لم يكن وعد كليمنصو للشعب الفرنسي أثناء الـحرب العالـمية بالعصر الذهبي الذي سيعقب تلك الـحرب الهائلة إلا آمالاً شيّد عليها صروح إمبراطورية فرنسية في الشرق تدرّ على فرنسة لبناً وعسلاً.
نظرت فرنسة إلى الـمستعمرات البريطانية الواسعة الأطراف، فراعها غنى تلك الـمستعمرات وأبهة الإمبراطورية الـمتجلية بها بريطانية. وأصبحت تتطلع إلى الأراضي الشرقية التي لم تصلها يد بريطانية بعد تطلعاً يشف عما تضمر لتلك الأراضي من الاستعمار الأبدي فيما لو ساعدتها التقادير. وأخذت تعدّ عدتها لإنشاء إمبراطورية تضارع الإمبراطورية البريطانية غنى وضخامة.
وكانت قد قطعت فــرنسـة الأمل من الإمبراطوريــة التي صـوّرتها لها مخيلة كليمنصو وميلران وأمثالهما، ومن بقائها نفسها في عالم الوجود، عندما كان الـجيش الألـمانـي قد اكتســح نصفها وبدت طـلائعـه على أبواب باريس، حتى أنّ كليمنصو عنـدما رجـع من زيارة خطـوط القتـال الأمـامية طلب إلى رئيسه بوانكاريه أن يتركا العاصمة قبل حلول النكبة.
بيد أنه ما كاد الـجيش الألـماني يتراجع عن موقفه أمـام عاصمـة الفرنسـيـس، حتى أخذ كلـيـمنصـو يؤكد للشـعب أنّ العصـر الـذهبي آخذ في البزوغ وأنهم عما قليل يسـتثـمرون مـما يقع في أيديـهم من الأراضي الشـرقية الـخيـرات الكثيرة ويسوقون القطعان البشرية الـموجودة فيها بعصا من حديد.
وقد جرت رياح السيـاسـة بعد الهدنـة كما تشتهي سفن كليمنصو. فمعاهدة فرساي خوّلت فرنسـة استـرجـاع الألزاس واللورين، ومؤتـمر سان ريـمو خوّلها الانتداب على سورية وكيليكية. ولكن إعصار الـحرب التركية صدمت إحدى تلك السفن فحطمتهـا وسلخـت قسماً كبيراً من أراضي الإمبراطورية الـموهومة التي وعد بها كليمنصو أن تدرّ على الفرنسيس لبناً وعسلاً.
ولـما رأى ميلران وبريان أنهما عاجزان عن إبقاء كيليكية، أخذا يصرّحان أنهما لم يقصدا الاستيلاء عليها أو البقاء فيها على الإطلاق لأن البلاد ليست في حاجة إلى حمايتهما. أما سورية فإنهما سيبقيان فيها إلى الأبد لأنهما لو تركاها لذهبت صروح الإمبراطورية التي شادها كليمنصو، وقصور الآمال التي زينها بأفخر الرياش وزخرفها بأجمل الألوان، وكل أتعابهما في هذا السبيل، أدراج الرياح.
والذي جعل هذا الاعتقاد يرسـخ في ذهنهما، هو ما أظهره السـوريـون للفرنسـيس عنـد بـدء الاحتـلال من الـحفـاوة والإكـرام لظـنهـم أنهم إنـما أتوا ليحرروهم وليس ليستعبدوهم، فوطدا العزم على إبقائها لفرنسة إلى الأبد! وقد انتدبا للمهمة الاستعمارية في سورية الـجنرال غورو الذي أماط، بخطته العوجاء وسياسته الـخرقاء والاستبداد الذي لا يعادله استبداد، اللثام عن نوايا فرنسة الاستعمارية وجشعها الذي ليس له حد، مـما نفّر قلوب السورييـن منها وكرهها لهم. ولكنه كان يكتم الـحقيقة عن ميلران وبريان ويرسل إليهما بالتقارير الـمنمقة عن حب السورييـن الشديد لفرنسة وله على الـخصوص، مستشهداً على ذلك بالاحتفالات القسرية وأمثال خطاب الـمطران عبدالله الـخوري.
ولا بد من أنّ ميـلـران وبريان وقفا على حقيقة الـحال في سـورية، ولكنهما يحذران التّفوه بكلمة من هذا القبيل لئلا يثور الرأي العام في فرنسة عليهما، خصوصاً وقد سئم الشعب الفرنسي انتظار اللبـن والعسل الذي ستدرّه عليه سورية بعد أن قطع كل أمل من لبـن وعسل كيليكية.
غير أنه لـما كثرت طلبات غورو للاعتمادات الـمالية والنجدات الـحربية، مع أنّ كل تقاريره تدل على أنّ الأمن مستتب في تلك البلاد وأنها خاضعة لفرنسة تـمام الـخضوع، أخذ الشك يتطرق إلى أدمغة نواب الأمة الفرنسية. وهو ما حدا ببعض النواب إلى مناقشة رئيس الوزارة الـحساب وسؤاله عما إذا كان موقف فرنسة في تلك الديار يدعو إلى حشد الـجيوش وإكثار الذخائر.
ولكن بريان كان يجيب على تلك الأسئلة بعبارات مبهمة. وبقي منتظراً نتيجة إجراءات غورو ووفاء عهوده من جعل سورية تـحت سيطرة فرنسة الـمطلقة لتدرّ عليها اللبـن والعسل اللذين وعد بهما كليمنصو.
والـحقيقة أنّ غورو كان يظن أنّ خطته قد أبلغته ما يريد، وأنه بعد أن ضرب الـجيش السوري الذي لم يكن على استعداد لـمحاربته في ميسلون، أصبحت البلاد تـحت مطلق تصرفه. وقد غاب عن ذهنه أنه يـمكن للرجال أن يكونوا جنوداً ولو كانوا بغير ملابس الـجنود، فبعث إلى ميلران وبريان يبشرهما بنجاح خطته وأنّ البلاد قد تطهرت ولم يبقَ فيها من يخشاه.
بينما غورو يجهد فكره في وصف الاحتفالات القسرية التي كانت تقام له في سورية ليرسلها إلى ميلران وبريان، وبينما هذان البطلان يعللان نفسيهما بقرب موعد استدرار اللبـن والعسل مستندين في ذلك إلى تقارير غورو، كان أحرار السورييـن يعقدون الـجلسات تـحت ستار الليل لوضع الـخطط الثوروية وتنظيم حركاتها. وبينما غورو يهنىء نفسه بفوزه في ميسلون، وميلران وبريان يحلمان الأحلام اللذيذة، كان أحرار سورية يعملون ليلاً ونهاراً دون أن يأخذهم هدوء أو يقرّ لهم قرار في سبيل تـحرير البلاد ويتحفزون للوثوب على جيوش الاحتلال لتمزيقه.
لقد ظن غورو أنه بانتهاء معركة ميسلون انتهت القضية السورية وأصبحت سورية تـحت سيطرة فرنسة بلا معارض. والـحقيقة هي أنه ما كادت معركة ميسلون تنتهي حتى ابتدأت الـمسألة السورية في دخول طور خطير. فبدلاً من أن يخضع السوريون لغورو، وطدوا العزم على مناصبته العداء لاسترجاع الـحرية التي سلبهم إياها والـحقوق التي لم يحفل بها والاستقلال الذي لم يحترمه.
لم يكن السوريون عازميـن على مقاومة الفرنسيس قبل معركة ميسلون لأنهم كانوا في شك من نية فرنسة نحوهم، ولكن معركة ميسلون أزالت كل شك وأماطت اللثام عن نوايا فرنسة وجشع فرنسة وغدر فرنسة التي كانوا يظنونها إنـما جاءت لتحررهم وتـمنحهم الاستقلال.
أما وقد كشفت معركة ميسلون القناع عن حقيقة موقف فرنسة نحو الأمة التي استشهد نصفها جوعاً في سبيلها، فلم يعد في وسع السورييـن إلا القيام بثورة دموية في جميع أنحاء سورية لاسترجاع حريتهم واستقلالهم اللذين سلبهم إياهما رجال فرنسة.
والـحق يقال إنّ الثورة السورية أشبه شيء بعاصفة آخذة في الهبوب على صروح وقصور إمبراطورية كليمنصو وميلران وبريان هبوباً تزعزعت له أساساتها. وإذا كانت للآن لم تسقط فذلك لأن العاصفة في أول هبوبها. أما متى اشتد عصفها، فهناك يكون البكاء وصرير الأسنان لأنها ستهدم جميع ما بناه الفرنسيس من صروح الأماني وقصور الآمال على رؤوسهم.
وقد غاب عن ذهن غورو أيضاً أنه يـمكن للثورة أن تسري في جميع أنحاء البلاد ولو لم تنشر أخبارها جرائدها الـمتخلفة. فهو قد ظن أنه بوضعه قلم الـمراقبة على تلك الـجرائد قد أقام حاجزاً متيناً يتّقي به شبوب مثل هذه الثورة. ولكن غورو رجل اشتهر بالعقم، فلا عجب إذا كانت هذه ظنونه وأعماله.
في سورية ستقوّض الأساسات التي شاد عليها الفرنسيس صروح الإمبراطورية الشرقية. ومتى سقطت عليهم تلك الصروح أحدثت دوياً عظيماً تُردد صداه جميع أقطـار الشـرق.
أجل، إنّ العصر الذهبي الذي يعلّل الفرنسيس أنفسهم بقرب مجيئه سيتحول إلى عصر دم يكون لونه أشد احمراراً بكثير من لون الذهب، لأن الـمستعمرات التي ينتظر الشعب الفرنسي أن تدرّ عليه خيراً سوف لا تدرّ عليه إلا سيوفاً ورصاصاً، وتـحوّل العصر الذهبي إلى عصر أحمر قانٍ فأسود قاتـم.
لا شك في أنه متى علم الشعب الفرنسي هذه الـحقيقة، انقلب على رؤسائه انقلاباً يبعث على انقلاب معاقل الـجور والاستبداد التي شادوها في سورية وغيرها من مستعمرات إمبراطورية كليمنصو وميلران وبريان، وطالبهم بالدماء البريئة التي تسفك في سبيل مطامع ليس من ورائها سوى تقتيل الأنفس وإهراق الدماء.