تـمت الـمخابرات والـمفاوضات والاتفاقات حول سلخ لواء الإسكندرونة عن جسم الوطن السوري و«الكتلة الوطنية» لاهية بلعبة «السياسة الإيجابية». وقد بيّنا في الـمقالات السابقة شيئاً عن هذه اللعبة الغريبة التي تضمحل فيها مصالح أمة بأسرها، بينما مصالح السياسيين الـخصوصية تتضخم. وفي حين أنّ الأمة تفقد كل أسباب سيادتها وموارد تقدمها باسم «الـمعاهدة والـحكم الوطني والعهد الـجديد».
وبعد نزول هذه الـخسارة العظيمة، ماذا كان موقف الكتلويين؟ إنهم لم يحركوا ساكناً ولم يقوموا بأية حركة جديدة. إنهم لم يفعلوا شيئاً من ذلك، حتى بعد أن تـحرك الـحزب السوري القومي وأعلن سخطه واستعداده للدفاع عن حقوق الأمة في اللواء.
هنالك حجة يظنها الكتلويون وجيهة في حين أنّ صبيان السياسة أصبحوا يدركون ضعفها وهي: أنّ حكومة إعدادية لكيان جديد لا قِبَل لها بـمقاومة اتفاقات الدول الكبرى.
والصحيح أنّ في هذه الـحجة شيئاً من الصواب في هذا الإطلاق الواسع. ولكن هذه الـحجة لا تبرر الـخسارة كلها. فلو أنّ الكتلويين نزلوا عند رغبة الأمة وتقدموا للتفاهم مع الـمنظمة القومية التي اتضح شأنها في تقوية معنويات الأمة لكانت الأمة تـمكنت من إحداث ضغط سياسي كافٍ لإدخالنا ضلعاً ثالثاً في الاتفاق فلا نفقد تدخّلنا في اللواء السوري.
بيد أنّ إقطاعية الكتلويين أبت عليهم أن يعترفوا بالـحركة القومية ومـمثليها وفضلوا أن يسلّموا البلاد للدعاوات والأخبار الـملفقة. بل هم أنفسهم، وخصوصاً الـمسؤولون منهم، قاموا يؤيدون الدعاوات الأجنبية ويوهمون الشعب أنّ اللواء الشمال الغربي سيظل سورياً نظراً لاحتمال إيجاد علاقة وهمية بين اللواء والشام. والصحيح أنّ أقلّ ما كان يجب أن تقبل به حكومة وطنية تـحترم نفسها هو أن تؤمّن مصلحة الأمة السورية في هذه الاتفاقية الإجبارية بضمان حقوق اشتراك القوات السورية في الدفاع عن الإسكندرونة. أما ترك اللواء لـحماية الـجيش الفرنسي والتركي ومنع الـجيش السوري من حقه في الدفاع عن جزء من وطنه فحقيقة تفضح كل ذلك الكلام الكثير الذي قيل في بقاء لواء الإسكندرونة سورياً وتدل على مقدار الغباوة السياسية التي يتصف بها متسلمو مقاليد الـحكم في الشام.
والآن، بعد أن وُضِعَ لواء الإسكندرونة في يد الأتراك ليهددوا منه سورية كلها، ماذا يعمل «الوطنيون»؟
إنهم يحاولون الآن الاتفاق مع تركية على شروط أهمها مصادقة الـحكومة الشامية على اتفاقية لواء الإسكندرونة!
ومن الـجهة الداخلية ينفّذون سياسة أجنبية واسعة ويقسمون البلاد تقسيماً لم تتجرأ على القيام به حكومة الشيخ تاج الدين [الـحسني]. فهم قد ابتدأوا بإقامة الـحواجز والـحدود بين الشام ولبنان وفصل شؤون هذين الشملين السياسيين الـمشتركة. وقد أثبتوا بذلك أنهم يسيرون في سياسة معاكسة للأماني القومية وموافقة لإضعاف الأمة وتـمكين الـمصالح الأجنبية من موارد البلاد.
إنّ مذكرة الـحزب السوري القومي الاقتصادية التي وضعت في الربيع الـماضي (أنظر ج 2 ص 112) قد أشارت إلى الأخطار العظيمة والـخسائر الفادحة التي تتعرض لها الأمة، فيما لو طبِّقت سياسة القضاء على الـمصالح الـمشتركة. وتلا مذكرة الـحزب السوري القومي بيانات الـمؤسسات التجارية والتجار وذوي الـمصالح الشعبية في الشام ولبنان وكلها تشجب سياسة الإنفصال الاقتصادي. والـحق يجب أن يقال إنه لو كانت حكومة الشيخ تاج الدين اللاقومية والـممقوتة في مكان الـحكومة الكتلوية لـما استطاعت أن تفعل ضد الـمصالح القومية أكثر مـما فعلت حكومة «الكتلة الوطنية».
وتضيف الـحكومة الكتلوية إلى غباوتها السياسية فساد إدارتها. فما كادت تعمل على تشكيل دائرة الـحربية وتكلّف بعض الـحربيين (ويقال أنهم أجانب، أتراك!) وضع خرائط دفاعية حتى افتضحت كل أعمال هذه الدائرة وفقدت الـخرائط. وهو حادث خطير لو حدث في بلاد غير سورية وفي غير ظروفها الـمؤسفة لأدى إلى ثورة تلتهم السياسيين العفنين الـمسؤولين!
ولكن الكتلة كتمت الـحادث وقللت من أهميته، كما قللت من أهمية خسارة لواء الإسكندرونة، وتابعت إدارتها الفاسدة تاركة البلاد معرضة لـخطر الأعداء من الـخارج ومجزأة من الداخل، كأنها وسيلة أجنبية لـخراب البلاد. وماذا تريد القوات الأجنبية الكامنة وراء الـحدود أكثر من ذلك؟
ومع ذلك فليس ما تقدم كل تفاصيل الـحالة الـخطرة التي أوصلتنا إليها السياسة الكتلوية. فهنالك إضعاف في وحدات الـجيش وإسناد مسؤولية الدفاع إلى أجانب، أو إلى فئة غير مؤهلة.
وهنالك سوء إدارة في الـجزيرة وزعزعة للأساس القومي الـحقوقي.
وهنالك ضربات ليس أقدر من «الكتلة الوطنية» على إنزالها بالأمة!