(أطلعنا زعيم الحزب السوري القومي على تصريح المفوض الفرنسي الجديد السيد بيو، الذي أدلى به قبيل سفره إلى سورية، إلى جريدة الطان ويراه القارىء في مكان آخر من هذا العدد وسألناه رأيه فيه فتكرم علينا بالحديث التالي الذي تظهر فيه دقة نظر الزعيم المشهورة.)
منطق النفسية الشرقية
كل إنسان تسند إليه وظيفة يترتب عليه، من باب العرف الاجتماعي - الإداري، أن يشعر بخطورة العمل الذي أسند إليه. وكذلك السيد بيو. على أنّ شعور المفوض الجديد لمنطقة الانتداب الفرنسي لم يكن شعوراً بسيطاً بالمسؤولية والواجب كشعور العسكريين أو غير المثقفين ثقافة عالية، بل شعوراً مركّباً لرجل ذي ثقافة عالية تسمح له أن يدرك القضايا الأساسية في المهمة التي انتدب لها وهي قضايا تتعلق بالغرض من الانتداب الفرنسي ومرامي الدولة الفرنسية. ومن هذه الناحية نرى في التفسيرات الجديدة، التي يدلي بها المفوض الجديد الأدلة الكافية على أسباب اصطدام نهضتنا القومية بمرامي الدولة المنتدبة وسياسة الانتداب وما نشأ عن ذلك من حروب صامتة عنيفة، وعراك خفي لا يزال جارياً.
يتكلم السيد بيو في حديثه إلى الطان عن «المتناقضات» التي يجدها «العقل المولع بالمنطق»، وهو يعني بها المتناقضات التي سمعها من أشخاص إكليريكيين وجنود و«مفكرين» وغيرهم، ويقول إنه وجد الحل لهذه المتناقضات دون الالتجاء إلى فلسفة هيغل التي تنظر في تعارض النظريات وإيجاد التداغم. وهذا الحل الذي يقدمه المفوض الانتدابي الجديد هو: معرفة «النفسية الشرقية».
إني لا أشك مطلقاً في أنّ متناقضات مثل المتناقضات التي سمعها السيد بيو من إكليريكيين وجنود وماليين و«مفكرين» ليست من المتناقضات التي يصح الالتجاء فيها إلى فلسفة هيغل. فهي ليست متناقضات فلسفية أساسية أو جوهرية كالتي تبحث فيها فلسفة هيغل، بل متناقضات وجوه نظر شخصية فردية أو أولية. ولكن المسألة السورية ليست قائمة في هذه المتناقضات، بل في متناقضات من نوع أعلى جداً أتعجب من أنّ «عقلاً مولعاً بالمنطق» كعقل السيد بيو غفل عنه أو أغفله في حين أنّ متناقضاته جوهرية وأساسية. وهذه المتناقضات هي في قضية الانتداب والغرض منه كما تراه سورية وكما تراه فرنسة.
إنّ المتناقضات، التي قد يكون وجدها السيد بيو في الأفراد «المثقفين» ثقافة لا يمكن أن نفهم منها شيئاً واضحاً في هذا الصدد، الذين حدثهم بمناسبة تعيينه مفوضاً لسورية الشمالية، ليست من الأدلة النفسية لأمة بأسرها. وتعرُّض السيد بيو «للنفسية الشرقية» في هذه المسألة ليس من الأمور التي يستسيغها العقل السوري الصحيح المولع بالمنطق.
لا مبرر على الإطلاق لحشر النفسية السورية في «النفسية الشرقية» ووضع سورية في مستوى المستعمرات الأفريقية التي تسيطر عليها فرنسة. فلقد نفيت الخرافة القائلة إنّ سورية أمة شرقية. إنّ سورية ليست أمة شرقية وليس لها «نفسية شرقية»، بل هي أمة مديترانية ولها نفسية التمدن الحديث الذي وُضعت قواعده الأساسية في سورية. وهذه النفسية تختلف كلّ الاختلاف عن «النفسية الشرقية» التي يجب ألا يغفل عنها مفوض إحدى الإمبراطوريات في الممتلكات الأفريقية أو الآسيوية البعيدة.
أما في سورية فيمكن لعقليات أصحاب المتناقضات التي سمعها المفوض الفرنسي أن تقبلها، وأما العقلية السورية الصحيحة الممثلة في النهضة السورية القومية فتعدّها تهجماً على كرامة الشعب وترفضها رفضاً باتاً.
سورية وفرنسة في المتوسط
قلت إنّ هنالك متناقضات جوهرية تختلف عن المتناقضات الإفرادية، التي أحب المفوض الفرنسي الجديد سماعها، موجودة في تفسير الغرض من «الانتداب». فغرض الانتداب من الوجهة الفرنسية، كما يفسره لنا تصريح السيد بيو، هو أن تقيم فرنسة لإمبراطوريتها مركز قوة في الشاطىء الشرقي من البحر المتوسط. فسورية، من وجهة النظر الفرنسية، ليست سوى بقعة تمرّ فيها طريق الهند الجديدة، وتمتد عليها أنابيب النفط، ووسط من الأوساط المحمدية تعشش فيه «النفسية الشرقية» وتتخّذ أشكالاً يجب على فرنسة ألا تهملها لعلاقتها بإمبراطوريتها في المغرب. ولذلك يرى السيد بيو أنّ فرنسة يجب أن تبني قاعدة حركاتها في الشرق الأدنى على الشاطىء السوري.
إنّ عقلاً مولعاً بالمنطق لا يمكنه أن يغفل هذه المناقضة الجوهرية لحقوق سيادتنا المعترف لنا بها، كما بيّنته أمام المحكمة المختلطة في يناير/كانون الثاني 1936. وإنّ هذه المناقضة لوجهة النظر التي تعتبر سورية أمة لها حق السيادة هي التي أوجبت هذه المشادة العنيفة بين الحزب السوري القومي ودار الانتداب.
عند الانتهاء من الدور الأول للمشادة أي بعد الاعتقالات الثانية التي ظهر فيها الحزب السوري القومي أنه أشد وأقوى من ذي قبل جرت محاولة لدرس الموقف من جانب الحزب وجانب المفوضية. وبعد مقابلات تمهيدية جرت بين بعض كبار الموظفين في الحزب ورئيس الغرفة السياسية في المفوضية جرت عدة اجتماعات بيني وبين رئيس الغرفة المذكورة، بيّنت فيها أنّ هذه هي النقطة الجوهرية التي تصطدم عندها سياسة الحزب وسياسة الانتداب. وكنت ظننت أنّ الجانب الانتدابي أخذ يرى ضرورة تغيير وجهة نظره، حين قال لي المفوض السابق الكنط دي مارتل «زعيم معناه قائد. فإلى أين تريدون أن تقودونا؟» فاستحسنت كلمته ولمست فيها نية حسنة وقلت: «إننا نفضل التفاهم على أساس الاعتراف بحقنا»، فأبدى رغبته في الوصول إلى تفاهم وبتّ أرقب الموقف السياسي. فإذا هو يتطور نحو الفصل بين المصالح المشتركة وسياسة الاهتمام بالامتيازات المالية والحربية والاقتصادية. فوجدت أنّ المناقضة الجوهرية لا تزال قائمة وهي هذه المناقضة التي جاء يثبتها تصريح السيد بيو.
Autochtones, Indigenes
لا يقف تصريح السيد بيو عند هذا الحد، بل يتجاوزه إلى تصريح خطير جداً، هو قوله «يجب أن نضع نصب أعيننا تعهداتنا نحو أقوام البلاد الأصليين» وقوله في صدد اكتساب اطمئنان «سكان البلاد الأصليين».
إنّ هذا التصريح جدير بأن يوجه إلى شعوب النفسية الشرقية ولكنه متى تناول أمة كالأمة السورية عدّ تحقيراً وتعدياً على كرامتها.
إنّ السوريين حين كانوا يستعمرون الشاطىء الشمالي والغربي من أفريقية وشبه جزيرة أيبرية كانوا أول أمة ودولة ميّزت بين أصحاب البلاد بحق الاستعمار وأقوام البلاد الأصليين (أوتخطون) [Autochtones] الخاضعين لسلطانهم. إنّ الكلام على «الأقوام الأصلية» يتضمن الاعتراف بجماعات أو مؤسسات حقوقية جديدة كالكلام عن سكان أميركة الأصليين وجماعاتها الجديدة.
ومثل استعمال كلمة السكان الأصليين استعمال كلمة «إنديجن» [Indigenes] التي تكاد تكون مرادفة لكلمة «أوتخطون» فكلمة «إنديجن» التي تعني أهل الأرض بصرف النظر عن كل فكرة حقوقية قد استعملت كثيراً، حتى أصبحت مستساغة في الوطن وساعد على تعميمها جرائد سوريّة تصدر باللغة الفرنسية في بيروت ويحررها عدد من «المفكرين» فهذه الصحف تفرّق مثلاً بين المحاكم المختلطة أو الفرنسية ومحاكم «الإنديجن» والكلمة التي يجب استعمالها لتنطبق على كرامة الأمة هي «ناسيونال» بالمفرد والجمع.
إنّ تسميتنا «أوتخطون» ذوي «نفسية شرقية» يزيد التناقض الروحي أو النفسي بين المطامح السورية الطبيعية والمطامح الفرنسية السياسية.
إحترام العقائد
يتكلم السيد بيو عن احترام العقائد كما يتكلم الزولوجي عن طبائع أنواع من الحيوانات واقعة تحت درسه. فهو يدرس خصائصها ويقيم ما يراه مناسباً من الحواجز بينها.
فالسيد بيو يجهل النفسية السورية جهلاً تاماً ويظهر جهلاً كبيراً للعوامل البسيكولوجية.
وكان من باب السياسة أن يتكلم السيد بيو المنتدب لمهمة سياسية عالية على المحمدية و«العروبة» ليغرّر بالشبيبة السورية للاندفاع وراء الأوهام بدلاً من العمل في الشؤون القومية الموحدة عناصر الأمة. فهذا الكلام لا يمكن أن يكون له أي أثر في سورية القومية التي لا تنخدع بالمغررات والمغريات.
إنّ السيد بيو مؤمن بما قدّر لبلاده وأنا مؤمن بفلاح أمتي. وأرى أنه ما لم تتغير النظرة الأجنبية الخاطئة التي تريد حسبان الأمة السورية ذات «نفسية شرقية» فليس هنالك أي أمل بزوال التصادم بين النفسية السورية القومية والنفسية الأجنبية المستعبدة.