يدهش العالم للموقف الحربي الغريب الذي تقفه الدول الكبرى بعضها تجاه بعض، بينما الجيش الألماني يتوغل في بولونية زاحفاً عليها بدباباته المتنوعة وآلاته الحديثة وسلاحه الهدام الفتاك وطياراته الحربية المدمرة. فقد اجتاح الجيش الألماني بولونية بعد إنذار نهائي، وأعلنت بريطانية وفرنسة أنّ عمل ألمانية يجعلهما في «حالة حرب» مع هذه الدولة بموجب المواثيق بينهما والدولة البولونية. ولكنهما اكتفتا بإعلان حالة الحرب والقيام بالإجراءات التي تقتضيها هذه الحالة من سحب السفراء ومهاجمة المراكب البحرية والمقاطعة الاقتصادية وبعض المناوشات الرسمية على الحدود بين ألمانية وفرنسة، بين خطي حصون سيغفريد وماجينو. أما ألمانية فلم يبدُ منها أنها اهتمت بوقوع «حالة حرب» هذه ولم تشهر الحرب على بريطانية وفرنسة ولم تفعل غير ما تقضي به ضرورة حالة الحرب فاتخذت احتياطات وتدابير بحرّية وأعدّت قواتها الضرورية لصد أي هجوم على حصون سيغفريد وامتنعت عن البدء بأي عمل حربي في الجبهة الغربية.
يحق للعالم، الذي تعوّد أساليب شهر الحرب العتيقة، أن يدهش لهذه الحالة الحربية التي اختلطت فيها مشاهد المهزلة بمشاهد الفاجعة. إنّ دهشة العالم مبررة بقوة الاستمرار. فالعالم، حتى الآن لم يدرك أنّ قيمات كثيرة مادية ومعنوية قد تغيرت، وأنّ أساليب جديدة توضع موضع التنفيذ بسرعة فائقة تسبق المعدل الذي يحتاجه العالم لإدراك نوعها وموجباتها، وأنّ المصالح التي تقرر الحرب والسلم تحتاج إلى عقلية جديدة وفهم جديد، وأنّ الاعتبارات السياسية التقليدية لم تعد صالحة لمعالجة الحالات والحاجات السياسية الجديدة. لمّا يدرك العالم كل هذه الأمور ولذلك يقف تجاه المشاهد الجارية حوادثها أمام نواظره مدهوشاً، حائراً. هذا شأن العالم. أما اليقظات العظيمة في العالم وقواها النابغة المبدعة فقد أدركت حالة العالم الجديدة ووضعية مصالح الأمم وفهمت مقتضيات المواقف وضرورات المصالح وقدّرت الأساليب التي ستُتَّبع في معالجة كل حالة.
إنّ الذين تتبّعوا مقالات جريدة النهضة البيروتية في السياسة الخارجية أدركوا، ولا شك، أنّ قيادة الحركة السورية القومية تفهم أوضاع السياسة الإنترناسيونية الجديدة فهماً عميقاً، وتسبق بالنظر الحوادث والتطورات السياسية. فالنهضة السورية القومية هي إحدى هذه اليقظات العظيمة في العالم الكاشفة عن قوى نابغة مبدعة. ولكن من سوء طالع الأمة السورية، أنّ الفوضى الفكرية والبلبلة العقائدية، التي منيت بها في سياق العقود الأخيرة من تاريخها، تعرقل سير هذه اليقظة السريع، فلا تتمكن الأمة من الاستفادة من دروس الحركة القومية وانتهاز الفرص واستباق الحوادث بما يجدي. وازدادت هذه البلبلة بتأويلات المجتهدين الذين يصرفون شيئاً كثيراً من همّهم ليبرهنوا للناس أنهم هم أهل نظر ودرس وإدراك بعيد، وأنهم هم قالوا كذا وتوقعوا كذا، وأنّ الأمور تسير وفاقاً لما يتنبأون به، وأنّ النهضة القومية نشأت صدفة بواسطة فرد وليس فيها شيء لم يعرفوه هم من قبل. وبعض هؤلاء ينضمون إلى الحركة القومية تحت تأثير هذه الاقتناعات الذاتية فيكونون عوامل هدامة لها يعملون على قتل معنوياتها ليرفعوا خصوصياتهم وعنعناتهم على أنقاضها. ومع ذلك فأعمال العرقلة لا يمكنها أن تثبت طويلاً لأن التغيير الذي حدث للعقلية السورية بفعل النهضة القومية هو تغيير أساسي لا يتمكن أصحاب العقلية العتيقة، الشرقية من إلغائه أو تعطيله، حتى ولو قاموا هم أنفسهم يتسترون بستار العقلية الجديدة.
من يعود إلى مقالات السياسة الخارجية في جريدة النهضة خصوصاً المقالات المتعلقة بالحرب الداخلية الإسبانية والحرب في الشرق الأقصى وباتفاقية «الجنتلمان» بين بريطانية وإيطالية، يدرك أنّ قيادة الحركة السورية القومية أحاطت بدقائق المسائل الإنترناسيونية، ونظرت فيها نظراً بعيداً وأدركت الأساس الذي ترتكز عليه الشؤون الإنترناسيونية. ففي هذه المقالات أوضح الكاتب السياسي، الذي يرجح أنه الزعيم نفسه، أنّ الحرب المشار إليها ليست قائمة حول العقائد أو النظريات السياسية - الاقتصادية، بقدر ما هي قائمة في سبيل المصالح، إذ إنّ بريطانية الأرستوقراطية، الديموقراطية لم تكن تمد يد المساعدة إلى إسبانية الحمراء الشيوعية من أجل العقائد بل من أجل المصالح. وأعلنت المقالات المشار إليها أنّ المصالح هي التي تعيّن موقف كل دولة وأنه يجب ألا يغتر السوريون بالستار العقائدي الذي تتستر به الأعمال الحربية من الجبهتين. ومما لا شك فيه، أنّ موقف الحرب الحالي، يوافق كل الموافقة ما أعلنه سعاده في ندائه إلى السوريين القوميين وإلى الشعب السوري الموضوع في الحادي والثلاثين من شهر مايو/أيار الماضي وقد نشرته سورية الجديدة في عددها المزدوج 19 و20 (ص 360 أعلاه). فقد أعلن سعاده أنه يرى الحالة الإنترناسيونية تتطور نحو أزمة لا حل لها إلا بإحدى طريقتين: إما طريقة الحرب وإما طريقة مؤتمر تقبل فيه الدول الديموقراطية بإجابة الدول الكلية، إلى قسم كبير من مطالبها التوسيعية. ومصير العالم يتوقف على سلوك إحدى هاتين الطريقتين.
بناءً على هذه النظريات الأساسية المعلنة في تصريحات سعاده وكتابات النهضة السورية القومية الموثوقة، يمكن التأكيد أنّ السوريين القوميين لم يكونوا في عداد الذين أخذتهم الحوادث الأخيرة المتسارعة على حين غرة. فالدهشة لم تتناول قيادة الحركة السورية القومية، خصوصاً فيما يتعلق باتفاق ألمانية وروسية، الذي جاء منطبقاً على القاعدة التي أعلنها زعيم الحركة السورية القومية التي هي: إنّ النزاع الإنترناسيوني هو نزاع مصالح لا نزاع عقائد. وبناءً على هذه القاعدة، لا نفهم الاتفاق الألماني - الروسي كعجيبة وقعت بانضمام ستالين إلى النظرية الاشتراكية - القومية الألمانية أو بانضمام هتلر إلى النظرية الشيوعية البلشفية، بل نفهمه كاتفاق أوجبته مصلحتا الدولتين الألمانية والروسية في ظروف إنترناسيونية موافقة.
أوجبت بعد شقة المصالح بين بريطانية وفرنسة من جهة وألمانية وإيطالية من جهة أخرى، أن تسير الأمور نحو أزمة تقتضي حلاً كلياً حاسماً. وقد رأت بريطانية وفرنسة أن تأخذا هما أيضاً، بالنظريات الكلية في هذا الموقف، لأن أي حل غير كلي لا يكون سوى حل موقت يخرج فيه الموقف من أزمة ليقع في أزمة أخرى قد تكون عاقبتها وخيمة. فشمرتا عن ساعد الجد لتأليب القوات على الدول الكلية وسحقها. وصاحبت جهودهما الدعاوة اليهودية بضجيجها. فوضعت تحت حمايتهما بولونية وأغريقية ورومانية وأخذتا تعملان على إشراك روسية في هذه الحماية، ناسيتين ما ذاقته روسية منهما في الحرب الماضية وقبلها في «المسألة الشرقية»، جاهلتين أنّ النظريات السياسية قد تطورت في معظم الأمم الحية وأنّ الدبلوماسية الحديثة أصبحت محتاجة إلى إدراك جديد لحالات جديدة وقيم جديدة. وبينما الصحافة الموالية لهاتين الدولتين تعلن قرب عقد محالفة سياسية - حربية بين بريطانية وفرنسة وروسية إذا بألمانية وروسية العدوتين من الوجهة السلالية والتقليدية والعقائدية تتفاهمان سراً وتعلنان اتفاقهما التام على عدم اعتداء الواحدة منهما على الأخرى وعدم الاشتراك في اعتداء يكون موجهاً نحو إحداهما.
بعد هذا الاتفاق، أمّنت ألمانية سلامة حدودها الشرقية وتضاءلت أهمية المسألة البولونية من الوجهة الحربية، فقررت السير في مطالبها ومطامحها في بولونية بالقوة، لأن بولونية رفضت الشروط التي عرضتها عليها ألمانية قبل الأزمة والشروط التي عرضتها بعدها، معتمدة في رفضها على العهد الذي قطعته بريطانية وفرنسة بمساعدتها وعلى المعاهدة التي وقّعتها معها بريطانية بعد إعلان الاتفاق الألماني - الروسي.
لم تشأ سياسة بولونية أن تنظر في قيمة تعهدات بريطانية وفرنسة بعد فشل أساليبهما السياسية مع روسية، وقررت الدولة البولونية الدفاع عن موقفها بالقوة. والظاهر أنّ التأكيدات البريطانية - الفرنسية شجعت بولونية كثيراً على إلقاء نفسها في أتون الحرب.
سارت الحرب في بولونية سيراً فعلياً فتحركت الفيالق وزحفت الجيوش وانهمرت قنابل الطيارات على المدن والقرى البولونية ووقف الجيش البولوني الجديد موقفاً شريفاً مجيداً يدافع عن وحدة دولته وسلامة أراضيه وحارب ببسالة في جميع الجبهات. ولكن الحرب التي دخلها الجيش البولوني هي حرب لا تكافؤ فيها. فهو جيش جديد لم يحصل على اختبارات حربية كافية. فأعمال المحاربين البولونيين في الحرب الماضية والحرب القصيرة الأجل مع الجيش البلشفي، بُعيْد الحرب العالمية، ليست اختبارات كافية لحرب في مثل هذه الظروف وضد جيش قوي، كامل العدة، واسع الاختبارات، كالجيش الألماني الحالي. ولو أنّ حلفاء بولونية قاموا بحملة صادقة لرفع قسم من الضغط عنها، لكان الأرجح أن تتمكن القيادة البولونية من الاستفادة من الاختبارات الجديدة الأولى في هذه الحرب وتحسين خططها وكان الجنود البولونيون تمكنوا من تحسين تنفيذهم الخطط الحربية. ولكن الجيش البولوني سحق قبل أن يتمكن من اكتساب دروس مفيدة ويعمل على تطبيقها.
إنّ الحرب البولونية مأساة تمثل تضحية دولة جديدة كل شيء تملكه بناءً على معاهدة مع بريطانية وتعهّد من بريطانية وفرنسة بوضع قواتهما الحربية إلى جانبها.
ولقد شهد التاريخ مصائر كمصير الدولة البولونية ومآسي كمأساتها. ولكنه قلّما شهد مهزلة كمهزلة الحرب التي أعلنتها بريطانية وفرنسة تأييداً لبولونية وعملاً بعهودهما ومواثيقهما. فبعد مرور اثنين وعشرين يوماً على إعلانهما «حالة الحرب» وهو تاريخ كتابة هذه المقالة لم نرَ لحربهما أي تدخّل فعلي. وكل ما حدث حتى الآن، في السار ليس سوى لعب جنود ومناوشات تمرينية.
مما لا مشاحة فيه أنّ المسألة ليست هينة. فاقتحام خط سيغفريد ليس أمراً يمكن الإقدام عليه بدون حساب الثمن الذي يتطلبه، ولكن الاستراتيجية الحربية لا تعدم منفذاً على الخريطة. والشيء الظاهر هو أنّ الطيارات لم تقم بعمل حربي غير الاستطلاع!
إنّ مسألة إشتراك روسية في اقتسام بولونية تعني تطوراً خطيراً في الموقف السياسي - الحربي وتعقداً في الحالة العامة. وهذا الاشتراك قد قطع كل أمل عند بريطانية وفرنسة بمهاجمة ألمانية في جبهتين وحصرها بين قوسين يمتد أحدهما من روسية إلى بولونية ورومانية وإغريقية وتركية وتشكل القوس الثاني قوات فرنسة وبريطانية البرية والبحرية والجوية.
بناءً على هذا التطور في الموقف الإنترناسيوني صارت حالة بريطانية وفرنسة كحالة «بالع الموسى». لم يعد بوسعهما الرجوع عن تعهداتهما لئلا تفقدا كل كرامة. ولم يعد بوسعهما الإقدام على الحرب الفعلية والمغامرة بإمبراطوريتيهما مغامرة يائسة. فأعلنتا حالة الحرب ولكنهما لم تقوما بشيء فعلي في سبيلها. ولو أنّ روسية كانت معهما لكانت أخبار المعارك العظيمة في الجبهتين الشرقية والغربية تملأ أعمدة الصحف اليومية وتقلق الناس في مضاجعهم في الأقطار البعيدة عنها.
إنها لمهزلة بائسة، مُرَّة هذه المهزلة التي تمثل حرباً قنابل مدافعها محشوة باروداً فقط وميادينها وساحاتها أعمدة الجرائد وقنابل طياراتها نشرات إذاعية.
الحقيقة التي لا جدال فيها، هي أنه لم تبقَ أمام حلفاء جبهة المدافعة ضد الهجوم وسائل فعلية لحرب حقيقية. فقد سدّت السياسة العقيمة التي سارت عليها بريطانية وفرنسة كل سبيل إلى الحرب. وقد برهنت هذه السياسة، على أنّ دبلوماسية هاتين الدولتين، لا تزال تجري على الخطط السياسية القديمة وتعمل بفهم بعيد عن إدراك التطور الواقعي الذي حدث في ذهنية أمم عديدة. فإننا إذا درسنا المحاولة السخيفة التي قامت بها هذه الدبلوماسية لجلب روسية إلى هاتين الدولتين والاتفاقيات الواهية التي عقدتها بريطانية وفرنسة مع تركية والأعمال السياسية المتعلقة بالحرب الإسبانية وصلنا إلى نتيجة واحدة تُظهر العجز عن إدراك مقتضيات الذهنية الجديدة في العالم.
ودرس مسألة واحدة كمسألة تعويل فرنسة على سياسة المعاهدات وتخلّيها عن مصادقة سورية ومقاومتها للحركة السورية القومية، في سبيل الوصول إلى اتفاق مع تركية، يوصلنا إلى إدراك الشلل السياسي المصابة به الدبلوماسية الفرنسية. ولو أنّ هذه الدبلوماسية كانت صحيحة وبعيدة النظر لوجب عليها سلوك غير هذا المسلك مع الحركة السورية القومية.
إنّ نتيجة الاتفاقات بين بريطانية وفرنسة وتركية قد أوضحت تفوّق الدبلوماسية التركية على دبلوماسية الدولتين الأوليين. فقد استفادت تركية من الظروف الإنترناسيونية وتعهدت بالقيام بأمور كانت تعلم أنها لن تحتاج إلى تنفيذها وكسبت لقاء هذه التعهدات العديمة القيمة العملية، لواء الإسكندرونة السوري الذي ضمته إلى كيليكية السورية وأصبحت داخلية سورية الشمالية تحت ضغط جيوشها، يساعدها التفكيك الذي أمعنت فرنسة في إحداثه في النصف السوري الواقع تحت انتدابها. أما فرنسة فماذا ربحت من إضعاف سورية الشمالية وتفكيكها؟
الذي يمكن استنتاجه من مهزلة الحرب القائمة حول مأساة بولونية هو أنّ بريطانية وفرنسة تريدان البقاء في حالة حرب طمعاً بالوصول إلى تسوية نهائية ترضيان عنها.
وكل ذلك يتوقف على المخابرات السياسية الدائرة في العواصم الأوروبية الهامّة. ويجب الانتباه إلى أنّ ألمانية لم تعلن الحرب على بريطانية وفرنسة وأنها لا ترى فائدة من الحرب. وتريد ألمانية بتعليق شهر الحرب على هاتين الدولتين إبقاء الباب مفتوحاً للمخابرات والمفاوضات بشأن إعادة السلام إلى أوروبة بعد الانتهاء من المسألة البولونية التي يمكن اعتبارها، منذ الآن، أمراً مفروغاً منه عملياً. ففرسوفية مهما طال حصارها ستقع. وحينئذٍ لا تعود المسألة البولونية موضع النظر، بل مسألة المستعمرات وتسوية اقتسام المواد الأولية في العالم.
والحقيقة الواضحة من هذه الحرب، هي أنّ مركز السياسة قد خرج من يد بريطانية وفرنسة، وأصبح متراوحاً بين برلين وموسكو. أما مصير مهزلة الحرب فيتوقف على موقف روسية الثابت. وشيء واحد قررته هذه المهزلة الغريبة في بابها هو مصير بولونية.