الحقيقة أنه لم يصب مجلس من مجالس الأمم القديمة والحديثة بمثل ما أصيب به المجلس اللبناني في جلسة الأحزاب المصطنعة. فقد حشد كلُّ من جاء المجلس نائباً، ليثبت وجوده، كل قواه العاقلة وغير العاقلة ليوهم الغوغاء أنه قد أصبح ذا شأن خطير. يدلّك على ذلك أنه يلقي خطاباً طويلاً في المجلس النيابي، وأنه قد بلغ من الخطورة حداً يتمكن عنده من «مهاجمة» الحكومة والحملة عليها، أو أنه قد بلغ من المكانة بحيث يصدّ عن الحكومة «الهجمات» بخطاب بارد من العبارات والحجج العادية التي لا يخلو منها مقهى أو مجتمع عائلي. ويلاحظ المطالع أنه بقدر ما كانت خطابات «المهاجمين» حامية من حرارة ما يلتهب في صدورهم من غيرة في محلها، أو في غير محلها، أو من ضرام غاية وجدت في حوادث الحادي والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي الواسطة المبررة لها، كذلك كانت خطابات المدافعين باردة بتأييد حالة لا يرون لهم واسطة تبرر الغاية منها.
كذلك كان خطاب النائب نجيب نكد الذي كان له حظ اتخاذ الموقف الخطابي الذي تركه له زميله معجز البلغاء وخاتمة الفصحاء فريد عصره ونسيج وحده السيد توفيق لطف الله عواد. فإنه خبط في خطابه على ضلال وعلى هدى فلم يهدِ الضالين ولم يزد في هداية المهتدين، بل على العكس قام يدافع فجلب الحق على وجهة نظره، وكان بليغاً جداً في ضعفه، فأبرز للناس صورة كانوا في حاجة إليها ليهاجموا الحكومة والائتلاف اللذين تصدى للدفاع عنهما. وإليك هذا المثال البديع من بلاغته الفائقة الحدود المعتادة: «لقد انتقدوا على المجلس بالأمس اختلاف أعضائه فقالوا: اختلفوا على الكراسي، ثم عاد فتم الائتلاف فقالوا: اتفقوا على تقسيم الوظائف والغنائم، فبأي الرأيين يجب أن نأخذ؟»
بالرأيين كليهما يا حضرة النائب لأنهما يتجانسان كل التجانس ويتفقان كل الاتفاق ولا يبقيان حاجة في نفس يعقوب!
رأي مبلبل في المجلس يشكو من بلبلة في أوساط الشعب. ألا يرى الكلي الاحترام السيد نجيب نكد أنّ الأخذ بأحد الرأيين لا يوجب نفي الآخر؟
ألا يرى أنّ في سبك عبارته لإعطاء الصورة المضمرة في عقله الباطن ضعفاً لو غيّر سبك العبارة لما وضع السامع العادي أمام هذه الأحجية المستورة بقشة؟
ألا يرى أنّ القول «اختلفوا على الكراسي ثم اتفقوا على اقتسام الوظائف والغنائم» قول بسيط هين يقبله كل ذي عقل سليم؟ فمن أين جاءه الوحي بهذا الاجتهاد الذي هو أغرب ما سمع في باب الاجتهادات فجعل جزء العبارة ينقض الجزء الآخر مع أنهما جزآن يكمل أحدهما الآخر؟
وكم هو عظيم الفرق بين عبارته وتساؤله وبين عبارته التالية «إنّ هذه المنظمات، من جهة أخرى، لا تساعد على إيجاد التضامن والوحدة بين مختلف العناصر لانتماء كل منها إلى عنصر خاص.»
على أنّ هذه الحقيقة البسيطة التي كان تمكن النائب نكد إعلانها من غير تكليف نفسه مشقة ابتكار أسلوب جديد في المعاني والبيان، وربط عبارات متباينة الصور في خطاب طويل جاء دون بلاغة الواقع بمراحل كثيرة، هذه العبارة القوية ببساطتها لم تكفِ لحجب أنوار البلاغة المتدفقة من خطاب الأستاذ شارل عمون، الذي قالت النهضة في التعليق على مقال له، إنه ماروني كبير.
إنّ الأستاذ عمون يرى الأخذ بالفن أجدر من الأخذ بالواقع فيقول بإيجاز أقرب إلى الإعجاز «إننا لا نريد أن نعطي هذه الحوادث أية صبغة طائفية.» ويكفي ألا يكون لهذه الحوادث أية صبغة طائفية ألا يريد الأستاذ عمون أن يعطيها أية صبغة طائفية.
ولعل الأستاذ شارل عمون أراد أن يجعل من هذه العبارة مخرجاً من مأزق الطائفية الذي دخلت فيه الأحزاب التي وقف يدافع عنها خصوصاً «الكتائب اللبنانية».
يحمل الأستاذ عمون على الحكومة لأنها لم تستشر المجلس «حتى في شأن قضية هي من الخطورة بمكان». أما هذه القضية الخطيرة جداً التي كان على الحكومة أن تستشير المجلس بشأنها فهي قضية حل الأحزاب التي أوجدت بإيعاز من فوق وقامت الحكومة على تشجيعها ومدّها بأسباب القوة المادية والمعنوية من غير أن تكون استشارت المجلس في هذا الأمر الخطير.
إنّ الأستاذ عمون يعدّ حلّ الجمعيات أشباه «الكتائب» و«الوحدة» عملاً من الخطورة بمكان ولا يحسب إيجاد هذه الجمعيات والترخيص لها وتشجيعها عملاً من الخطورة بمكان.
السيد عواد يعترف والسيد عمون يعترف وهنالك شبه إجماع على الاعتراف بأن الحكومة هي التي جعلت هذه الأحزاب المصطنعة ما هي من غير أخذ رأي المجلس، فإذا كانت الحكومة أعطت بلا لوم ولا تثريب فلماذا اللوم والتثريب على الحكومة حين أخذت ما أعطت؟
ما أبدع الواسطة مبرراً للغاية.
الأستاذ عمون رجل حقوق ويعالج المسائل بالأساليب الحقوقية فيتقيّد بالنص ويبحث في الأساس والشكل ويهمّه من كل ذلك ترابط أجزاء الدعوى بشكل يخرج منه إلى نتيجة وضعها نصب عينيه. وهذه النتيجة التي يرمي إليها الأستاذ عمون هي تبرير «الكتائب اللبنانية»، وتخطئة الحكومة في حلها هذه المكتتبات التي كانت الحكومة تعمل فيما مضى على تكتيبها لأسباب يجهلها أو يجهل بعضها أو يتجاهلها الأستاذ عمون.
ولا يريد السيد عمون، وإرادته هي القول الفصل، أن يجد فرقاً بين حكومة وحكومة وظروف وظروف وأسباب وأسباب فهو يرمي الحكومة «إنّ أشداقكم وقلوبكم مليئة بهذه الكلمة الكبيرة الضجاجة: الحكومة»، ولكنه هو نفسه يقول في موضع سابق من خطابه المعدّ بعد درس القضية العظيمة الخطورة بكل دقة «إنّ موقف الحكومة من الكتائب من وقت ما أنشئت لا يترك مجالاً للشك... فهي لم تكتفِ بألا تضطهد الكتائب فحسب، بل بالعكس شجعتها رسمياً بجميع الوسائل الممكنة.» ومع ذلك لا يرى الأستاذ عمون، بل لا يريد أن يرى أنّ الحكومة التي شجعت «الكتائب» رسمياً هي غير الحكومة التي حلّت «الكتائب» وهو كذلك لا يريد أن يرى مجالاً للشك في أنّ فهم الحكومة «الكتائب» كان يختلف عن فهمه أو فهمهم إياها.
ومن أعظم آيات البلاغة في الرؤية وعدم الرؤية، أنّ السيد عمون يرى في تشجيع الحكومة «للكتائب» رسمياً دليلاً قاطعاً على أنّ الأسباب التي دعت الحكومة في نوفمبر/تشرين الثاني سنة 1937 إلى حل المنظمات «اللبنانية» هي الأسباب عينها التي تدعوه هو إلى الدفاع عن «الكتائب»، ولا يرى في موقف الحكومة من «الكتائب» في نوفمبر/تشرين الثاني سنة 1936 دليلاً على أنّ الاسباب التي دعتها إلى ذلك الموقف هي الأسباب عينها التي دعتها إلى حل الأحزاب المخترعة في نوفمبر/تشرين الثاني 1937 على افتراض أنّ الحكومة التي أعطت هي عينها الحكومة التي أخذت. ومع ذلك لا يريد الأستاذ عمون أن يعطينا سبباً كافياً لحصر دفاعه في «الكتائب» في حين أنّ موقف الحكومة منها هو موقفها من أشباهها.يقول الأستاذ عمون إنّ «حركة الكتائب لا يمكن في أي ظرف من الظروف أن تلتبس بأية حركة أدت ببعض الأحزاب في البلدان الأخرى إلى اقتناص الحكم». ونحن نقرُّ الأستاذ عمون على هذا القول. فإنك إذا جبت العالم المتمدن كله لا تجد منظمة واحدة يمكن أن تتلبس أغراض «الكتائب اللبنانية» - إذا كان للكتائب أغراض - بأغراضها أو أن تشابهها في الأسباب «الداعية إلى وجودها ولا في النتائج التي تؤدي إليها».
ويتابع السيد عمون كلامه فيقول «إذا ما عدنا إلى قانون الكتائب الأساسي رأينا أنها جمعية وطنية رياضية.» فإذا كان هدف «الكتائب» هو بالحقيقة الرياضة فقط، فقد لا تدعو الحاجة إلى مبرر آخر لحل هذه المنظمة المخترعة التي حقرت الرياضة وحرّفتها عن جادتها.
ولا يرى، أو لا يريد أن يرى، الأستاذ النائب عمون أي تناقض بين دفاعه عن «الكتائب» من حيث هي «جمعية وطنية رياضية» وبين تعجّبه من مؤاخذة الحكومة «الكتائب» على «ميولها السياسية». ولعل العمى عن هذا التناقض ناتج عن إحلال السياسة محل القضاء أو إحلال القضاء محل السياسة!