تعلّم الذين حفظوا التقاليد العربية ولم يحفظوا شيئاً غيرها أنّ كل ناطق بالعربية عربي وأنّ كل ناطق بغير العربية أعجمي. وفهموا بالعربي ليس المدلول الذي نفهمه من قولنا «لاتيني»، مثلاً، أي أحد الذين يشملهم عالم اللغة العربية، بل إنه من «الشعب العربي» وفهموا من «الأعجمي» أنه كل من لم يكن من «العرق العربي». فعند العرب لم يكن أمم وشعوب وسلالات وأقوام بل كان هنالك فقط عرب وأعاجم. ولكي يتمكن المتضلعون من «العلم العربي» من متابعة وجهة بحثنا لجأنا إلى استعمال التعابير التي تعوّدوها.
عندما أعلن زعيم الحزب السوري القومي رأيه في اللعبة «العروبية» - البريطانية، حول مسألة جنوب سورية وحقوق الأمة السورية في فلسطين، وندد بالسياسة الخرقاء التي اتّبعتها الشركات والفئات السورية السياسية في معالجة هذه القضية وغيرها ووضعها الحقوق السورية في أيدي سياسيين غير سوريين، اندفاعاً مع الهوس العروبي - الديني، ظن الكثيرون أنّ موقفه كان مبنياً على العداء الذي ظهر من هذه الشركات والفئات للحزب السوري القومي. ولكن ما عتمت الشؤون الإنترناسيونية أن أظهرت صحة نظره في المناورات السياسية التي جرت في القاهرة ولندن واشتركت في ترتيبها بالتفاهم الضمني بريطانية ومصر والعراق، على خطة سياسية، تهمّ بريطانية ومصر والعراق. ولم يُقَم لسورية أي وزن في العملية الجارية، غير وزن المريض الموضوع على سرير الجراحة، والذي يجب عليه أن يخضع لما يقرره الجراحون ويسلّم جسمه للجرح والقص والبتر، لأن الجراحين الذين سيجرون العملية هم من أقاربه وأصدقائه الذين لا يؤلم جرحهم كما يؤلم جرح الأباعد.
ولم يكن أحد يتصور إلى أي حد بعيد كانت نظرية سعاده صائبة ولكن سلسلة الحوادث التي تلت مؤتمر لندن المشؤوم أخذت تُظهِر جلياً لكل ذي عينين، الحقائق المؤلمة التي أراد زعيم الحزب السوري القومي أن يمنع وقوعها بدعوته الشعب السوري إلى اعتبار القضية السورية قضية مستقلة قائمة بنفسها لا يجوز أن يتولى تمثيلها والبتّ بها، غير سوريين صالحين للتعبير عن إرادة الأمة السورية وحقوقها. فما كاد مؤتمر لندن ينتهي حتى علمنا أنّ غرضه الحقيقي لم يكن الاهتمام بقضية فلسطين وإنصاف الشعب السوري في مسألة حقوقه الأصلية، بل ترتيب الوضعية السياسية في الشرق الأدنى بالتفاهم بين بريطانية ومصر والعراق، وراء ستار بحث قضية فلسطين، وأنّ السياسيين السوريين من الطراز العتيق الذين أمّوا لندن كانوا مجرّد تماثيل زينة ولعب استخدمها البريطانيون بمهارة لستر ما يجري في «الكواليس»، وأنّ هؤلاء السياسيين «الدنكيخوطيين» قد خدموا السياسة البريطانية ومآربها في وطنهم خدمة لم تكن ترغب بريطانية في أكثر منها، فهم قد استنزفوا دماء الشعب «بثوراتهم» العنترية واستنضبوا أموال المهاجرين بتحريضهم واستغاثتهم ثم حضروا مؤتمر القاهرة كبعض المدعوين عند أصحاب الشأن في فلسطين، وحضروا مؤتمر لندن فرحين بالجلوس إلى موائد الطعام والشاي بين ابتسامات الوزراء الإنكليز. ثم عادوا من حيث أتوا ظانين أنّ مؤتمر لندن قد فشل، في حين أنّ مؤتمر لندن نجح لأنهم كانوا يجهلون غرض مؤتمر لندن وأسباب الفشل وأسباب النجاح.
جاءت فيما بعد هذه السلسلة الغريبة من المناورات والحوادث كمتابعة أبحاث مؤتمر لندن في القاهرة وإثارة مسألة الملكية السورية ومسألة توحيد بعض أجزائها، وكل ذلك، بقصد خدع الشعب السوري وتغطية السياسة الحقيقية التي كانت جارية، وكان من نتائجها، المعاهدة البريطانية - التركية التي تتلوها الآن المعاهدة الفرنسية - التركية، التي تقرر تعديل الحدود السورية الشمالية لمصلحة تركية. وآخر هذه النتائج الغريبة وأشدها وقعاً المفاوضات الجارية بين مصر وتركية لعقد اتفاق بين هاتين الدولتين واحتمال دخول مصر الاتفاقية الرباعية بين تركية والعراق وإيران وأفغانستان.
منذ أوائل يونيو/حزيران والأخبار ترد، عن التقرب بين مصر وتركية واحتمال زيارة وزير خارجية مصر لأنقرة «لرد زيارة وزير خارجية تركية السابق». وفي الوقت الذي تحرَّر فيه المعاهدة بين فرنسة وتركية القاضية بتسليم لواء الإسكندرونة السوري إلى تركية، يزور الوزير المصري عبدالفتاح يحيى باشا أنقرة حاملاً لزميله التركي العواطف والنيات الودية التي تكنّها السياسة المصرية العربية للسياسة التركية في هذه الظروف السعيدة!
ولقد حمل إلينا البرق نبأ المأدبة التركية التي أقيمت على شرف الوزير المصري وما تضمّنه خطاب وزير خارجية تركية في صدد تماثل المصالح التركية والمصرية وتوازيها. وكان من أهم ما ورد في هذا الخطاب، الإشارة إلى فلسطين والكتاب الأبيض البريطاني. فقد قال الوزير إنه «لا يفصل بين تركية ومصر غير فلسطين» حيث تعاني بريطانية صعوبات في حفظ النظام بسبب مقاومة السوريين واليهود لسياستها الأخيرة. وأشار الخطيب إلى أنّ الحل الذي اقترحه الكتاب الأبيض رُفِض من قبل ذوي المصلحة، ولذلك فإن جنوب سورية معرّض لأن يصبح مثار شر خطر في حالة حرب، ولكن الخطر يزول «إذا وضعت فلسطين ضمن إطار من الدول التي لها مصلحة مباشرة في حفظ الحالة الراهنة» أي بإيجاد مقاومة لكل تدخُّل من قبل خصوم بريطانية في هذه البقعة من الشرق الأدنى. وحصول هذا «الإطار» أو الطوق الحديدي يكون بدخول مصر إتفاقية سعدآباد فتصير فلسطين بين مصر والعراق وتركية وفرنسة وبريطانية!
على أنّ أخطر عبارة في الكلام المتقدم هي العبارة التي تقول إنه ليس بين تركية ومصر غير فلسطين. فهذه العبارة تؤيد كل التأييد الترجمة التي أعطتها الأوساط السورية القومية للاتجاه السياسي البريطاني - الفرنسي - التركي - العربي الأخير. فمخاوف الحزب السوري القومي من وضع شمال سورية تحت رحمة الجيش التركي التي أعلنها الزعيم في عدة مواقف في الوطن لم تكن مجرّد تكهنات، بل تقديرات راهنة مبنية على أسباب تكنيكية.
أليست هذه النتيجة هي النتيجة الوحيدة لاعتماد أمة من الأمم على غيرها في معالجة قضيتها القومية وتقرير مصيرها؟
والآن فممن يجب أن ينتقم الشعب السوري لحقوقه ومصالحه التي ذهبت إلى الأيدي الأجنبية من عرب وعجم؟
أليس من العروبيين الذين غشوه وخدعوه وباعوا مصالحه بينما هم يتبجحون أنهم أصحاب «قضية قومية»؟
ألم يحن للشعب السوري أن يستفيق لشخصيته ومصالحه وحقوقه وإرادته ويعتنق المبادىء التي تعبّر عن هذه الأمور كلها؟
إنّ العجز هو من الذين يعلّمون الشعب العجز وعدم الثقة بالنفس.