من أعظم العقبات التي قامت في سبيل استقلال سورية التعصب الديني، ذلك الداء العضال الذي أحدث شللاً في أعضاء الأمة السورية ووقف حاجزاً منيعاً بينها وبيـن ما ترمي إليه من النهوض إلى مصاف الأمـم الـحية.
ولقد سببت التعصبات الدينية في سورية معضلة هي أشبه شيء بالـمعضلة البلقانية من الـمنازعــات والانقسـامـات الوخيمـة العـواقب. والـمعضلة السـورية هي عبارة عن معضلات عديدة لا تلتئم مع مصلحة أمة تريد النهوض إلى مستوى الأمـم الـحية قط.
والـمعضلات الـمشار إليها هي معضلة لبنان وجبل حوران وفلسطيـن وسورية. وكل هذه الـمعضلات منحصرة في معضلة واحدة، فإذا لم يبادر السوريون إلى حلها قبل أن يتفاقم شرّها جرّت عليهم ويلات لا تعد ولا تـحصى.
وإحدى هذه الويلات الآخذة في الـحلول في الأراضي السورية كضيف ثقيل يضطر الساكنيـن إلى الرحيل، هي الصهيونية. فللصهيونييـن جمعيات وفروع في جميع أقطار الـمسكونة تعمل يداً واحدة لغاية واحدة وهي الاستيلاء على فلسطيـن وطرد سكانها السورييـن منها. ولو كان الصهيونيون وحدهم قائميـن بهذا الـمشروع الـخطير لهان الأمر، ولكن يعضدهم في مشروعهم هذا أعظم دولة بَحْرية وُجدت على وجه البسيطة إلى يومنا هذا.
كلٌّ يعلم العواقب الوخيمة التي تـحلّ بسورية والأخطار التي تهدد البلاد فيما لو نـجح الصـهيـونيـون في مشــروعـهـم. ومتى عـلم السوريون أنّ الدولة التي تساعد الصهيونييـن هي الدولة الإنكليزية، علموا خطورة موقفهم وشعروا بشدة احتياجهم إلى التعاضد ورأوا أنه لا بد لهم من ملافاة هذا الـخطر الـمداهم بأية وسيلة كانت، ذلك إذا كانوا حقيقة يريدون التخلص من سيطرة الأجنبي ويطمحون إلى شيء من الاستقلال.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى نرى أنّ الاستعمار الفرنساوي خطر يضاهي خطر الصهيونية إذا لم يكن يفوقه. ولا يخفى على السورييـن ما صرّح به غورو يوم تساءل السوريون عن سبب إنزال العلم الفرنسي عن دار الـحكومة في بيروت إذ قال «إنّ فرنسة أتت سورية لا لترحل عنها بل لتبقى وستبقى فيها إلى الأبد.» وهذا دليل واضح على أنّ فرنسة تريد سورية مستعمرة لها إلى الأبد. وأنه ما زالت فرنسة في سورية فلا أمل لهذه بالاستقلال، إذ لا يـمكن أن تكون سورية مستقلة وجيش الاحتلال الفرنسي يسرح ويـمرح فيها إلى الأبد.
ولكن ليعلم السوريون أنّ الذي جلب عليهم هذه الويلات إنـما هو التعصب الديني الذي فرّق كلمتهم وبعثر آراءهم وفكك عراهم وأوهن قواهم، وهم لو كانت آراؤهم متوحدة وكلمتهم مجموعة، لـما كان تـجاسر بلفور أن يَعِد الصهيونييـن بـما وعدهم به، ولـما كانت فرنسة طمعت في استعمار سورية خوفاً من أن يثور الشعب السوري ثورة بركان هائل أو يتحول إلى سيل جارف يجرفهم من على شواطئه الـمقدسة إلى البحر التاريخي فتزيده هذه الـحوادث أهمية في التاريخ.
ولا بد للسوريين في دفع هذه الويلات عنهم والتخلص من سيطرة الأجانب إذا أرادوا، من أن يعدلوا عن طريقة مقاومة الأخ لأخيه التي مشوا عليها زمناً طويلاً ولا يزالون سائرين عليها إلى الآن، وأن يعملوا متّحدين ويستخدموا لذلك جميع قواهم العقلية والـجسدية والـمادية، وأن يكونوا مستعدين لأية تضحية كانت في هذا السبيل شأن كل أمة تريد الـحرية والاستقلال.
ولكن الغريب في أمر السورييـن أنهم لا يهتمون لهذه الأخطار الـمحدقة كأنهم جاهلون حقيقتها، والسبب في ذلك هو انصرافهم الكلي واهتمامهم الشديد في منازعة بعضهم بعضاً دون داعٍ أو موجب. وهم قد يبقون غافليـن عن هذه الأمور إلى أن يحل البلاء ويبلغ عويل إخوانهم عنان السماء، عندئذٍ يستيقظون ليروا أنّ النار التي لم ينتبهوا إليها قد أحرقت كل شيء حتى الـحجارة والتراب، فيعضون أصابعهم تـحسراً وندماً.