في سنة 1936، وفي إبّان المفاوضات السورية - الفرنسية لعقد معاهدة صداقة تحلّ محل الانتداب، أذاع زعيم الحزب السوري القومي بلاغاً عرف بالبلاغ الأزرق أظهر فيه ضعف الأسس التي قامت عليها سياسة المفاوضات من الجانب «الوطني» وانتقد هذا الجانب وحمّله تبعة الاقتصار في مفاوضات سنة 1936 على مطاليب سنة 1928 والاعتماد على سياسة المفاوضات وإهمال أمر تنظيم البلاد. فقام المتشيعون لـ «الكتلة الوطنية» يجدون الأعذار ويؤولون الأمور تأويلاً يقصد منه تبرير العمل الذي قامت به هذه الشركة السياسية، كما أوّلوا، فيما بعد، أسباب محاربتها الحزب السوري القومي، الذي تبيّن لكل مبصر أنه الحزب الذي أوجد قضية الأمة السورية وعقيدة القومية التي لا قيام لأمة بدونها.
ورأى زعيم الحزب السوري التهور السياسي الذي أخذت الكتلة في جر الأمة إليه، فحاول جهده منع النكبة التي كان يراها آتية فأرسل إلى دمشق الوفود لمخابرة الكتلة ودرس المسائل الموضوعة على بساط البحث، ثم سعى بنفسه لإيجاد خطة مشتركة خصوصاً في صدد قضية الإسكندرونة فتعيّن موعد يتقابل فيه الزعيم ورئيس الوزارة الكتلية جميل مردم في صوفر بمناسبة اجتماع وفدي الوزارتين الشامية واللبنانية في صيف 1937، وجرت المقابلة في الفندق الكبير واستغرقت نحو ساعتين وكان موقف السيد مردم موقف تقدير وانتهت المقابلة على أن يصير اجتماع آخر بين الاثنين، فحدث الاجتماع في أوائل الخريف. فوضع الزعيم على بساط البحث مسألة الإسكندرونة وأوضح خطرها على مصير القضية القومية وعرض على رئيس الوزارة حينئذٍ التفاهم على أن تقف الكتلة موقف الحياد، إذا كانت لا تريد تأييد موقف الحزب السوري القومي، الذي كان في عزمه القيام بحملة عنيفة تنقذ بعض الحقوق السورية إن لم يكن من المستطاع إنقاذها كلها. ولكن السيد مردم أجاب الزعيم:
«إننا بالحقيقة» لم نخسر شيئاً يستحق الذكر بفقد لواء الإسكندرونة وإننا نعتقد بالعكس، نرى أنّ تركية هي التي خسرت بضم اللواء الذي يحتوي عناصر غير تركية تسبب لها مشاكل كثيرة.
تجاه هذا التصريح الخَطِر الدال على عدم شعور بالمسؤولية وعلى غباوة في المسائل السياسية والمصالح القومية ما بعدها غباوة، اضطر الزعيم لأن يقطع المحادثات. ومنذ تلك الساعة لم يعد في الإمكان، عبر الهوة السياسية العميقة التي أحدثها موقف «الكتلة الوطنية» وحكومتها من مسألة الإسكندرونة وظهر جلياً من هذه الحادثة أنّ سياسة الحزب السوري القومي وسياسة شركة الكتلة تسيران في اتجاهين مختلفين أو متعاكسين.
ومرت الأيام وابتدأ صدق قول الزعيم في سياسة «الكتلة الوطنية» والمعاهدة يتحقق. فالكتلة أخذت تتعثر بين خطأ وخطأ. فأهملت كل فرصة سنحت للتفاهم مع الحزب السوري القومي، الذي برهن الاختبار على أنه الحزب الوحيد الذي يستطيع توحيد عقائد الأمة في عقيدته القومية وإعطاء الأمة الفاعلية الروحية الموحدة، وأغفلت المصالح الأساسية التي يمكن توحيد إرادة الأمة عليها ورفضت قبول الرأي أو المساعدة وتشبثت بصلفها واستسلمت للعبة المعاهدة التي كانت تحتاج إلى العقلية القومية، المختلفة عن عقلية الكتليين الشرقية أو الرجعية وسمّت هذا الاستسلام المعيب «السياسة الإيجابية» كما سمّت التساهل في مصالح الأمة «سياسة خذ وطالب» فأعطوا فرنسة الوقت الكافي لإجراء مناورتها السياسية مع تركية وأخذت تتنازل عن مصالح السيادة القومية مصلحة مصلحة. وفي حين تظن هي أنّ هذا التسليم سيكسبها ورقة لا قيمة لها اسمها «معاهدة»، إذا بهذه «المعاهدة» تطير في الساعة عينها التي يعطي فيها بطلها السوري تصريحات في صدد المصادقة عليها وعن وضعها موضع التنفيذ.
يتبجح الكتليون كثيراً بمآتيهم حين كانوا في الحكم، وكرر السيد جميل مردم في عهد وزارته السيّىء الطالع تلك العبارة البدوية السخيفة، التي قالوها في «أربعين هنانو» حين رأوا أن يفعلوا شيئاً لتحويل أنظار الشعب عن قضية الحزب السوري القومي الجديدة وهي «والله إنّهم (الفرنسيين) لو منعونا عقالاً لحاربناهم عليه» فأعاد هذه العبارة الخيالية في العاصمة السورية في حفلة آل نظام في الثالث والعشرين من يونيو/حزيران سنة 1938، دون أن يحمر له وجه أو يندى له جبين لذهاب لواء الإسكندرونة والتسليم بالامتيازات الفرنسية الحربية والسياسية القاتلة كل معنى من معاني السيادة القومية.
قبل ذهاب مردم الأخير إلى باريس، الذي تنبأت بشؤمه الأوساط السورية القومية السياسية وقف هو خطيباً في الجامع الأموي في التاسع والعشرين من شهر يوليو/تموز الماضي فقال من فيض علمه إنه كان ولا يزال يدعو إلى التآزر والتضامن، لأنه يريد «أن يرغم الجميع على الاتحاد» معلناً جهله أنّ الاتحاد لا يكون بالأرقام بل بإيجاد عوامل الاتحاد وهي التي أوجدها الحزب السوري القومي وأهم هذه العوامل فصل الدين عن الدولة وإلغاء الامتيازات الإقطاعية والدينية الذي قال به سعاده. وقد أشار مردم بصورة واضحة إلى كيفية الإرغام في خطاب قبل هذا الخطاب بأيام قليلة ألقاه في حفلة التجارة. فبعد أن تبجح بدعواه قال: «إنّ واجب جميع أبناء الأمة أن يتضامنوا وتتآزر جهودهم لإنقاذ سفينته وإلا فإننا سنكرههم على تحقيق الوحدة الوطنية بالقوة (يا ستار! إكراه من وبقوة من؟)»
هكذا أقوال مردم، وهو رئيس الوزارة في سنة 1938 بعد أن رفض ما عرضه عليه زعيم الحزب السوري القومي في صدد توحيد الأعمال القومية ومواجهة الخطر التركي بصورة عملية!
والظاهر أنّ مردم كان يفكر بالقوة واستعمالها منذ رفض ما عرضه عليه سعاده. والظاهر أنه استند إلى تأييد بعض الفرنسيين كالسيد «غراه» الذي زار سورية موفداً رسمياً لدرس حالتها، فالسيد غراه أوصى الحكومة الفرنسية في تقريره بتأييد «الكتلة الوطنية» لأنها الصديقة «التي يمكن فرنسة أن تعتمد عليها» فالسيد مردم لم يكن يرى التآزر والتضامن في مقابلة مساعي الزعيم بما تقضي به مصلحة الوطن، بل في استعمال حراب السنغاليين، بواسطة الصداقة الكتلية - الفرنسية، لإرغام الحزب السوري القومي وغيره على التآزر والتضامن!
وأخيراً وصلت هذه السياسة الكتلية - المردمية إلى النتيجة التي لا مفر لأمثالها منها وهي السقوط. وتفيد أنباء مراسلي سورية الجديدة أنّ سقوط «الكتلة الوطنية» كان تاماً، باهراً. فهي لم تسقط فقط من الحكم بل سقطت من الشعب ومن نفوس أعضائها أيضاً، فاستقال رئيسها وانسحب منها عدد من أكبر «سياسييها» وبلغ السقوط معظم تألقه في اعتزال السيد جميل مردم، رأس السياسيين الكتليين، السياسة.
إننا لا ننتظر من الكتليين أنفسهم أن يتعظوا ويتلقنوا درساً مفيداً من هذه النتيجة المخزية لرعونتهم السياسية، فلقد عرف الفاهمون بالاختبار أنّ مزايا الكتلة البربونية لا تساعدهم على نسيان شيء أو تعلم شيء. ولكننا أصبحنا ننتظر بعد هذه البراهين الحسية أن يستفيد الشعب من هذه الدروس استفادة عملية.