلام عن وصفها! كم لعبت العواصف بـمراكبهم الشراعية في عرض البحر كما تلعب الـجبابرة بالأكر! كم تـجشموا من الـمشاق حتى بلغوا الأرض الـمقدسة! وهناك - هناك - ما أهول الـحروب التي خاضوا غمارها! وما أغزر الدماء التي سالت في سبيلها! هناك اضمحلت هذه الـجيوش الـجرارة كما يضمحل الثلج تـحت حرارة الشمس. وكلما اضمحل جيش هبّت أوروبة لـحشد جيش آخر! - هناك التحم الغرب والشرق في معارك دموية هائلة! هناك - هناك ظهرت الشجاعة الـجسدية لا بالـمدافع الضخمة ولا بالطيارات الـمحلقة ولا بالدبابات الـجارفة ولا بالغازات السامة بل بالسلاح الأبيض! - بالسيوف الـمرهفة والرماح الـمشرعة والـخناجر اللامعة تغمد في الصدور والقلوب تبتر الأعضاء وتـحذف الرؤوس! هناك تلاحمت الأبطال جسماً لـجسم واصطدمت الكماة فارساً لفارس! هناك - هناك ظهر على مسرح العالم للمرة الأولى شاب في عنفوان الشباب قادماً من الـجنوب من بلاد العرب للدفاع عن القبر الـمقدس لأن من استولى على القبر الـمقدس استولى على الأرض الـمقدسة! هو هو صلاح الدين الأيوبي الذي طارت شهرته في الآفاق وأصبح اسمه عنواناً للشجاعة وكرم الأخلاق. هناك - هناك - لقي ندّه في الشجاعة العظيمة والأخلاق السامية - ريكاردوس الـملقب بقلب الأسد - وهناك اصطدم هذان البطلان واقتتلا دون أن ينال الواحد من ندّه مراماً - وهناك ظهرت الشهامة الـحربية التي قلّما نرى لها أثراً في السنيـن الـحالية - هناك ترك الغرب والشرق قتلاهما تـملأ جثثهم الهضاب والبطاح، وخرج صلاح الدين من هذه الـحرب ظافراً مخلداً اسمه في التاريخ.