ينحى الأستاذ شارل عمون على رجال الحكومة، باللائمة، لأن الكلمة الكبيرة الضجاجة «الحكومة» ملء أشداقهم وقلوبهم.
بيد أنّ هذه الكلمة «الكبيرة الضجاجة» الحكومة، كانت في ظروف كثيرة سابقة ملء أشداق وقلوب رجال كثيرين غير رجال الحكومة - ملء أشداق رجال «الوحدة اللبنانية» و«الكتائب اللبنانية» و«الجبهة القومية اللبنانية». فالحكومة كانت المبادىء التي قامت عليها هذه «الأحزاب» التي وضعت في أفواه رجالها هذه الكلمة «لبنان» فاستعملوها ولم يفهموها وأساؤوا استعمالها، فقاموا يحاربون كل لبناني ذي عقيدة تختلف عن العقيدة القائم وراءها شبح الإكليريكية والتعصب الديني. وباسم الحكومة أخذوا يظهرون أمام الناس بمظهر من لهم حول وطول يضجون ويصخبون ويجمعون أيديهم ويهددون ويسممون الأفكار بالتعاليم العتيقة المتهرئة القائلة: إنه لا يمكن أن يتفق المسيحيون والمسلمون ولذلك يجب محاربة كل حزب لا يقول بعقيدة إبقاء لبنان خاملاً منفصلاً منعزلاً وصريع التصادم الديني المسيحي الإسلامي فلا يأخذ بالقومية الصحيحة، ولا ينهض إلى المجد والعمران.
يفيدنا موقف الأستاذ عمون وموقف الأستاذ حميد فرنجية في المجلس، أنّ الحرارة التي كانت تظهر بها «الكتائب اللبنانية» على المرسح هي أقل بكثير من الحرارة السائدة في نواحي «الكواليس»، وأنّ التعابير الكبيرة الضجاجة التي كان يستعملها الرئيس الأعلى لـ «الكتائب اللبنانية» لا تمثل سوى المظهر الخارجي لـ «الكتائب اللبنانية»، في حين تتفشى في داخلية هذه «الجمعية الوطنية الرياضية» بعض «الميول السياسية» وتحاول أن تسيطر عليها بعض الأغراض السياسية الهزيلة باعتراف السيد عمون نفسه حين يقول «وفي الواقع فإن الحزب الحكومي كالحزب المعارض شاء أن يستأثر بالكتائب.»
وبعد هذا الجلاء الذي يرينا «الكتائب اللبنانية» غارقة في بحر السياسات التي لا همّ لها سوى الحكم، يقول الأستاذ عمون بشجاعة في غير محلها إنّ «الكتائب اللبنانية» جمعية وطنية رياضية لأن قانونها الأساسي ينص على ذلك. ثم يزيد الأستاذ عمون بشجاعة في غير محلها إنّ «الكتائب» هي «حركة ترمي إلى اتقاء المخاطر الخارجية.» إذن لا تكون شعوذة السيد بيار جميّل في مظاهره الكلامية سوى صورة قبيحة لهذا الفن البهلواني العالي في الكلام، الذي يعطينا خطاب السيد عمون أفضل مثال له.
إذن، فـ «الكتائب» جمعية وطنية رياضية ولكنها حركة ترمي إلى اتقاء المخاطر الخارجية ولها ميول سياسية. وعليك أنت أيها القارىء العزيز أن تصرف كل وقتك، إذا حلا لك ذلك، في حل هذه المعميات والخروج منها بصورة واضحة لما هي هذه المؤسسة العجيبة الغريبة التي أطلق عليها اسم «الكتائب اللبنانية».
هل رأيت يا عزيزي المطالع مشعوذاً وقف على المرسح وقال لك أعطني ليرة لبنانية سورية (بقرار من أمين سر الدولة) فأعطيته ليرة، فوضعها في منديل أو قصعة ثم نثرها أمامك في الفضاء دوائر صغيرة من الورق الملون بالأخضر والأزرق والأحمر، ثم جمع هذه الوريقات من الهواء وأعادها إلى القصعة أو المنديل، فإذا ليرتك تعود فيردّها إليك سليمة لا ترفضها أنت ولا يرفضها المصرف؟
إذا كنت قد رأيت شيئاً من ذلك فأنت، ولا شك، قد رأيت عملية مصغرة عما هي «الكتائب اللبنانية»: إنها شعوذة على المرسح، فهي طوراً جمعية رياضية، ثم لا تلبث أن تراها حركة ترمي إلى اتقاء المخاطر الخارجية، ثم تعود فتراها جمعية ذات ميول سياسية. وبين جميع هذه المظاهر لا يمكنك أن تعرف ما هي «الكتائب اللبنانية» حتى يفرغ المشعوذ من شعوذته، حينئذٍ ترى «الكتائب اللبنانية» في حقيقتها فإذا هي ورقة لبنانية فقط أخرجها مصرف رسمي ثم أعلن أنّ الورقة عدد 3 التي هي من إصدار سنة 1936 تعتبر ملغاة ابتداء من تاريخ نوفمبر/تشرين الثاني سنة 1937 . فإذا كنت تبقي هذه الورقة في جيبك بعد التاريخ المعطى فأنت خسران.
إنّ الأستاذ عمون حين يقول إنّ الحكومة شجعت «الكتائب» بكل وسيلة ممكنة لا يفيدنا عن سبب هذا التشجيع: هل هو الرياضة التي أحبت الحكومة تشجيعها لبناء الأبدان الجميلة وإيجاد جيل صحي جميل، أم هو لاتقاء المخاطر الخارجية، أم هو لميول «الكتائب» السياسية؟
نحن لا ندري على أية وجهة من وجهات «الكتائب» المتباينة يريد أن يصرّ الأستاذ عمون، على الرياضة أم على اتقاء المخاطر الخارجية أم على الميول السياسية.
فإذا أصرّ على وجهة الرياضة، فإننا نأسف لأن «الكتائب» قد قبّحت الرياضة وحقّرت الروح الرياضية. فالعالم لم يرَ حفلة واحدة من حفلاتها الرياضية ولم يرَ تعليماً واحداً من تعاليمها الرياضية، وإذا أصرّ على اتقاء المخاطر الخارجية، فإننا نسأل كيف نشأت «الكتائب اللبنانية» وما هي الأخطار «الخارجية» التي نشأت بقصد اتقائها؟ وهل تكون هذه الأخطار «الخارجية» هي الأخطار عينها التي يشير إليها زميله السيد توفيق عواد، والتي يلمّح إليها من بعيد زميله الأستاذ حميد فرنجية؟ وإذا أصرّ على الميول السياسية، فقد وضع أمامنا أحجية معقدة.
سنعود إلى بحث «المخاطر الخارجية» حين نبحث «الظروف التي قضت أن نكون نحن في جهة وإخواننا المسلمون في جهة ثانية» التي يشير إليها أمير البيان اللبناني السيد توفيق لطف الله عواد.
أما «الكتائب» فقد رأيناها صفرت من الرياضة ولم يبقَ لها سوى صفة الميول السياسية التي حاول ذوو المصلحة في الحكم زرعها في «الكتائب» وإفساد روح الشبيبة بجرّها إلى معارك التنازع على الحكم واستعمال الأساليب الفاسدة القاضية على الروح القومية المعلية شأن المنازعات الداخلية.
الحقيقة أنّ حل أحزاب «الوحدة اللبنانية والكتائب اللبنانية والجبهة القومية اللبنانية والنجادة الإسلامية» يقصر كثيراً عن تبرير خطورة إيجاد هذه المؤسسات الدينية، التي مزقت الشبيبة تمزيقاً، وأقامت منها قوة أعداء للوحدة القومية، وسممت أفكارها وميولها، وجعلتها وسائل يستعملها ذوو الأغراض والمنافع السياسية وغيرها ليصلوا بها إلى غاياتهم ومآربهم، فلا يجد الشباب بعد حين إلا أنهم كانوا مطايا لأصحاب المصلحة في الحكم يستخدمونهم في أغراضهم ويتركونهم لمصيرهم القومي السيّىء.
إنّ القضية الخطيرة كانت في إيجاد هذه الأحزاب، لا في حل هذه الأحزاب، لأنه منذ أوجدت هذه الأحزاب ازداد التعصب الديني الذميم وكثرت الاختلافات والخصومات الداخلية. وحلّت المآرب الشخصية والدينية محل الغايات القومية حتى أصبحنا في الخامس عشر من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي سنة 1936 وإذا نحن على أبواب هياج ديني ينذر بشر مستطير. ولولا العمل العظيم الذي قام به الحزب السوري القومي في ذلك الحين لرأينا رجال هذه الأحزاب تحمل الشعب اللبناني إلى غمرة مذابح واقتتال، من كان يعرف نتائجها.