يقوم أنطون سعاده بأعظم تجربة تعرضت لها الأمة منذ قرون عديدة ألا وهي إيقاظ الوجدان القومي وتأسيس الأخلاق القومية ورفع مستوى الأمة إلى مرتبة الأمم الحيّة.
الحقيقة أنّ تأسيس الحزب السوري القومي كان حادثاً رائعاً وتطوراً خطيراً، والذين استقبلوا خبر الحزب استقبالهم أخبار الأحزاب المحلية العادية لم يلبثوا أن وقفوا مشدوهين تجاه ما تكشّف عنه الحزب في المحاكمة الأولى من الاتجاه القومي الجديد الذي برز بوضوح في دفاع سعاده. ومنذ ظهر هذا الدفاع أدرك ذوو المدارك الصحيحة أنّ نهضة قومية صحيحة آخذة في الانبثاق من صميم هذا الحزب وأنّ أمر الحزب السوري القومي ليس أمراً عادياً.
أما نحن فقد قدّرنا خطورة الأمر والعبء الكبير الذي تقدّم سعاده لحمله، فإن الحزب السوري القومي يعني تغيير النظرة إلى الحياة وتغيير الأساس النفسي الخلقي القائم عليه بناء اجتماعي متفسخ متزعزع. وقد قدّرنا الصعوبة العملية التي سيتعرض لها سعاده في بلاد لم يعتد أهلها الشعور بالحاجة القومية، ولم يتربوا على حب الوطن والمجتمع، فهم مسيّرون أبداً على خطة تكييف النفس والإرادة لمقتضيات الأثرة الفردية. كل شيء في هذا المجتمع مسخر لنفعية الفرد، والحيلة الفردية في تسخير الأوضاع والأشكال والأسس بعينها لخدمة المنفعة الفردية تعدّ، وفاقاً للنظرة القديمة، مهارة شخصية باهرة.
جاء سعاده يقول بتغيير هذا الأساس وإبدال هذه النظرية اللاقومية اللاوجدانية، وبتأسيس أخلاق قومية ثابتة توجد قاعدة ثابتة لتلاؤم المجتمع وتجانس أفكاره وأعماله، وبإحلال النظرة القومية محل النظرة الفردية وبإقامة مبدأ التساند العام النزيه.
هذا أساس النهضة القومية التي جاء بها سعاده، وهنا سر التجربة الخطرة التي يقوم [بها] لتحويل هذا الشعب المائع المتباين الاتجاهات والأغراض والمنافع إلى كائن اجتماعي حي، ومجتمع متجانس في العقلية والأساليب، وأمة متحدة في الإرادة الواحدة المستمدة من المصلحة الواحدة. وهي تجربة لو وُضعت على المجتمع السوري دفعة واحدة لذابت في أجزائه المتنافرة وتلاشت، لأن الفساد الذي توارثته الأجيال السورية من عصر الخمول والضلال عظيم قتّال. ولذلك رأينا سعاده يتجنب الكبار ويخلو إلى الصغار يحدثهم ويبني في نفوسهم البناء القومي ويضع فيها أسس الأخلاق القومية، فينتج من ذلك هذا التضامن البديع الذي ظهر به الحزب السوري القومي.
ولكن عوامل السياسة لم تترك سعاده يستمر في عمله الإنشائي؛ فهي قد أقصَتْهُ عن الحزب بين سجن وملاحقة وهدم وترميم نحو سنة ونصف تعرّض فيها الحزب لمؤثرات البيئة الفاسدة. فإذا بالأثرة تعود فيذرّ قرنها فيلجأ سعاده إلى الطريقة الوحيدة الناجعة وهي: الاستئصال في الأحوال المستعصية، والحمية في الأحوال القابلة الشفاء.
والأثرة لا تظهر دائماً بمظهر محبة الذات، بل يكثر أن تتجلبب بجلباب الفضيلة والغيرة على الأنظمة وعلى القضية وعلى المصلحة العامة.
إنّ مجتمعنا قد ورث حالة فُقدت منها المثل العليا الخلقية والنفسية، وفي هذه الحالة تجد الدول الأجنبية الطامعة مفاتيح الأبواب التي تدخل منها إلى مخازن الأمة ومقدّراتها، وسعاده قد أدرك خطورة الحالة فغرس تعاليمه في الأنفس الجديدة النزيهة التي هي أمل الأمة الوحيد.
ولكنه سيكون دائماً في حرب مع البيئة، ونصره يتوقف على صلابة عود معاونيه وتمسكهم بالأخلاق القومية الجديدة: أخلاق النهضة - أخلاق الثقة الراسخة المتبادلة - أخلاق الإيمان والمثابرة.
ما أخلاق الشك والتردد فهي أخلاق فساد البيئة - أخلاق اللاقوميين.
وما رجاء الأمة إلا بالأخلاق القومية.