مما لا شك فيه أنّ النقطة التي هاجمها السيد شارل عمون في خطابه المختصة بحظر نشر أخبار الحوادث العمومية كالمظاهرات وغيرها نقطة هامة جداً، وكان تركها يعدُّ جبناً جلياً وعجزاً فاضحاً يضاهي عجز المجلس السابق الفاضح عن التقدم إلى الحكومة بسؤال عن مصير الدم اللبناني في بكفيا وعن مصير مئات العائلات اللبنانية التي على عملها وإنتاجها يقوم الأمل بفلاح هذا الوطن، وعن مصير مئات الرجال اللبنانيين في السجون يتألمون ويتحملون آلامهم ببطولة كبيرة لأن مجلساً كالمجلس النيابي الموقر خشي التفوه بما قد يصدم «الإرادات» التي يتكلم عنها السيد حميد فرنجية في هذا المجلس وكان لا يرى منها شيئاً عالقاً بحناجر أعضاء المجلس في هذا المجلس كما في المجلس السابق!
ما أعظم الأستاذ فرنجية في مهاجمة «الإرادات الأجنبية». والصورة التي يمثّلها السيد فرنجية هي بالحقيقة صورة رائعة. إنها صورة رجل قد التفّ حول عنقه ثعبان خبيث وأخذ يشد بخناقه ولكنه لخشيته من هذا الثعبان ولخضوعه لضغطه يحمل تنكة ويقرعها بقضيب وينادي بالناس «أيها الناس تعالوا انظروا! تعالوا انظروا! الحوت يبتلع القمر، أيها الناس!»
الظاهر أنّ السيد فرنجية قد سمع أكثر من اللازم من خطاب رصيفه السيد توفيق عواد وأقلّ من اللازم من خطاب رصيفه السيد شارل عمون. فاضطر السيد عواد إلى تصحيح بعض ما سمعه السيد فرنجية الذي تابع الكلام وأغفل عبارة رصيفه عمون «الكلمة الكبيرة الضجاجة»، ونادى أين الحكومة للمؤسسات المنحلّة التي تعمل بإرادات أجنبية على هدم الكيان اللبناني؟
الأستاذ عمون يريد أن يضع حداً لهذه «الكلمة الكبيرة الضجاجة» الحكومة في شؤون الشعب أما الأستاذ فرنجية فيرى فيها حكومة الهند ومستعمرات أفريقية. ومع أنه ليس من «حزب الحكومة» فهو على كل حال يناديها ويستنجد بها على «المؤسسات المنحلّة». إنه لا يتمكن من مهاجمة هذه «المؤسسات المنحلّة» بنفسه ولذلك يطلب من الحكومة مهاجمتها. وفي حين ينحى السيد فرنجية على الحكومة باللائمة لاستنجادها بالجيش الفرنسي للتدخل في شؤون البلاد الداخلية، يستنجد هو بالحكومة للتدخل في شؤون الشعب ومعتقداته ومؤسساته وهي نفسها الحكومة التي يهاجمها «لحل الكتائب» ويطلب إسقاطها.
وبعد، فما هي هذه «المؤسسات المنحلّة»؟ ألعلها الحزب السوري القومي؟ إنّ استعمال السيد فرنجية عبارة زعيم الحزب القومي «إرادات أجنبية» يقودنا إلى ترجيح هذا الاحتمال.
إذن يكون السيد حميد فرنجية قد توجه بالحملة على الحزب القومي الذي كان هو نفسه في عداد أول المدافعين عنه في الاعتقال الأول مظهراً بطلان وفساد ادعاء عبيد الأجانب الذين قاموا يحاربون النهضة القومية، لأنهم يريدون إبقاء النير في أعناقهم، أنّ الحزب القومي نشأ بعامل أجنبي.
والسيد حميد فرنجية نفسه حقَّق في دعوى الحزب القومي وفي كل ما قيل معه أو عليه ووقف في المحكمة المختلطة يقول للقضاء والرأي العام «إذا كنتم تريدون أن تعرفوا ما هي علاقة الحزب السوري القومي بالدول الأجنبية فخذوا الحقيقة من خطاب سعاده الذي أمامكم وهو الخطاب الذي ألقاه قبل الاعتقال بنحو نصف سنة.
أنظروا ماذا يقول سعاده: إنه يقول: قد حررنا أنفسنا في الحزب القومي من كل إرادة أجنبية»! وهو أجرأ وأصرح قول سياسي قومي قيل تحت سماء هذا الوطن، ولفت نظر المحكمة والرأي العام إلى فقرات من ذلك الخطاب التاريخي التي يحمل فيها سعاده على الدعاوات الأجنبية أو «الإرادات الأجنبية» على إطلاقها، وهي هذه الإرادات التي كانت فيما مضى تقرر مصير وطننا أما بعد نشوء الحزب القومي «فقد أصبحت إرادتنا هي التي تقرر مصيرنا» كما يقول سعاده.
قلنا ونقول إننا لمسنا في كثير من المواقف تقدير الحزب القومي لجريدة لوجور واحترامه للأشخاص الذين أشرفوا على تحريرها في ظروف كان الرأي العام يحتاج فيها إلى كلمة حق عن الحزب القومي المضطهد، وإننا نتقدم إلى هذا الحزب بالتعزية لهذا الإسفاف من قبل الأستاذ فرنجية، أحد المشرفين على تحرير لوجور، في المجلس النيابي. ففي هذا المجلس فقد الأستاذ فرنجية كل رصانة في موضوع قومي دقيق ولم يعد يرى سوى الحملة على الحكومة وعلى «الأحزاب» التي تمكنت من أن تصل إلى موقف سلمي فيما بينها وبين الحكومة، لأنه لا علاقة لها بهذا النزاع الداخلي العنيف على الإدارة في لبنان.
وإذا لم يكن السيد فرنجية يقصد الحزب القومي فلماذا يترك عبارته مبهمة. فإن رجال الدين أنفسهم قد خرجوا إلى الصراحة وقاموا يشيرون إلى الحزب القومي في حملاتهم. وكم كان أجدر بالسيد فرنجية أن يكون صريحاً في المجلس النيابي. وكم كان ألْيق بالسيد فرنجية ألا يضج حول ابتلاع الحوت القمر ليصرف أبصار الناس عن رؤية الثعبان الآخذ بخناقه وخناق زملائه.
أليست هي الطواعية «للإرادات» التي تحمل الأستاذ عمون على مدح «تدخُّل المفوض السامي» وتشجيع التدخل الذي «لم يحدث إلا ليعيد لنا حرية الكلام وحرية الكتابة»، مع العلم أنّ السيد عمون يقول في فقرة أخرى من خطابه، مخاطباً وزير الداخلية «قيل لنا إنك قضيت بحلّ الكتائب ضمن ملاك الحكومة اللبنانية مرغماً؟»
أليست هي الطواعية «للإرادات» التي حملت السيد خليل أبي جوده زميل السيدين عمون وفرنجية على توجيه هذه الفاتحة في بدء حملته «أرى من الواجب قبل البدء بالكلام أن أوجه من على منبر هذه الندوة عزاء حاراً للجيش الفرنسي الباسل الذي فقد أحد أفراده الشجعان في سبيل المحافظة على الأمن.» مع العلم بأن الجنود السنغاليين هم من جنود المستعمرات الأفريقية لا من الجنود الفرنسيين؟
أليست هي الطواعية «للإرادات» أن يقول السيد فرنجية هذا القول الخطير: «إنّ الجيش الفرنسي حافظ وسيحافظ على كيان لبنان.» فيخاطبنا كأحد الفرنسيين المسؤولين أو أن يقول «إنّ الجيش الفرنسي موجود للمحافظة على كيان لبنان.» كما ورد في رواية أخرى بخطابه، بدلاً من أن يقول: إنّ الجيش الفرنسي موجود لتنفيذ الانتداب وسياسة فرنسة في الشرق الأدنى؟
إنّ قول الأستاذ فرنجية إنّ الجيش الفرنسي «حافظ وسيحافظ» يعاد إلى تصريح للمفوض السامي الفرنسي نفسه!
إنه يتكلم كفرنسي لا كلبناني وبعد ذلك يتكلم السيد فرنجية عن «الإرادات الأجنبية»!
قيل لنا إنّ في عداد الأسباب التي لجمت أفواه ممثلي الشعب اللبناني في المجلس أو بعض ممثليه عن الاستفسار عن مصير القوميين وعن الانتصار للمعتقدات الحرة، ولمبدأ أنّ اللبنانيين يجب أن يكونوا أحراراً في معتقداتهم واجتماعاتهم، كان أنّ «الإرادات» قد لا ترضى عن مثل هذا الموقف!
إنّ الأصوات المزمجرة تتحول إلى أنغام موسيقية ملائكية والوجوه المكشرة عن أنياب الغضب تتبدل وتصبح منبسطة بشوشة حين يقترب أصحابها من جانب «الإرادات» فتزول الغضبة للكرامة وتحلّ محلها أصوات ملائكية هاتفة: أوصنّا في الأعالي!