لا يزال النزاع السياسي على التفوق في البحر السوري محتدماً. وبينما لجنة الحياد المنعقدة في لندن تبحث المسألة الإسبانية وتسوية قضية التوازن السياسي في غرب هذا البحر، نلاحظ أنّ الحالة في شرقه وجنوبه هي حركة القصد منها تدعيم الحالة الراهنة.
إنّ انتصارات القائد الإسباني القومي الأخيرة دلّت على صحة ما ذهب إليه كاتب النهضة السياسي في عدد سابق (ص 182 أعلاه) بشأن موقف الجبهة الإيطالية - الألمانية من لجنة الحياد. فبعد سقوط جيجون لم يبقَ في أيدي الحمر من المرافىء الإسبانية الشمالية سوى مرفأ واحد هو مرفأ «أفيلا»، وسقوطه بعد جيجون قد أصبح محتماً، وبذلك يصبح الهلال المحدق بمدريد تاماً ويسهل للقوميين حشد قواتهم حول مركز إسبانية للقيام بضربة قاضية. وهذا ما أصبح في حكم اليقين عند الحمر الذين أجروا اتفاقاً بين بلنسية وبرشلونة لنقل عاصمتهم من الأولى إلى الثانية في قطلونية. فالخطر على مدريد بعد الانتصارات الأخيرة صار مداهماً. وبلنسية منكشفة تجاه البليار.
وفي الجنوب الشرقي لا يكون موقف الحمر بهذه الدرجة من الحصانة لوجود قوات إيطالية موالية للقوميين في جزيرة ميوركة القائمة تجاه بلنسية. ولذلك فالكفة في الحرب الإسبانية قد أمست راجحة في جانب القوميين.
الحقيقة أنّ مسألة التوازن في غرب البحر السوري آخذة في الاقتراب من الموقف الفاصل. وحدوث هذا التبدل الخطير في الغرب يدعو بطبيعة الحال إلى إحداث ردّ فعل في الشرق. وردّ الفعل يجري الآن في ليبية وجنوب سورية ويمتد إلى البحر الأحمر إلى اليمن.
وبينما الدول المطالبة بنصيب أكبر في المواد الأولية والأسواق في العالم تبذل الجهود العظيمة للوصول إلى غايتها، تأخذ الدول المحافظة على الحالة الراهنة في بذل جهود جديدة لتثبيت مركزها بصورة حاسمة. وما مسألة فلسطين إلا مظهر من مظاهر الاتجاه السياسي الجديد.
والزحام بالغ أشده بين إيطالية وبريطانية. وقد وجدت إيطالية في وعد بلفور البريطاني منكشفاً ضد بريطانية في الأقطار الإسلامية، فقامت تتحدى لاستغلال العصبية الدينية الإسلامية وتبدي عطفاً على المسلمين وشعورهم وفي الوقت عينه يجري تشجيع كثير للنقمة على بريطانية وسياستها.
أما بريطانية فإنها بصمت قدمها في مناطق نفوذها ولم تتصدَّ لمسّ إحساسات المسلمين بشيء إلا في مسألة الوطن القومي اليهودي. ففي حين أنها وضعت مشروع إيجاد الدولة اليهودية de juive في جنوب سورية، أخذت تلوّح للسوريين في الجنوب بنوع من الاتحاد العربي يفقدهم وطنهم الأصلي ويلحقهم بإحدى الدول العربية الواقعة تحت نفوذها. ولذلك تساهلت في أمر تدخّل المملكة العربية [السعودية] والمملكة العراقية وإمارات بلاد العرب في قضية فلسطين وتمهيد صعابها.
لا تريد بريطانية أن تفقد مناصرة اليهود بما لهم من قوة مالية. وهي لذلك لن تتخلى عن وعدها لهم. وفي هذا الوقت الذي يتجهم فيه وجه السياسة وتتوتر العلاقات بين الدول تريد بريطانية أن تكون واثقة من تأييد اليهود.
وإذا كان العالم العربي يسخط الآن عليها بسبب الوطن القومي اليهودي فهي تقوم في بلاد العرب والعراق ومصر بسياسة تجعل لمصالح هذه الدول القومية الوزن الكافي لإبطال فعل السخط. فبريطانية لا تزال حامية مصر بعد الاستقلال وهي كذلك حليفة العراق والمملكة العربية [السعودية].
أما في فلسطين فسياستها ترمي إلى إقرار الحالة التي ترضي اليهود، فتوجد الدولة اليهودية وتؤمّن نفوذها ومركزها في شرق البحر السوري.