بيروت في 5 مايو/أيار 1939 - لمراسل سورية الجديدة
إنّ الموقف السياسي بين الحزب السوري القومي والسلطة يزداد تحرُّجاً يوماً بعد يوم. فقد لعب الجانب الانتدابي بالشركات والكتل السياسية وقضى على الأعمال الاعتباطية التي تصدّت لاعتراض سياسته، ولكن قوة الحزب السوري القومي زادت في هذه الأثناء زيادة كبيرة وتأيّدت معنوياته بنتيجة الرحلة التي قام بها الزعيم إلى أوروبة والمهجر. ورأت السلطة الآن أنها تواجه معضلة جديدة لا عهد لها بمثلها في تاريخها الاحتلالي للأرض السورية. فإن الحزب السوري القومي يعمل بهدوء ويبث عقيدته القومية في أوساط الشعب التي أخذت تُقبِل عليها لما وجدته فيها من أساس وحدة حقيقية، صحيحة للشعب السوري ومصالحه، ولما وجدته في الحزب السوري القومي من رصانة وروية ومقدرة على فهم الأمور والمواقف ومعالجتها بدهاء تحت قيادة زعيم بعيد النظر، واسع الحيلة السياسية دخل ثلاث معارك كبيرة وخرج منها ظافراً مكلل الرأس على الرغم من الأساليب التي استعملتها دوائر الاستخبارات الفرنسية والجاسوسية الوطنية وأذنابها من النفعيين.
أقول ذلك ليس فقط بالاستناد إلى قرائن الحال، بل بالاطلاع على معلومات خطيرة من مصادر موثوقة، مكتومة. فقد بلغني من مصدر لا أشك به أنّ المفوضية قد بلّغت الحكومة اللبنانية، أنّ مسألة الحزب السوري القومي تهمّها مباشرة وأنها ستتولى هي هذه المسألة، بعد أن عجزت الحكومات المحلية عن فعل شيء يستحق الذكر.
ومما يجدر ذكره في هذا الصدد، هو أنّ المفوضية لجأت إلى الحكومات المحلية، بعد المحاكمة الأولى التي كانت أول انتصارات سعاده الساحقة، وكلّفتها ملاحقة الحزب السوري القومي. وقصدها الواضح من ذلك أن تحوّل قضية الحزب القومي إلى تطاحن داخلي، فتثير عليه فئات الطامعين في الحكم التي تعرف كيف تقضي عليه بأساليبها المعروفة، كما ظن الفرنسيون.
والظاهر أنّ الفرنسيين قد أدركوا الآن، أنهم أخطأوا وغلطوا في تقدير قوة عقيدة الحزب السوري القومي وفاعلية حركته وحيوية القوميين، فرأوا أن يعودوا بأنفسهم إلى مجابهة هذه الحركة العظيمة. وهم الآن يهيئون ويستعدّون، ولا أقدّر أنهم يبدأون بشيء قبل وصولهم إلى معلومات وثيقة توقفهم على استعدادات الحزب السوري القومي نفسه ومدى قوّته ومبلغ قواته.
والذي أمكنني الوقوف عليه، هو أنّ المفوضية قررت تولي الأمر بنفسها بعد ما رأته في أول مارس/آذار، عيد مولد الزعيم، من مظاهر قوة الحزب السوري القومي وامتداد نفوذه، خصوصاً ما حدث في دمشق في ذلك اليوم. فقد دخل القوميون سراي الحكومة حتى غصّت بجموعهم، ثم دوّت هتافاتهم بحياة سورية وسعاده دوي الرعود، فهرب الوزراء وكلّف رئيس الوزارة ناموسه مقابلة القوميين وتليين موقفهم. أضف إلى ذلك ما جرى من المظاهر القومية في جهات عديدة، دلّت على أنّ الحركة السورية القومية تتحول إلى حركة جيش عظيم. وجاء بعد ذلك الاستعداد لمؤتمر مجلس الحزب الأعلى ومؤتمر المنفّذين العامين لاثنتين وسبعين منطقة داخلية.
وهنالك معلومات دقيقة وصلت إليّ عن تدابير السلطة واهتمامها. فقد فتش رجال التحري مؤخراً مخزن أدوية «فاخوري وبيضون» حيث يعمل أحد أصحاب المحل الرفيق بشير فاخوري حامل رتبة الأمانة في الحزب السوري القومي. وبعد التفتيش اقتيد الأمين فاخوري إلى دار العدل وأوقف هناك عدة ساعات جرى فيها استجوابه.
وقد شوهد مدير «مكتب التحريات» السيد فرنان أرسانيوس يذهب إلى المفوضية، عدة مرات، في أثناء استجواب الأمين فاخوري، مما دلَّ على أنّ الأمر كان بإيعاز المفوضية الفرنسية نفسها.
وقد فتش بعض رجال التحري في 2 مارس/آذار الماضي منزل جورج عبدالمسيح حامل رتبة الأمانة في الحزب السوري القومي. والسبب كان عثور التحري في أول مارس/آذار على منشور وزع في بيروت، من قبل منفذية بيروت العامة، وفيه حثٌ على «مكافحة الاستعمار البريطاني - الفرنسي - التركي» فلم يعثروا على شيء عنده. وانطلقوا يبحثون عن منفّذ بيروت العام إحسان سالم وحتى الآن لم يقفوا له على أثر.
وفي الثاني من شهر أبريل/نيسان الماضي استدعى مفتش الجندرمة في الجمهورية اللبنانية، الكولونيل بوافان، أحد أعضاء الحزب السوري القومي، الرفيق يوسف حداد وطلب منه أن يعطيه معلومات عن عدد أفراد الجندرمة المنضوين تحت لواء الحزب السوري القومي. وكان يطلب منه ذلك كما لو كان الرفيق القومي هو الذي عرض نفسه لإعطاء هذه المعلومات، فكان الكولونيل يقول له «إنّي أريد أرقاماً وأسماء لا مجرّد تقديرات». فوقف العضو المذكور مبهوتاً من هذه المفاجأة الغريبة. وانتهت المسألة بأن الرفيق القومي لم تكن عنده معلومات يدلي بها وبأن الكولونيل اكتفى بهذا المقدار!
وقد علمتُ أنّ دائرة الأمن العام استدعت عدداً من رجال الحزب ومن المطرودين، بقصد الوصول إلى معلومات حقيقية عن الحزب. وقد بُذلت لرجال الحزب الوعود بالمال والوظائف. ولكن الدائرة لم تحصل حتى الآن على نتيجة إيجابية.
ويوجه الفرنسيون الآن على الحزب السوري القومي حملة جاسوسية واسعة النطاق تمهيداً للعمل المقبل الذي يمكن الآن التكهن بنوعه ونتائجه. فالحالة حرجة جداً والجانبان يتكتمان ويعملان في الخفاء. وقد بلغني أنّ الحزب السوري القومي غير غافل عن حركات العدو. وفي رسالة تالية أطلعكم على ما يجد.