وضعت الحرب أوزارها فوقعت بلاد العرب والعراق وجنوب سورية تحت نفوذ السياسة البريطانية ووقع شمال سورية (قبل إعلان لبنان الكبير) تحت نفوذ السياسة الفرنسية حتى جبال طوروس؛ فما مضى وقت قصير حتى اضطرت فرنسة إلى سحب جيوشها من أقاصي الشمال تاركة كيليكية للسيطرة التركية.
أما بريطانية فقد تغلبت سياستها على ثورة العراق وتشنجات مصر ولم تخسر شبراً واحداً من الأرض الداخلة في منطقة نفوذها.
والمعاهدة الأخيرة بين فرنسة وتركية أفقدت فرنسة وسورية السيطرة على لواء الإسكندرونة فانكشفت الحدود الشمالية أمام الجيش التركي. فما هو هذا السر العجيب الذي يقود الموقف إلى هذه الحال الراهنة الغريبة؟
السر هو في أنّ بريطانية عرفت كيف تجعل رغبات الجماعات المستعجلة وغير المستعجلة موافقة لسياستها. فاستقبلوا فيصل الذي نبذه الفرنسيون وقدّموا له عرش العراق، ورحبوا بابن السعود الفاتح الموحد القبائل المتبدية. وانتفعوا من أموال اليهود باسم الوطن القومي في فلسطين، واستخدموا كل تيار سياسي أو نفساني لمصلحتهم فلم يقاوموا تياراً واحداً ولم يكبحوا نزعة جماعة من الجماعات.
اهتدى البريطانيون إلى مفتاح لكل الأبواب السياسية المغلقة في العالم العربي ودواء لجميع الأوصاب هو القضية العربية، فماشوا الحسين الذي كان يريد أن يرى شبه الجزيرة وسورية والعراق أمبراطورية هاشمية واحدة هو أمبراطورها وأولاده ملوك أقطارها، ثم جروا مع ابن السعود في سياسته الوهّابية، وشجعوا كل فكرة ترمي إلى ربط الأقطار العربية بأية وسيلة كانت، لكي تبقى لها وحدة سياسية تخضع لمرجع واحد: لندن.
كان على فرنسة تجاه هذه السياسة البريطانية أن تسلك أحد طريقين: طريق الإمبراطورية العربية بواسطة فيصل، وطريق تشجيع الشخصية القومية الواحدة في البلاد المشمولة بالانتداب الفرنسي. ولكن لسبب ما طرحت فرنسة فيصل جانباً ولم تفعل سوى ذلك شيئاً يستحق الذكر لإيجاد عامل روحي واحد في مركز نفوذها له قابلية الحركة والاتساع.
لذلك نرى الآن العوامل الخارجية تتألب الآن على منطقة النفوذ الفرنسي. ونرى حليفتنا تتمسك بالمنطقة الجبلية من حيث هي حصن حربي.
إنّ القوة الروحية والثقافية المخزونة في منطقة النفوذ الفرنسي في لبنان والشام هي أعظم قوة من نوعها في الشرق الأدنى. وإنّ تحريك مثل هذه القوة في سبيل مصالحها يفتح لها وللنفوذ الفرنسي آفاقاً جديدة في الشرق الأدنى، خصوصاً وأنّ في الروحية الفرنسية نفسها جاذبية كبيرة تسهل الانتشار وتحوّل الجَزْر إلى مد يجلب الرفاهية إلى البلاد المشمولة بالانتداب الفرنسي ويؤيد قوة السياسة الفرنسية.
إذا نظرنا إلى العراق وجدنا أنّ وحدته الاقتصادية والسياسية ولّدت حركة تحاول من الوجهة السياسية أن يكون لها نفوذ في الشام ولبنان؛ فإن مبالغ من المال تنفق سنوياً وشهرياً على عدد من الصحفيين والسياسيين يعملون للمصالح السياسية العراقية. وإذا نظرنا إلى بلاد العرب وجدنا مركزية ابن السعود تتعاظم وتقوى. وفي لبنان والشام عدد من العاملين لابن السعود وهو يغذيهم بالمال.
فما كان أحق منطقة النفوذ الفرنسي بأن يكون لها اتجاه واحد فاعل وعمال في الخارج يعملون لمصلحتها ومصلحة العالم العربي فتتفق مصلحة هذه الأمة وسياسة فرنسة على منهاج جديد يضاعف الممكنات لتوسعهما المعنوي والمادي.
يقول مثل عاميّ «زيادة الخير خير». فلو فرضنا أنّ الحالة الراهنة هي الخير لنفوذ السياسة الفرنسية فإن زيادة هذا الخير تفسح المجال لتوسّع خير مرغوب فيه.
وزيادة الخير يمكن أن تحصل باستقصاء إمكانيات الأمة الروحية وفهمها واكتشاف فاعليتها العظيمة، فإن في هذه الأمة قوة روحية مخزونة إذا أُحسن استخدامها أعطت نتائج باهرة.