بيروت في 15 فبراير/شباط - لمراسلنا الخاص بالطيارة
لم يكن السلم الذي حصل، على أثر الاعتقالات الثالثة، بين الحزب السوري القومي والحكومة اللبنانية التي تمثل المفوضية الفرنسية سوى هدنة موقتة كانت ضرورية للجانبين. فقد كان الحزب السوري القومي في حاجة إلى فترة سلم يعيد فيها تنظيم دوائره ودعم صفوفه وأخذ الأهبة لاستئناف جهاده. وقد نشأت هذه الحاجة عن حرب عنيفة استمرت زهاء سنتين بدون انقطاع اشتبك فيها الحزب مع المفوضية الفرنسية، ثم مع الحكومتين اللبنانية والشامية وما تشتملان عليه من عناصر الرجعة المحالفة للإرادة الأجنبية سراً والمتظاهرة «بالوطنية» علناً. وكانت الحكومة اللبنانية قد أصبحت في حاجة إلى النظر في موقفها الذي زعزعته هذه الحرب، التي لم يصل إلى الرأي العام من تفاصيلها سوى ما يعادل قبصات من بحر.
وقد اختلفت الآراء في البدء في هل تكون هذه الهدنة في مصلحة الحزب السوري القومي أكثر منها في مصلحة الحكومة اللبنانية أم بالعكس. وكان الظاهر في صيف سنة 1937 وخريفها أنّ الهدنة كانت لمصلحة خصوم النهضة السورية القومية، الذين أخذوا يشيعون إشاعات غريبة ساعدهم على ترويجها جميع الذين كانت لهم مصالح انتخابية، ولم يكونوا واثقين من أنفسهم ولا يعرفون شيئاً عن سياسة الحزب، التي ظلت طي الكتمان.
ولكن النتائج الأخيرة أظهرت عكس هذا الاعتقاد. فقد عادت الحكومة اللبنانية، التي لا فرق بين أن تكون من فئة الأستاذ إميل إده رئيس الجمهورية وأن تكون من فئة الأستاذ بشارة الخوري «رئيس الكتلة الدستورية» فالفئتان مرجعهما دار الانتداب، إلى ملاحقة الحزب السوري القومي ملاحقة شديدة، كان ظاهرها بحجة التحقيق في ضرب صاحب جريدة المساء للمرة الثالثة في أواخر صيف 1938 لعودته إلى التحامل على الحزب. وفي الحقيقة أنّ هذه الملاحقة الرابعة، التي أظهرت فشل الحكومة اللبنانية وتفوّق مؤسسات الحزب السوري القومي عليها، كانت بناءً على ما بلغ دائرة الاستخبارات الفرنسية من قيام الحزب السوري القومي بتوسيع دائرة التدريب التطوعي وتوزيع بعض الخبراء العسكريين على بعض المناطق الاستراتيجية وإعداد الزعيم برنامج رحلته إلى المهاجر.
فأُوعز إلى «مكتب التحريات» الذي أنشىء خصيصاً في الحكومة اللبنانية لتعقّب حركات الحزب السوري القومي، بملاحقة الحزب والقبض على زعيمه وأركانه. ويظهر أنّ دوائر استخبارات الحزب السوري القومي كانت أقوى وأسرع من دوائر استخبارات جيش الشرق و«مكتب التحريات» فقد بلغنا من مصدر موثوق جداً أنّ دوائر الحزب العليا أخذت علماً بالتدابير الجارية لإحباط مشاريع التدريب الجندي ورحلة الزعيم إلى المهجر وأخذت الحيطة لهذه التدابير جميعها. فأمرت بإحداث تنقلات بعض الموظفين والمدربين، بحيث يتعذر على أعداء الحزب تطبيق معلوماتهم وتعليماتهم وباشر الزعيم رحلته في الوقت الذي كان معيّناً ولم يطّلع عليه غير أعضاء المجلس الأعلى. فانتقل في الحادي عشر من يونيو/حزيران الماضي من بيروت إلى دمشق حيث تفقد شؤون تلك المنفذية وفي اليوم التالي تابع سفره إلى شرق الأردن حيث يوجد فرع قوي للحزب، فبقي هناك عدة أيام، يتفقد شؤونه ثم انتقل إلى فلسطين وتابع رحلته من مرفأ حيفا إلى أوروبة فأميركة.
في اليوم التالي لمبارحة الزعيم دمشق إلى شرق الأردن داهمت قوة من التحري التابعة لإدارة الشرطة والأمن العام مكتب الحزب المركزي في بيروت، بقصد إلقاء القبض على الزعيـم وعمُده. ولكن هذه القوة عـادت خائبـة، الأمر الذي أدى إلى اضطراب الدوائر الحكومية والمفوضية وإرسال التقريع الشديد إلى المسؤولين. وظلت دوائر الأمن العام تراقب الحزب، بقصد الاهتداء إلى مقر الزعيم والقبض عليه وتعطيل برنامجه العسكري وخطة رحلته، حتى أدركت بعد مضي ما يزيد على شهر كامل أنّ الزعيم يصرف وقت راحة في مصايف جزيرة قبرص قبل البدء برحلته. فكان هذا الخبر أشبه بصاعقة انقضّت على أعداء القضية القومية، وأدى إلى سلسلة أعمال جنونية قام بها «رئيس مكتب التحريات» وبعض دوائر دار العدل في لبنان وإلى حملة إشاعات قوية في الصحف وفي أولها جريدة البشير الأجنبية. وحاولت هذه الصحف جهدها [أن] تصوِّر انتصار الحزب الرائع بصورة انكسار ورحلة الزعيم، التي كانت مقررة في برنامج سنة 1938، بصورة «هرب». وكانت الحكومة قد هيأت لهذه الحملة الجديدة من الإشاعات بتعطيل جريدة الحزب «إلى أجل غير مسمى». ولكن كل هذه التدابير كانت عقيمة فإن تنقّل الزعيم بحرّية كذّب جميع الإشاعات عن «هربه» وكل ما حاولت هذه الإشاعات أن تلصقه به من دعاوى وتهم. وهكذا تبين أنّ الهدنة التي تمكن الزعيم بمرونته من الحصول عليها وتمديد مدتها، كانت انتصاراً سياسياً عظيماً له لم تتمكن من كسفها جميع الأعمال الجنونية، التي أتتها دوائر القضاء والأمن العام في لبنان.
بعد حبوط خطة أعداء الحزب السوري القومي لتعطيل أعماله ومشاريعه والقبض على قوّته المبتكرة، انفجر حقد دوائر الأمن الحكومية بشكل حملات «تفتيش» تعيد إلى الذاكرة أعمال ديوان التفتيش التاريخي المشهور، خصوصاً «مكتب التحريات» الذي يرأسه رجل يحمل وظيفة المدعي العام المركزي في «الجمهورية اللبنانية».
ومجرّد قبول المدعي العام المركزي ترؤس هذا المكتب الذي يحتاج إلى رجل يمتاز بالأعمال الجاسوسية لا بالقضاء والعدل يدل دلالة واضحة على قيمة القضاء والعدل في هذا العهد. فقد قام رئيس «مكتب التحريات» بعدة حملات ظهرت فيها ما يحمله الرجعيون من شراسة الحقد على الحزب السوري القومي، خصوصاً في مداهمة بيت جرجس الحداد الذي له ثلاثة أولاد جميعهم أعضاء في الحزب. وكان ذلك في أواخر يونيو/حزيران الماضي، فعاثوا في البيت، غير مراعين حرمة وعزقوا أرض الحديقة وقلعوا بلاط الدار متوهمين أنهم بمثل هذا «التفتيش» يتمكنون من الحصول على وثائق حزبية وأدلة على أعمال الحزب. ولـمّا لم يعثروا على شيء استاقوا الشابين فؤاد ويوسف الحداد وأمهما إلى السجن بداعي أنهم وجهوا إلى المهاجمين مثل هذه العبارات: «لا يجوز لكم أن تدخلوا البيت وتفتشوا بدون حضور المختار.
يخرب بيوتكم! خربتوا بيتنا!» وهذه ليست أول مرة تتعرض فيه هذه العائلة للاضطهاد بسبب عقيدتها القومية. وكان المدعي العام أو رئيس مكتب التجسس يقول للموقوفين وهو يجرّهم إلى السجن: «إن كان مش عاجبكم لبنان انقبروا روحوا عيشوا بسورية»! كأن لبنان ملك من أملاكه الخاصة وكأن أهل لبنان عبيد عند طبقة نفعية موالية لكل حكم أجنبي.
الحقيقة أنّ الغيرة على لبنان ليست عند هؤلاء الذين يرون الحياة في وظيفة أو معاش سوى ستار يسترون به فظاعة الشراسة، التي يسعون بها وراء منافعهم ومعظمها يقوم على خدمة السياسة الأجنبية.
ومهما يكن من شيء فقد جرت محاكمة بيت الحداد على «جريمتهم» بصورة يمكن أن تُعدّ مثالاً لقبائل أفريقية المتوحشة. فإن رئيس المحكمة وجّه إلى المتهمين مثل هذه العبارة: «مبيّن دعسوا رقبتكم وجروكم مثل الفيران عالحبس»! كل ذلك ليبين حضرة رئيس المحكمة أنه لا يجوز في لبنان الاعتراض على مهاجمة البيوت الوادعة والعبث فيها من قبل جواسيس الفئة الحاكمة، التي جرّت أهل لبنان إلى حالة من الفقر والانحطاط تضاهي الحالة التي رأتها سورية أثناء الحرب الماضية. فليس للبنانيين حقوق مدنية يجب احترامها وليس لهم حرية اعتقاد، بل هم جماعة يجب أن تذعن لما يفرض عليها فرضاً. وقد قيل عن الأستاذ إده إنه قال للفرنسيين في عرض جدل عن كيفية إخضاع اللبنانيين ونزع كل استقلال فكري وكل طموح من رؤوسهم: «أنا أخْبرَ الناس بالشعب في لبنان وإني كفيل بسوقه بالعصا.» أما المحكمة الموقرة فقد حكمت على فؤاد حداد بالسجن ستة أشهر! وعلى يوسف بالحبس شهرين وغرّمت الوالدة بمبلغ خمس وعشرين ليرة سورية، لأن أهل هذا البيت البسطاء قالوا لرجال التحري إنّ تحري المنازل يجب أن يكون بإشراف مختار المحلة، كما ينص القانون!
كانت هذه الحملة الحكومية على منزل عائلة قومية بسيطة تشفياً دنيئاً لم تلبث حقارته أن ظهرت للرأي العام، الذي وجد فيه قباحة ضد كرامة الشعب بأسره. فرأى المدعي العام المركزي السيد فرنان أرسانيوس، الذي لا يخجل من الجمع بين وظيفة الدفاع عن الحق العام ووظيفة الجاسوسية الحقيرة، التي انشىء لها «مكتب التحريات»، أنه تجاه فشل جديد جعله أضحوكة الناس، الذين سمعوا شيئاً كثيراً عن «حملاته» و«خططه»، ورأت الحكومة والسلطة أنهما تجاه حالة جديدة لا تعرفان كيف تحتالان لها، فقد حبطت كل مشاريعهما ضد الحزب وأسقط في أيديهما ولم تعودا تعرفان كيف تخرجان من المأزق الذي أوقعتهما فيه بطولة السيد فرنان أرسانيوس رئيس «مكتب التحريات» والمدعي العام المركزي.
ولقد اتضح لأوساط الحزب السوري القومي أنّ المؤامرة التي حاكتها دوائر «الأمن العام» بالاشتراك مع بعض دوائر القضاء وبعض المراجع العليا إنتهت إلى وضع خطة عامة للقضاء على الحزب القومي قضاءً نهائياً. وقسمت الخطة العامة إلى خطوط رئيسية هذه هي:
النتائج السلبية
أولاً - تبيّن من الاختبارات الماضية أنّ اضطهاد السوريين القوميين من أجل عقيدتهم لم يُضعف شيئاً من معنويات الحزب السوري القومي ولا من قيمته تجاه الشعب.
ثانياً - تبيّن أنّ كل محاكمة سياسية للزعيم تنتهي بانتصار جديد وفتح جديد في الرأي العام وملاشاة كل نتيجة من نتائج عرقلة حركة الحزب ونموه.
ثالثاً - تبيّن أنّ شخصية الزعيم هي الكتلة المغنطيسية التي تتجمع فيها معنويات الحزب وعوامل قوة الحركة القومية.
رابعاً - تبيّن بعد الدرس أنّ قتل الزعيم وهو في قبضة القضاء، كما صرح المدعي العام السابق أنّ في نية الحكومة تنفيذه يقوي الحركة، بدلاً من أن يضعفها، ويؤدي إلى عواقب وخيمة ويستعجل الحوادث التي تخشى الحكومة وقوعها.
فصول الخطة الإيجابية
بناءً على الأسباب المتقدمة تكون الخطة كما يلي:
أولاً - يجب أن يُضرب الحزب في شخص زعيمه أولاً.
ثانياً - بما أنه لا يمكن مهاجمة الزعيم سياسياً، لأنه لا يوجد فيه نقطة ضعف ولا منكشف قابل للطعن، يجب مهاجمته بصورة عدلية، على الأقل في الظاهر.
ثالثاً - وبما أنه يجب تجنب كل ملاحقة سياسية للحزب تثير قضيته بشكل خطير يكون الشكل الإيجابي هكذا:
أ - يطلب من المرشح اليهودي - الشيوعي للانتخابات الماضية الأستاذ جبرائيل منسى الناقم على الحزب السوري القومي لأن الحزب هاجمه في جريدته وبيّن نفعية برنامجه الانتخابي أن يقيم دعوى مزوّرة على الزعيم ورئيس مجلس عمُده السابق.
ب - يسلّم التحقيق في هذه القضية إلى التحري، بدلاً من تسليمه إلى الشرطة العادية.
ج - يداهم التحري مكتب الحزب السوري القومي بحجة التحقيق في الدعوى المزورة ويقبض على الزعيم وعمُده وتصادر الوثائق الموجودة في المركز، التي تصبح وسيلة لفتح تحقيق جديد في قضية الحزب السوري القومي ومراميه. ولكن هذا التحقيق يكون كحجة قضائية فقط لإطالة التوقيف فلا ينشر عنه شيء في الصحف.
د - قبل المباشرة بتنفيذ هذه الخطة تعطّل جريدة الحزب السوري القومي إلى أجل غير مسمّى فلا يبقى للحزب من وسيلة لرد الافتراءات والإشاعات غير النشرات، التي يمكن مصادرتها بحجة أنها غير قانونية.
هـ - تتبلغ جميع الصحف وخصوصاً الحكومية والإكليريكية منها الأخبار والتقارير الكاذبة التي يجب أن تنشرها كما نشرت أخباراً كاذبة عن تسلط إرادات أجنبية على الحركة القومية المستقلة.
و - تمتنع جميع الصحف عن نشر أي خبر أو مقال يأتي من مصدر حزبي أو موالٍ للحزب وكل ما هو في مصلحة الحزب.
ز - يبقى الزعيم وعمُده لا أقلّ من ستة أشهر قيد التحقيق في تعذيب ومعاملة قاسية لا تقاس بها المعاملات القاسية الماضية. وفي هذه الأثناء ترتب المراجع الحكومية والقضائية أسباباً مزورة كافية لإصدار أحكام لمدات طويلة.
وقد علّق مرجع قومي عالٍ على هذه الخطة فقال إنّ المتآمرين قد أجهدوا قرائحهم كثيراً لإخراج هذه الخطة، التي لا تخفى حقارتها وسخافتها، إلا على الذين يجهلون أسرار قوة الزعيم ومتانة المنظمة القومية التي لا يمكن مهاجمتها بمثل هذه الخطط الصبيانية.