نشرت النهضة في عددها الصادر في العاشر من الجاري ملخص خطاب رئيس الجمهورية التركية في افتتاح مجلس الأمة الكبير في أنقرة.
وقد عرض رئيس الجمهورية التركية في خطابه المشار إليه لمسألة الإسكندرونة وعلاقات تركية بفرنسة، فعدّ الإسكندرونة «من أكبر قضايا تركية القومية» وهذه العبارة تثبت ما قلناه مراراً في هذا الباب عن مطامع تركية في سورية وشرق البحر السوري على العموم.
وأظهر رئيس الجمهورية التركية اغتباطه بأن نظام الإسكندرونة الجديد سيوضع موضع التنفيذ في القريب العاجل. وقال إنّ تنفيذ هذا النظام سيتم في «ظل الصداقة المتينة» التي تربط تركية بفرنسة. وأعلن ثقته بأن «قضية الإسكندرونة السائرة في الطريق المستقيم ستكون خير مقياس لهذه الصداقة.»
يهمّنا في الدرجة الأولى أن نوضح الفرق العظيم بين العقلية السياسية المسيطرة في تركية والعقلية السياسية المسيطرة في سورية. ففي حين تنظر العقلية التركية الجديدة في توسيع نطاق النفوذ التركي ومد المصالح التركية، تنظر العقلية السورية بنظارات الأساليب التركية العتيقة. وفي حين يعدّ رئيس الجمهورية التركية قضية الإسكندرونة في صدر القضايا القومية، نرى رجال حكومة دمشق ينظرون إلى خسارة الإسكندرونة ببلادة مدهشة.
أما حكومة بيروت فإنها تعدّ مسألة الإسكندرونة وسلامة حدود الشام مسألة خارجية لا علاقة للبنان بها، حتى ولو كان من ورائها تهديد لبنان نفسه، إذ تستطيع الجيوش التركية الزاحفة من لواء الإسكندرونة أن تبلغ حدود الجبل في أقلّ من أربعة أيام إذ لا حدود ولا تحصينات تصدها أمام هضاب الإسكندرونة.
يحاول رئيس الجمهورية التركية أن يكون سياسياً في خطابه. فهو يتكلم كثيراً وبحرارة نادرة عن «الصداقة التركية - الفرنسية». والظروف السياسية توجِدُ أسباباً كثيرة لهذه الحرارة التي تكاد تفوق حرارة المعارك التي دارت بين جيوش النهضة التركية الحديثة وجيوش فرنسة في الشمال الأقصى من سورية.
على أنّ لهجة الرئيس التركي لا تخلو من تحفّظٍ مع هذه الحرارة. فهو يجعل «قضية الإسكندرونة السائرة في الطريق المستقيمة» المقياس المفضل لهذه الصداقة.
ولسنا ندري إذا كان هذا المقياس هو عينه الذي يستعمله حلفاؤنا الفرنسيون لقياس الصداقة الفرنسية - التركية. فمن المحتمل أن يكون لفرنسة مقياس آخر هو فوائد الصداقة التركية في البحر المتوسط في هذه الظروف الحرجة.
فإذا كانت هذه هي وجهة النظر الفرنسية فلا شك أنّ المقياس التركي هو الأصح.. وتكون الصداقة التركية - الفرنسية لخير تركية على حساب النفوذ الفرنسي، إذ بين القوميتين السورية والتركية لا يشك بصير في أنّ مصلحة فرنسة كائنة في القومية السورية لا في القومية [التركية]، لأن الصداقة السورية لا تكون مبنية على مجرّد ظروف سياسية كما هو الحال في الصداقة التركية، خصوصاً إذا كانت هذه الصداقة مع النهضة السورية القومية الجديدة.
لا ندري إلى أي حد تريد فرنسة أن تعتمد على صداقة تركية. ولكننا ندري أنّ هذه الصداقة تؤسس على إرضاء تركية بمد نفوذها على أرض سورية. وهي صداقة رابحة لتركية فهي توسع أملاكها في الشرق الأدنى وتسهل لها سياسة التوسع والاقتراب من آبار البترول.
وبعد فما هي مصلحة فرنسة الحقيقية من تشجيـع السياسة التركيـة شـرقي البحر السـوري؟
إنّ مصالح تركية لا يمكن أن تكون متفقة ومصالح فرنسة. فهي تقوم دائماً على تقليل مصالح فرنسة في الشرق الأدنى لكي يخلو الجو لتركية لتنفّذ سياسة التوسع التي وضعت قواعدها وابتدأت السير عليها.
أما مسألـة ظروف البحر المتوسط السياسيـة فلا توجِـدُ أساسـاً ثابتاً لتعاون تركي - فرنسي مستمر. فصحيح أنّ تركية لا تريد أن ترى نفوذ إيطالية يمتد إلى شرق البحر السوري ولكنها، في الوقت نفسه، لا ترغب في رؤية نفوذ أية دولة أخرى يمتد على هذا الجانب.
وإذا تمكن الكونت شيانو من إعطاء ضمانات كافية للسياسة التركية أو من إيجاد تفاهم بين إيطالية وتركية، فلا يبقى مجال لتعاكس المصالح بين تركية وإيطالية ولا يعود هنالك فائدة من إيجاد جبهة فرنسية - تركية في البحر السوري.
إنّ صداقة تركية أقرب إلى إيطالية منها إلى فرنسة، فإذا لم تتمكن فرنسة من إيجاد ثقل موازن من هذه الجهة فالصداقة التركية - الفرنسية صداقة خاسرة لفرنسة على طول الخط.