«إنّ حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين. وستبذل جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، مع البيان الجلي بأن لا يُفعل شيء يضر الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين الآن، ولا الحقوق أو المركز السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى.»
هذا هو الأساس الحقوقي الإنترناسيوني للحركة اليهودية الرامية إلى الاستيلاء على فلسطين في الدرجة الأولى، وعلى سورية الجغرافية كلها تدريجاً.
أما الوجه الحقوقي في هذا التصريح فالصواب فيه ما أعلنه زعيم الحزب السوري القومي في مذكرته المرفوعة إلى الجمعية الأممية وردّ به على اقتراحات البعثة الملكية البريطانية القائلة بتقسيم فلسطين والاعتراف بدولة يهودية فيها.
إنّ هذا التصريح هو وعد يقيد بريطانية تجاه الصهيونيين، ولكنه يتعلق بمصير شعب ورد في المادة الثانية والعشرين من ميثاق الجمعية الأممية بشأنه أنه أحد الشعوب المستعيدة سيادتها من السلطنة العثمانية. وإيجاد توافق بينه وبين صك الانتداب الذي يجب أن يكون متفقاً في الأساس مع البند المذكور من ميثاق الجمعية الأممية، هو من أغرب الشعوذات السياسية في التاريخ الحديث.
ولقد استطاعت المشيئة ذات المصلحة أن تموّه على صيانة الحقوق بواسطة هذه العبارة «مع البيان الجلي بألا يُفعل شيء يضر الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين الآن» وواضح من هذه العبارة أنّ تنفيذ نقل جنوب سورية إلى اليهود يجب أن يجري بصورة لا تعطل شيئاً من عقود الزواج التي تجري بين السوريين، ولا تفقدهم الاشتراك في الشؤون العمومية الجارية موقتاً، ريثما يتم الاستملاك الكافي للاعتراف بالدولة اليهودية القائمة على أساس «الوطن القومي اليهودي».
الوعد وعد سياسي لا حقوقي، فليس لبريطانية أية حقوق في فلسطين تجيز لها أن تهب شعباً غريباً حقوقاً قومية فيها. ولكن بريطانية استندت في إجازة هذا الوعد المشؤوم على المخابرات والمفاوضات السياسية التي كانت دائرة بينها وبين حليفتيها فرنسة وروسية، بصدد اقتسام تركة «الرجل المريض» الذي يعنون به تركية.
وقد أدى هذا الوعد إلى إراقة دماء كثيرة حتى الآن. وهو سيكون سبباً في إراقة دماء كثيرة جديدة إذا ظلت بريطانية مصممة على تنفيذه، ففي سورية أمة قد تنبهت لوجودها وحقوقها لا يسهل أن تتنازل عن هذه الحقوق بناءً على وعد قطعته دولة أجنبية لشعب غريب.
وإلى جانب الأمة السورية نجد أمم العالم العربي الأخرى التي تتطير من نشوء دولة يهودية في جنوب سورية تكون مزاحمة لها في الاقتصاد والنفوذ، فهي أيضاً لا توافق على نشوء هذه الدولة لأنها تهدد مصالحها.
لا مشاحة في أنّ هذا الوعد جلب للشرق الأدنى مشاكل كان في غنىً عنها. وبديهي أن يكون للسياسة البريطانية فوائد من اليهود واكتساب ولائهم. ولكن بريطانية قد أثارت بهذا العمل قضية خطرة على نفوذها، لأن أمم الشرق الأدنى ستفكر ملياً في العملية الجارية الآن في فلسطين، بقصد تجريد شعب من أرضه وإعطائه لشعب غريب لا حق له في هذه الأرض، ولا وجه لفهم وجوده عليها إلا بواسطة وعد بريطانية الذي يتهجم على حق شعب له وحده السيادة على الأرض التي تكوّن وطنه.
الدلائل الأخيرة تشير إلى أنّ بريطانية ماضية في تنفيذ وعدها ومعجلة في ذلك الآن لكي تصل إلى الاستقرار السياسي في شرق البحر المتوسط الذي يطمئنها على مركزها ويحفظ لها صداقة اليهود الضرورية في حالة حرب.
ولكـن المضـي في تنفيـذ هذا الوعـد سيخـلق قضيـة أخـرى، من يـدري ما تكون نتيجتهـا؟
وهذه القضية هي قضية نفوذ بريطانية في الشرق الأدنى.
فحتى الآن، استطاعت بريطانية أن تبسط نفوذها وتوجد حالة ملائمة لسياستها. ولكن كل ذلك قد أصبح معلقاً على مصير وعد بلفور.