في رسالة شعبة سورية الجديدة الدمشقية الصادرة في 18 يوليو/تموز الماضي، خبر صغير نشر في الصفحة السابعة من العدد الثاني والعشرين بعنوان «دخول أراضي الانتداب». وقد يكون مرّ هذا الخبر على القراء كشيء اعتيادي، عديم الأهمية أو قليلها. وهذا بديهي نظراً لبقاء الرأي العام السوري جاهلاً حقيقة حالة سورية السياسية بسبب فوضى الأخبار التي كانت تصل إليه وكثرة خصوصياتها. ومع أنّ سورية الجديدة قد عملت كثيراً ولا تزال توالي العمل لإزالة هذه الفوضى باعتنائها بحقيقة الأخبار وترتيبها، فتأثير الفوضى الأخبارية والبلبلة الفكرية اللذين استمرا زمناً غير يسير لا يزال حقيقة تمنع أو تؤخر حصول الإدراك الجلي لعلاقة الأخبار بالموقف السياسي، ولأهمية الأخبار التي ليس في ظاهرها ما يدل على خطورتها.
إنّ الخبر الصغير الذي نريد أن نلفت أنظار القراء إلى خطورته وعلاقته الهامّة بالموقف السياسي في سورية، يعلن أنّ المفوض الفرنسي أصدر قراراً يخول فيه مندوبيه في المناطق السورية التي تتمتع بإدارة خاصة، حق توقيف أي من يشاء توقيفه ممن يدخلون أو يغادرون الجزء المشمول بالانتداب الفرنسي من سورية ويحتفظ لنفسه (المفوض) بحق تقرير مصير الموقف.
من قرأ ما نشرته هذه الجريدة في العدد الخامس عشر من خطر الاصطدام بين الحزب السوري القومي والسلطة والمقالة التحليلية المنشورة في العدد السادس عشر عن موقف زعيم الحزب السوري [القومي] وموقف فرنسة، أدرك حقيقة الموقف السياسي على ضوء هذه المعلومات، وهذا التفكير، وعلم أنّ خطة فرنسة للقضاء على حيوية الأمة السورية، هي في عزل سورية عن العالم الخارجي وتجزئتها في داخليتها، ورأى علاقة هذا الخبر الصغير بشؤون سورية السياسية وخطورته.
ولقد كانت فرنسة، حتى بضع سنوات خلت، تواجه مقاومة اعتباطية، مضطربة من قبل هيئات وشركات محدودة، جعلت مقاومتها فرنسة وسيلة لتحقيق خصوصيات نفسيتها وأغراضها، فأدركت فرنسة أغراضها المحدودة وتفكيرها الأولي العقيم وعجزها عن فهم طبيعة العوامل الاجتماعية - السياسية - القومية والقيام بنهضة تحرك قوى الأمة السورية، وجهلها طبائع القوى السياسية وحقيقة الصراع السياسي، فتركتها تعمَه في ضلالها ولم تفعل شيئاً غير التدخل عند تفاقم أمر بعض الإعتصابات والإضرابات، لكبح جماح الهياج الاعتباطي بالقوة المسلحة. والحقيقة أنّ فرنسة شجعت هذه الشركات السياسية المحدودة الضيقة حدود التفكير، على المضي في سياستها الخرقاء الآيلة إلى إنهاك قوى الأمة السورية وملاشاة إمكانياتها السياسية والاقتصادية، من أجل حصول نتيجة واحدة، هي الظهور بمظهر الأبطال «الوطنيين».
ظلت فرنسة مطمئنة إلى سيطرة هذه النفسية الشرقية التي زاد تعثرها نشوء أدب مستعار ولّد فوضى نفسية وبلبلة فكرية لا مثيل لهما، إذ صار كل من تأثر بمدرسة فكرية أو اهتدى إلى بضع كتب فرنسية أو إنكليزية أو روسية أو تركية، يعدّ نفسه بالغاً ذروة الكمال، متفوقاً على أقرانه وعلى أبناء الأعصر الخوالي، جديراً بأن يكون معلماً مثقِّفاً. فأنشأوا «بنهضتهم الأدبية» اضطراباً نفسياً أوقع قوى الأمة الروحية في شلل عام لم يظن أحد من الخبراء بنهوض الأمم وسقوطها أنّ الأمة السورية تتحرر منه، حتى كانت استفاقة النفسية السورية في نهضة مستقلة الروح والتفكير انبثقت من صميم الأمة السورية حاملة رسالة التحرير والإنقاذ وانتصار العقل السوري والمثل العليا السورية، فكان نشوء هذه النهضة الجبارة انتصاراً عظيماً على الميعان النفسي في فوضى التفكير الأدبي، فأخذت قوى الأمة السورية الروحية تنطلق من قيودها وتتحرر من تسلط الثقافات الأجنبية وعوامل الشلل الروحي الأدبية.
كما بسحر ساحر، تبدلت الحال وظهرت النفس السورية المستيقظة بمظهر قوة فاعلة تريد أن تعتمد على نفسها ومواردها ومواهبها وتثبت حقها في الحياة الجيدة وأهليتها للتفوق وبلوغ المثل العليا التي تصبو إليها. فأدركت الأمم الغريبة، وأدركت فرنسة قبل غيرها، أنّ حادثاً عظيماً غير متوقع، قد حدث في سورية، وأنّ الحالة النفسية قد أخذت تتغير وأخذت تتغير أساليب الفكر والقول والعمل، وأنّ الصراع بين حق الأمة السورية في الحياة والمطامع الأجنبية الرامية إلى قتل هذا الحق وقتل الحياة السورية نفسها لـمّا ينتهِ وأنه قد ابتدأ الآن ابتداءً جديداً.
كان الصراع بين أمة آخذة في الانقراض بانعدام مثلها العليا وانقلاب مناقبها إلى مثالب وبتعهد فئات دجالة شؤون حياتها الروحية وشؤون حياتها المادية وإمبراطوريتين عظيمتين قويتين، فأصبح بعد ظهور الحزب السوري القومي، صراعاً بين أمة فتية آخذة في النمو بعوامل الحياة القومية الجديدة يدل على بعثها إنشاؤها مثلاً عليا جديدة تطمح إلى تحقيقها وأخذها بمناقب جديدة تحرك فيها قوى جديدة يحق لها الطموح.
رأت فرنسة تجاه هذا التطور الخطير الذي دخلت فيه سورية، أنّ الموقف قد تبدل فعمدت إلى محاربة النهضة السورية القومية بالعنف والاضطهاد وباستخدام عناصر الحالة السابقة الروحية والمادية. وبعد نحو أربع سنوات من حرب عنيفة، كانت مباشرة أولاً ثم صارت مداورة، رأت فرنسة أنّ قوة الحياة والنمو في الحركة السورية القومية قوة حقيقية أصلية، غير مستعارة وأنّ شأنها معها سيكون غير شأن الفئات والشركات السياسية التي نشأت بحكم الظروف، لأنها قوة مبدعة منظمة الفكر، منظمة القول، منظمة العمل.
أدركت فرنسة أنّ الحركة السورية القومية قوة وأنها حركة تشعر وتعلم أنها قوة. فماذا يمكن هذه القوة الواعية، المبصرة، الفاهمة أن تفعل في ظروف التقلبات السياسية والحربية المقبلة؟
إنّ الجواب على هذا السؤال عسير، فليس في مقدور إنسان أن يعلم ماذا تتمكن قوة مبدعة من فعله في حالة توضع فيها مقدرات الأمم بين الوجود والعدم. هذا ما أدركته فرنسة وبريطانية، في صدد النهضة السورية القومية، فرأتا أن تحتاطا لإنقاذ أقلّ قيمة لمصالحهما في الشرق الأدنى، أي بالعمل لتأمين أقلّ نصيب ممكن، فحددت بريطانية نصيبها في جنوب سورية بإيجاد حالة توازن بين السوريين واليهود، الذين جاءت بهم من آفاق الدنيا، تسمح لها بالتسلّط وبإنشاء موانىء حربية في شواطىء الجنوب تؤمن مواصلاتها الإمبراطورية، وحددت فرنسة نصيبها بالاحتفاظ بالمنطقة الساحلية الجبلية من سورية وهي منطقة لبنان - العلويين ليظل لها مركز إمبراطوري في الشرق الأدنى وبإنشاء موانىء حربية ومطارات تؤمّن هذا البقاء، الذي أعلن الجنرال غورو، أنه «أبدي» وأعلن بونه، بمناسبة تسليم لواء الإسكندرونة إلى تركية أنه «الصفة الدائمة لمصالح فرنسة في الشرق الأدنى.» واتفقت سياسة الإمبراطوريتين على إشراك تركية بتأمين هذه «الصفة الدائمة» لمصالحها في سورية.
رمت فرنسة، منذ البدء، إلى تطويق شمال سورية تطويقاً يعزلها عن مجرى شؤون العالم، كما رمت بريطانية إلى عزل جنوب سورية عن مجرى شؤون العالم. فلم يسمح لسورية بأن يكون لها صوت ومركز في الجمعية الأممية وأعطيت الصحف السورية مساعدات مجانية بواسطة المفوضيتين الفرنسية والبريطانية لأخذ «أخبار» شركتي هافاس ورويتر بعد أن تتكرر هذه «الأخبار» في مكررات هاتين المفوضيتين وضربت رقابة شديدة على الأخبار الخارجة من سورية وأعطت هافاس ورويتر امتياز تصوير حوادث سورية في الخارج لمصلحة فرنسة وبريطانية وضد مصلحة سورية.
بعد أن أحكمت فرنسة نطاق العزل الخارجي والاتفاق مع تركية، رأت الآن أن تنظر في الغاية «الداخلية» من هذا النطاق، أي في عملية خنق نهضة سورية. وما هذا التدبير الجديد الذي يخوّل مندوبي المفوض الفرنسي، حق توقيف أي شخص يرى من مصلحة فرنسة توقيفه أثناء محاولته دخول المنطقة المشمولة بالانتداب الفرنسي أو الخروج منها سوى زيادة في الضغط الذي يقصد به الخنق. والذي نعتقده أنّ هذا التدبير موجه ضد الحركة السورية القومية بصورة خاصة، وأنّ القصد منه توقيف أي من يشتبه بأنه من الحزب السوري القومي، وأنه قد يكون حاملاً تعليمات أو معلومات لفائدة الحركة السورية القومية.
أسند المفوض الفرنسي مهمة تنفيذ هذا التدبير إلى مندوبيه وفاقاً لخطة تَولّي الفرنسيين محاربة النهضة السورية القومية مباشرة، بعد أن رأوا عجز الحكومات المحلية عن محاربتها. وجميع المعلومات التي نشرت سورية الجديدة قسماً هاماً منها في أعدادها الماضية، تؤيد ما نذهب إليه. فالفرنسيون لا همّ لهم في سورية، غير مراقبة حركات الحزب السوري القومي في الداخل والخارج وعرقلة خطط الزعيم. وإنّ ما حدث هنا في سان باولو يحملنا على التيقن من اتساع نطاق الجاسوسية الفرنسية على الحزب السوري القومي. وبعد درس ذيول حادث توقيف الزعيم وناموسيه وهو في حالة صحية سيئة، لا بد من التسليم بأن الجواسيس اللابسين لبوساً متعددة قد عملوا جهدهم ليساعدوا أعداء الأمة السورية على خنقها.
إنّ التدبير المشار إليه ليس إلا جزءاً من خطة ضرب نطاق من الحديد والنار حول نهضة الأمة السورية. وقيام الفرنسيين أنفسهم به يدل على مبلغ قلقهم وشدة حرصهم على التنفيذ بدقة وعدم تعريض الأوامر للانكشاف. فهو تدبير أقبح من حصار حربي. إنه وضع أمة كاملة وحقوقها رهن التوقيف بإرادة أجنبية.
لم يرتفع الآن في الوطن أو في المهجر، صوت واحد بالاحتجاج على هذا التعدي الجديد على كرامة الأمة السورية، مع أنه كان يجب أن تتولد عاصفة شديدة من الاحتجاج والنقمة وردّ الفعل.
لقد سمعنا بعض المتعنتين أو غير الفاهمين يقولون «وماذا يفعل الحزب السوري القومي وإلى متى ينتظر؟» فنعود ونقول لهؤلاء البعض «إلى متى تنتظرون أنتم وماذا تفعلون؟»
إنّ الحزب السوري القومي قد أنشأ نهضة الأمة السورية وأخذ ينظّم صفوفها ويعمل على تجهيزها. ولكنكم أنتم، أيها الثرثارون الذين تريدون أن تروا رجال النهضة القومية يضحّون على مذبح بلادتكم وموت شعوركم ليكون لكم من تضحيتهم تسلية قبيحة لكم، أي حق لكم أن تسألوا «إلى متى ينتظر الحزب السوري القومي؟» كم هي المساعدات التجهيزية التي قدمتموها للحزب السوري القومي وبتّم من ورائها تنتظرون وتسائلون؟
أنتم، أيها المنافقون الذين «تأنفون» أن يكون لنهضة أمتكم «صلة» بأمة أجنبية، ماذا فعلتم في سبيل نصرة الحزب السوري القومي الذي لم ينتظر ولا ينتظر ولن ينتظر؟
إنّ الحزب السوري القومي ليس حركة اعتباطية يريد زعيمها أن يؤسس بطولة «دنكيخوطية» له كبطولة «الوطنيين» بسفك دماء بريئة، بل حركة منظمة، فاهمة، مبصرة تعمل بأصول وخطط مرسومة.
إنّ الحزب السوري القومي يقوم بواجبه. أما أنتم أيها الثرثارون والكسالى والمستهزئون والمنافقون فماذا فعلتم وما أنتم فاعلون. هل تشعرون أنّ عليكم واجباً؟