قد يستخف المرء ببعض الكلام الذي يلقى في أفواه الرعاع والغوغاء لينتشر ويحدث ضجة فيهم. ولكن متى انتقل هذا الكلام من أفواه الغوغاء إلى فم عضو في المجلس النيابي يتلفظ به في جلسة رسمية فالأمر لم يعد مما يدعو إلى الاستخفاف، بل إلى الأسف والحزن، لأن المسؤولين عن حرية الشعب وكرامته هم أقلّ الناس شعوراً بهذه المسؤولية الخطيرة وأبعدهم عن الاعتصام بالرصانة في المواضيع التي يتوقف عليها نهوض أمة أو سقوطها.
ومتى أصبح المجلس النيابي، الذي وُجِدَ ليكون مكاناً للصراحة التامة، ميداناً للمواربات السياسية، فما هي الفائدة القومية منه؟ وما الفرق بينه وبين أقبية المؤامرات، أو بينه وبين مجالس المستهزئين؟
لسنا من محبذي المجالس النيابية على الإطلاق ولسنا من محبذي هذا المجلس النيابي اللبناني على الخصوص، بل نحن من مؤيدي مذهب الحزب القومي في هذا الصدد ومن الموافقين على رأي الزعيم في عدم الرجاء من الأساليب الانتخابية والمجالس النيابية الناتجة عنها. ولم يكن الحزب القومي مخطئاً في عدم تعليق أي رجاء على المجلس النيابي وانتخابه فإن جلسات هذا المجلس، من أولها إلى آخرها، جلسات بعيدة عن التعبير عن حاجة الشعب ومعالجة شؤونه الحيوية. وهذه جلسة الأحزاب تدل دلالة جلية على مبلغ شغف النواب بإرضاء شهواتهم والتلهّي بألاعيبهم بينما الشعب يحترق!
لم يكن من المستحسن قط أن يعمد السيد فرنجية إلى الإبهام في قضية تهمُّ الشعب اللبناني لما لها من العلاقة المكينة بمصيره وقضاياه الحيوية. وقد كان الأحرى بالسيد فرنجية أن يفكر عشر مرات قبل التفوّه بعبارته المشار إليها الحاملة كل معاني عدم المسؤولية وعدم الاكتراث وشيئاً كثيراً من البلبلة والشكوك. كان الأجدر به أن يتأمل ملياً في حياة الأمم ومقتضيات حياتها وفي المجاري الفكرية والنهضات القومية ومظاهرها وخفاياها، وفي التبعة الخطيرة التي يتحملها تجاه التاريخ من يدفعه الاستخفاف بأمته وشعبه إلى حمل لغط الغوغاء المبتذل إلى مواضع الكلام الرصين، وإلى عدم التحفظ في الكلام على منظمة أو مؤسسة وجدت مستقراً في ضمير الشعب اللبناني الذي جاء السيد فرنجية يمثّله في المجلس النيابي، لأن في مثل هذا الموقف تحقيراً للشعب، خصوصاً وأنّ في عبارته «أحزاب تعمل بإرادات أجنبية» ما لو صح أنه موجه إلى الحزب القومي لكان افتراءً صريحاً على منظمة أصبحت مدار أمل البلاد الوحيد في الإنقاذ القومي.
إنّ قول السيد فرنجية المذكور آنفاً ينطبق على حزب واحد معروف هو: الحزب الشيوعي. فالمعروف الثابت هو أنّ في البلاد السورية حزباً واحداً يعمل مباشرة ومداورة بإرادات أجنبية هو الحزب الشيوعي الذي يذهب أركانه لتلقّي أساليب الدعاوة الهدامة في موسكو ويتلقّى مركزه هنا التعليمات الأجنبية من موسكو ومن غير موسكو.
على أنّ الحزب الشيوعي لا يقتصر على العمل لهدم الكيان اللبناني فقط، بل يعمل لهدم كل كيان قومي وقتل كل إرادة قومية مستقلة فهو الصنيعة الأجنبية وهو الحزب العامل «بإرادات أجنبية». وقد تكون هذه «الإرادات» عينها هي ما يحمل الأستاذ فرنجية على ترك الحزب الشيوعي وشأنه وسبك عبارته بطريقة توجه النظر إلى الحزب القومي العامل على إنقاذ مصير الأمة من مثل هذا الخنوع «للإرادات الأجنبية».
إذا كان الأستاذ فرنجية يقصد من عبارته الكبيرة الضجاجة جر حملة جديدة على الحزب القومي، كما هو الأرجح، فيكون كلامه من نوع تلك الوشايات أو السعايات المستورة بستار براق من الغيرة على «الكيان اللبناني» غير المهدد.
إنّ عبارته تحمل على الاعتقاد أنها موجهة إلى «إرادات» الجانب الفرنسي في الدرجة الأولى لتمهد لقتل النهضة القومية بإثارة غضب رجال المفوضية على الحزب القومي، الذي نضطر إلى القول وجبيننا يندى من الخجل: إنّ الفرنسيين الأجانب كانوا أسرع إلى فهم حركة الحزب القومي وأكثر تحفظاً في معالجة قضيته وأضنّ بنهضته من أن يحمّلوها ما لا يقبله وجدان الأحرار وأبعد نظراً في أصولها من «الوطنيين»، الذين لجأ فريق كبير منهم إلى تصوير الأمور بغير حقيقتها، وإيغار صدور الفرنسيين على النهضة القومية لسبب واحد هزيل حقير هو خدمة مآربهم وإرضاء رغباتهم.
إنّ السيد فرنجية لم يكن يرى أي أثر «للإرادات الأجنبية» حين كان يحقق في قضية الحزب السوري القومي، متبرعاً للدفاع عن الحقيقة، لا محامياً بأجرة. ولكنه الآن أصبح يراها من وراء سجوف الدعاوات الرجعية والإكليريكية ومن وراء الأهداف المتعلقة بسياسة لا تعلو عن مرتبة «سياسة الضيعة» التي تحدثنا عنها في أعداد سابقة.
والظاهر أنّ «لبنانية» السيد فرنجية الضيقة الصرف هي التي حالت دون اتصاله بالحكمة السورية الواردة على لسان الشاعر الخالد المعري:
فكيــف تــرى المنهــاج والـليـل مــقـمر
ولم تــــره والـــيـــوم أزهـــر شــامـس؟
إذا كان السيد فرنجية يعدّ عبارته في المجلس من باب الدبلوماسية فبئسما هي هذه الدبلوماسية الخرقاء!
إنها دبلوماسية الزمن العتيق البائد. إنها هذه الدبلوماسية العفنة الفاسدة القائلة بمحاربة بعضنا البعض الآخر في سبيل غاياتنا الشخصية بتحريض «الإرادات الأجنبية» بعضنا على البعض الآخر.
أهذه هي الغيرة على «كيان لبنان» وعلى «استقلال لبنان»؟
أهذه هي النيابة عن الشعب؟
أهذه هي القومية الصحيحة؟
أهذا هو الإنتاج القومي المجدي؟
السيد حميد فرنجية يرى أنه لا يحسن بنا الاستنجاد بالجيش الفرنسي في حالة قمع مظاهرات أشارت الحكومة بإيقافها وهي مظاهرات أحزاب كانت الحكومة كل شيء فيها. ولكنه يرى أنه يحسن بنا إثارة «الإرادات الأجنبية» على النهضة القومية الأصلية التي تريد رفع الأمة إلى مستوى «الإرادات الأجنبية.»
إذا أردت، يا عزيزي المطالع، أن ترى صورة لما هو العقم القومي فهذا هو العقم القومي الباهر!