ترى السياسة الفرنسية مركزها يتحرّج بنمو الحزب السوري القومي وتقوية تشكيلاته وإكمال استعداداته فتحاول أن تتنصل من تبعة خططها الاستعمارية وأن تلقي اللوم، في الحوادث الخطيرة المقبلة، على سعاده، مدّعية أنها كانت تريد أخذ مطاليب الحزب السوري القومي بعين الاعتبار، إلا أنّ زيارة الزعيم لبرلين ورومة هي التي جعلتها تحجم عن ذلك. وفي رسالة مراسلنا البيروتي التي نشرناها في العدد الثاني عشر، خبر الإشاعات التي تلفقها المصادر المنتمية إلى السياسة الفرنسية. فلنعالج هذه المسألة على ضوء المعلومات التي تفيد في الحساب.
لكل عمل من الأعمال الهامة التي لها علاقة بالمجتمع ومصيره حساب وتصفية. وإذا كانت هذه الحقيقة تخفى على الذين تعودوا عمل الشركات الخصوصية التي لا حساب عندها لشيء غير منافعها وأرباحها أو على البعيدين عن فهم قيمة الأعمال ونتائجها، فهي لا تخفى على المنظمات الدقيقة في العمل والترتيب. وإذا كان أولئك المشار إليهم فوق، يظنون أنّ ما جرى حتى الآن من عراك داخلي عنيف بين الحزب السوري القومي والسلطات المنتدبة قد انقضى ولن يكون له حساب وتصفية، لأنهم لا يدركون شيئاً من حقيقة الأعمال العظيمة التي تمثل قوتين تتطاحنان في صراع فاصل، فإن في العالم منظمات تعرف كم هو بعيد عن الحقيقة هذا الظن. وهذه المنظمات هي منظمة الحزب السوري القومي ومؤسساتها العظيمة من جهة ومنظمات السلطات الانتدابية والحكومات المحلية ومؤسساتها من الجهة المقابلة.
إنه لم يكن خافياً على الحزب السوري القومي، في وقت من الأوقات، مرمى السياسة الانتدابية والنطاق الذي قامت هذه السياسة تضربه حول سورية، لعزلها عن العالم الخارجي وإبقاء حقيقة قضيتها مجهولة، ليسهل عليها خنق حقوق الأمة السورية وقتل مصالحها. ولكنه لم يجد من مصلحته، في ظروفه الأولى الإنشائية، إتيان أية بادرة تدل على إدراكه الجلي لهذه النقاط التكنيكية. فسياسة الزعيم ليست سياسة تبجح، بل سياسة تحقيق الغرض بوضع الأمور في مواضعها وإتيان الأعمال في أوقاتها. وقد برهنت هذه السياسة القوية على أنها سياسة الغلبة القاهرة التي لا يقف في سبيل انتصارها شيء.
صبر سعاده طويلاً على المهاجمات الشديدة التي وجّهتها عليه السياسة الانتدابية وآلاتها المحلية، فتحمّل أشد ضروب العذاب قسوة، فظل في سجنه أياماً بدون طعام ينام على أرض السجن المفروشة بالإسمنت، محروماً من فراش أو وسادة يضع عليها رأسه، ثم نقلوه إلى غرفة جمعوا فيها كل المصابين وذوي العاهات، الذين لا تستحق إصاباتهم وعاهاتهم نقلهم إلى المستشفى في الحال، إلى غير ذلك من التكبيل والتعذيب، بقصد كسر قوة إرادته الجبارة. وكان يتطوع لتلقّي هذه المهاجمات بنفسه تطوّعاً فيكون ترساً تحتمي وراءه الحركة السورية القومية وتتفاعل مع الشعب وتنمو. وقد فضَّل الزعيم اختيار هذه الطريق الوعرة، سياسة منه ولأنه كان يشعر بقدرته على تحمّل هذا الضغط الهائل المتوالي. والثابت في أوساط الحزب السوري القومي العليا أنه لو شاء الزعيم ألا يذهب إلى السجن المرة الثانية أو الثالثة لكان في إمكانه تنفيذ مشيئته، لأن قوة الحزب كانت قادرة وكافية لفعل أمور كثيرة ولكن الزعيم لا يعمل إلا بسياسته البعيدة النظر. فهو قد أمّن للحركة الوقت الكافي للنضج واكتمال التنظيم والاختبار حتى إذا شعر أنّ الحزب قد أصبح قوة متجانسة الفهم والعمل قوية النظام، رأى أنّ القسم الأول من سياسته وهو عهد الصبر والاحتمال قد انتهى وأنه قد حان الوقت لوضع القسم الثاني من خطته موضع التنفيذ، وهو القسم المتعلق بخرق النطاق الذي يحول بين سورية والعالم والقضاء على سياسة العزل التي تعمل بها الجبهة الانتدابية لستر حقيقة نياتها وأعمالها الاستعمارية وحجب القضية السورية القومية عن الشعوب الحية في العالم.
رأى الزعيم، نظراً لخطورة الحالة الإنترناسيونية، أن يقوم بتنفيذ هذا القسم الثاني الخطير من خطته الواسعة، البعيدة المرمى، فقرر القيام برحلته الحالية إلى أوروبة والمهاجر السورية ووضعها في برنامجه لسنة 1938 وبقيت أمراً مكتوماً ضمن نطاق المجلس الأعلى، حتى رأى الزعيم أنّ وقت تنفيذها قد حان، فأمر باتخاذ التدابير المتعلقة بها. وبهذه الكيفية تسرّب خبرها إلى الأعداء، الذين قاموا في الحال يعملون على إحباطها، لأنهم استشعروا فيها الخطر العظيم على خطتهم، التي تتناول فيما تتناوله خدع السوريين المهاجرين وجلبهم إلى خطتهم. فحاكوا مؤامرتهم التي يرى القارىء تفاصيلها في الأعداد الأول والثاني والثالث من سورية الجديدة، تحت عنوان «جهاد الحزب السوري القومي لتحرير سورية». وعلم الزعيم بجميع اجتماعاتهم ومؤامراتهم في حينها، والفضل في ذلك يعود إلى الجهاز الدقيق الذي نظّمه تنظيماً متيناً، فأكمل تدابيره وسافر في اليوم عينه الذي قررت فيه الحكومة القيام بحملتها السرية على الحزب السوري القومي!
وبينما الزعيم يرتاح في جزيرة قبرص، قبل البدء برحلته، أصدرت عمدة الإذاعة بلاغاً رسمياً في الخامس عشر من أغسطس/آب 1938 ونشرته سورية الجديدة في العدد الأول. وهذا البلاغ يبتدىء بالقول:
«وطد الزعيم المفدّى عزيمته على القيام برحلة واسعة إلى أنحاء المهجر يعرّج فيها بطريقه على العواصم الأوروبية. والقصد من هذه الرحلة أمران رأى الزعيم ضرورة تأمينهما لنجاح قضيتنا القومية:
الأول - إطلاع الرأي العام الإنترناسيوني على القضية السورية وتطوراتها وموقف القوميين منها.
الثاني - تنظيم المهجر السوري ليكون على استعداد للعمل المتضامن مع النظام القومي في الوطن، الخ.»
وقد اقتصر هذا البلاغ الرسمي المقتضب على إعطاء الخطوط الأساسية للغرض من رحلة الزعيم. ولكن عمدة الإذاعة التي وضعته وأذاعته بواسطة لجنتها الإذاعية لم تكن غافلة عن تأثير هذه الضربة التي يُنزلها الزعيم بمهارة فائقة بالأعداء المتآمرين على القضية القومية، فعطفت على كلامها المتقدم بتحذير السوريين القوميين من «الإشاعات والأراجيف» التي سيختلقها الأعداء للفتّ في عضد الحزب السوري القومي.
إننا حين نلقي نظرة جديدة على هذا البلاغ المقتضب ونفحص سطوره، ندرك أنّ لغة المنظمة القومية هي لغة المعاني المقصودة، لا لغة العبارات المنمقة. إنه يعني إعلان خطوة سعاده الجديدة التي رمى بها إلى حمل الحرب إلى ساحات جديدة والقيام بحركة التفافية واسعة على أعداء الأمة السورية تعطل خطة عزل الحركة السورية القومية عن العالم المتمدن ومنع الحزب السوري القومي من الاتصال بمراكز السياسة الإنترناسيونية وبالمهاجرين السوريين الذين لا يدرك أحد مثل الزعيم، الإمكانيات العظيمة الكامنة فيهم والنتائج الكبيرة التي يمكن الوصول إليها بتضامنهم المنظم مع النظام القومي في الوطن.
إنّ خطورة رحلة الزعيم أخذت تظهر لأعداء القضية السورية القومية بجميع مظاهرها. ولما رأوا أنهم فشلوا في توقيف الزعيم أوعزوا إلى عمالهم في المهاجر ليعرقلوا أعماله بجميع الطرق الشريفة وغير الشريفة.
زار الزعيم بطريقه إلينا إيطالية وألمانية. وهذا بديهي. فالزعيم قد لبى دعوة فرع الحزب السوري القومي في برلين ورأى أن ينتهز الفرصة ليدرس الإمكانيات الإنترناسيونية لسورية في نواحٍ جديدة. ولم يكن محتاجاً لزيارة فرنسة. ولم يكن من المناسب أن يزورها في ذلك الوقت، نظراً لضيق وقته ولأن السياسة الفرنسية كانت مندفعة في خطة لا تسهل إيجاد جوّ جديد. وكان في باريس جميل مردم بصفته رئيس الحكومة الشامية فلم يشأ الزعيم أن يتدخل في الموقف لئلا تعزو «الكتلة الوطنية» فشلها إلى «دسائس الخصوم» كما كان مردم يصرح. وفوق كل ذلك فإن الزعيم كان قد أبدى وجهة نظره للمفوضية الفرنسية وأصبح من المترتب على الجانب الفرنسي أن يقوم بالخطوة التالية. وليس سعاده الرجل الذي يقف مكتوف اليدين ينتظر فراغ الخصوم من مناوراتهم وإعطاء حكمهم على الأمة السورية.
ولقد كان لزيارة الزعيم أوروبة نتائج كبيرة أظهرت لأعداء الأمة السورية أنه لا يمكن عزلها والاستبداد بشؤونها. وقد ظهرت بعض النتائج في الصحف. ففي أثناء وجود الزعيم في إيطالية نشرت مجلة Omnibus مقالة عن المسألة السورية والمعاهدة مع فرنسة وموقف هذه الدولة المعيب. وظهرت عدة مقالات في صحف أخرى، فيها إنصاف لوجهة نظر سورية. وكذلك في ألمانية حيث اهتمت الصحف لزيارة الزعيم وللمسألة السورية. وكانت الحفاوة التي لقيها في هاتين الدولتين، إنذاراً كافياً للدولة الفرنسية بوجوب تغيير موقفها.
أما في المهجر فيمكننا أن نبدأ بدرس خطورة رحلة الزعيم في بيئة الجالية السورية في البرازيل. أليس عظيماً هذا الانقلاب في الرأي والاتجاه الذي أحدثه سعاده في محيطنا؟ ألا نفهم الآن قضية أمتنا وموقفها السياسي بجلاء؟ ألا ندرك جيداً خديعة حركات المقاومة الاعتباطية في فلسطين وخديعة المؤتمر المصري ومكر مؤتمر لندن وغش الوفود التي جاءت المهجر متسترة باسم «العروبة» لتخدم مطامع بريطانية وفرنسة الاستعمارية، في بلادنا، وتطلب من السوريين المهاجرين تأييد موقف الدولتين، اللتين ضربتا على الشعب السوري الحر استعماراً وعبودية ينزلانه إلى درك زنوج أفريقية؟ ألا نبصر الآن بجلاء أكثر من ذي قبل، حقيقة المسألة اللبنانية التي أوجدت منها الإرادة الأجنبية خيالاً قتالاً للبنانيين كما لغيرهم من السوريين؟
ولننظر الآن كيف تطور الموقف السياسي في المهجر وكيف تتصل سورية بالعالم بواسطة الزعيم. فبعد أن أوضح سعاده للصحف البرازيلية في سان باولو، القضية السورية القومية وإرادة سورية وأبان النقاط التي تصطدم عندها المصلحة السورية والمصلحة الأجنبية الانتدابية، أشار في حديثه إلى جريدة Correio Paulistano الذي نشر في عددها الصادر في 4 ديسمبر/كانون الأول 1938 إلى موقفه من فرنسة وموقف فرنسة من القضية، وهذه عبارة الحديث: «وقد أكد لنا سعاده أنه حاول بكل الطرق الوصول إلى توفيق شريف بين مصالح سورية ومصالح فرنسة ولكنه وجد أنّ مجهوداته تصطدم بموقف الجانب الفرنسي، خصوصاً بالاتفاقية التي وقعت مؤخراً بين فرنسة وتركية ونزعت بموجبها السيادة السورية عن لواء الإسكندرونة وقُدِّم اللواء لتركية.»
ثم إنّ الزعيم أبان لنا نحن السوريين المهاجرين حقيقة القضية السورية القومية، التي كانت خافية علينا وراء حجاب كثيف من صنع الدعاوة الأجنبية والنفعية، وحقيقة الموقف السياسي بين الحزب السوري القومي وفرنسة، في تصريحه الخطير الذي أدلى به إلى سورية الجديدة رداً على بيان المفوض الفرنسي الجديد السيد بيو ونشرته هذه الجريدة مع البيان المشار إليه في العدد الأول.
في هذا التصريح الشديد الخطورة، أوضح الزعيم حقيقة التضارب بين وجهة نظر القضية السورية القومية ووجهة نظر فرنسة. وكشف لنا عن ناحية من مرونته وتساهله للتقريب بين وجهتي النظر وعن حقيقة موقف الجانب الفرنسي الذي ظن أنه يتمكن من خدع سعاده بالألفاظ والوعود، كما تعوّد خدع رجال الشركات السياسية المحددة، التي ادعت، مدة من الزمن، تمثيل قضية الشعب السوري. وقد اتضح لكل مبصر، أنّ الجانب الفرنسي وقف من تساهل الزعيم موقفاً سلبياً وأنه لا يزال في هذا الموقف.
ألقى الزعيم نوراً جديداً على موقف فرنسة ومكّن السوريين المهاجرين والرأي العام المتمدن من إدراك حقيقة الصراع بين الحزب السوري القومي والسياسة الأجنبية المتسلطة على سورية باسم «الانتداب»، فكان ذلك أول انتصارات سعاده الباهرة في حملته الجديدة. والظاهر أنّ الضربة أصابت هدفها تماماً، فوقع الأعداء في حيص بيص. فأوعزت السياسة الفرنسية إلى عمالها بالادعاء علناً أنّ فرنسة كانت ترغب في التفاهم مع الحزب السوري القومي والنزول عند مطاليبه الأساسية ولكن مرور الزعيم بألمانية وإيطالية هو الذي يدعوها الآن إلى اتخاذ موقف مغاير.
إنه ليس أسهل من الادعاء. ولقد كان مجرّد الادعاء يكفي في الماضي أما اليوم فالنهضة السورية القومية منظمة عظيمة، متينة تحاسب على كل كبيرة وصغيرة وتضبط كل قوة وعمل. ونحن هنا نطلب الدليل الحسي الذي يؤيد إدعاء الجانب الفرنسي. أهو في إقامة دعاوى مزورة على الزعيم وبعض أركانه وتقرير القبض عليه لمنع رحلته، أم هو في سياسة الفصل بين لبنان والشام نهائياً ووضع ملاحق جديدة للمعاهدة، أم هو في الاتفاق مع تركية على حساب سورية، أم هو في إنزال الأمة السورية إلى درك «الأوتخطون والإنديجن» وحضيض شعوب «العقلية الشرقية»، أو هو في لغة الصحافة الفرنسية حين تتكلم عن سورية؟
ما هو الشيء الحقيقي الذي اقترحته فرنسة على الحزب السوري القومي ورفضه سعاده؟
إيه! هنالك أشياء اقترحتها فرنسة. فقد اقترح رئيس الغرفة السياسية في المفوضية الفرنسية على وفد قبرصي - مراد، أن يحلَّ الحزب السوري القومي تشكيلاته ويلغي مبدأه الإصلاحي الخامس القائل بإنشاء جيش قوي من سورية كأساس لإنشاء علاقات ودية بين الحزب والمفوضية الفرنسية! فلما أطلع الوفد الزعيم على اقتراح السياسي الفرنسي قال: «إني لا أبيع الجيش السوري القومي بكل الصداقات في العالم»!
لقد أبان الزعيم للفرنسيين النقطة الجوهرية التي تصطدم عندها النظرة السورية القومية بالنظرة الفرنسية السياسية وعرض على الفرنسيين التفاهم الودي على أساس الاعتراف بأن سورية أمة متمدنة، حرة والاعتراف بحقوقها القومية والسياسية الإنترناسيونية. فعلى الفرنسيين أنفسهم أن يتقدموا الآن بعرض ما يستعدون للاعتراف به إن كانوا يريدون فعلاً تفاهماً ودياً.
أما محاولة الفرنسيين التنصل من تبعة سياستهم، سياسة رديئة عقيمة!
إنّ أصحاب العقلية الشرقية فقط يستطيعون أن يصدقوا أنه لم تكفِ ثلاث سنوات كاملة من الاتصال بسعاده لتقرير الفرنسيين موقفهم منه وأنّ مجرّد مروره ببلاد غير فرنسية كافٍ ليرموا التبعة عن أنفسهم. أما السوريون فعقليتهم لا تسمح لهم بالانحطاط إلى هذا الدرك من الإدراك!