بين سنة 1930 وسنة 1931 جرت حوادث سياسية هامّة في الشام، هي حوادث محاولة الوصول إلى اتفاق لتحويل الانتداب إلى معاهدة. ودعوة أعضاء الدولة إلى انتخاب مجلس نيابي يـمثّل إرادتهم وتأليف حكومـة تتولى القيـام بالـمفاوضات في هذا الصدد.
في ذلك الوقت وُضِعت أمام «الكتلة الوطنية» قضية امتحان لفهمها الأسس الـحقوقية والقومية ولـمقدرتها السياسية. فكثرت اجتماعات الكتلويين وكثر صدور البلاغات الـمصطنعة عن «الـمناقشات الـخطيرة» التي دارت في هذه الاجتماعات، وكثر ما نشرته الصحف عن «القرارات» التي اتخذتها «الكتلة الوطنية» وتضخم في نظر الرأي العام هذان التعبيران: «السياسة السلبية والسياسة الإيجابية» فكان القارىء يظن أنّ «الـمناقشات» هي مناقشات فنية صحيحة، وأنّ «القرارات هي قرارات هيئة منظمة لها سلطة في التشريع والتنفيذ». وكان هذا الستار من الدعاوة البرّاقة يلقي على «الكتلة الوطنية» وشاحاً من الـخطورة.
وشتّان ما بين هذه الـمظاهر الـجوفاء والـحقيقة الهزيلة السقيمة. فـ «مناقشات» الكتلويين لم تكن شيئاً يصح تـمييزه عن الأحاديث العادية في أي مقهى من مقاهي الـمدينة، أو في أي منزل من منازل العائلات. وكانت الاجتماعات تنفضّ بعد أن يقول أحدهم قولاً وجيهاً أو يبدي ثورة عاطفية تهز الـحاضرين وتدفعهم في حركة اعتباطية لا دراسة فيها ولا تخطيط. وبديهي أنّ التكلم على التخطيط في فئة كالكتلة وعمل كأعمال الكتلة هو شيء كالتكلم عن الفلسفة والفلك والاقتصاديات بين قبائل زمبازن ومكلاكا ونيام - نيام.
ولم يكن الأمر يطول على «الـمقررات الـخطيرة» التي كان يتخذها الكتلويون حتى نرى التصريحات الغريبة، الـمتناقضة أحياناً، الـمليئة بالكلمات الفضفاضة الـجوفاء، كتصريحات بعض الكتلويين القائلة: «لا دخول في الانتخابات إلا بعد الوقوف على أسس الـمعاهدة»!
لو فتشت أيها القارىء العزيز، جميع التواريخ السياسية في العالم وبحثت فيها عن جميع التصريحات السياسية، الصبيانية منها وغير الصبيانية، لـما وجدت جهلاً للحقوق القومية والتمثيل الشعبي يضارع جهل أصحاب هذه التصريحات الصبيانية.
في مثل التصريح الـمشار إليه آنفاً كان الكتلويون يعترفون علناً وصراحة أنّ الكلمة الفصل في شؤون الأمة السورية عائدة إلى الأجانب، وأنّ الانتخابات النيابية ليست سوى تشبيه وهمي يقصد منه غش الشعب والتمويه عليه بأنه ينتخب نواباً سيكون لهم كلمة فاصلة في تقرير موقفها، وأنّ شأنهم في القضية ليس سوى شأن الـمساوم الـمساهم في أمر ليس له فيه شراكة أصلية.
تكفي هذه الصورة وحدها لإظهار الفهم التام الناقص الذي يقف عنده الكتلويون في قضية الأمة وحقوقها، وللمهارة السياسية البهلوانية التي يتحلون بها.
هكذا قرروا السياسة السلبية التي سقط فيها ضحايا عديدون في حمص وغيرها. هكذا قرروا «السياسة السلبية» التي سقط ضحاياها في دمشق.
بـمثل هذه «القرارات» العائلية الاجتماعية أعلنوا إضراب دمشق الأخير وبـمثل هذه «القرارات» السخيفة عينها دعوا الشعب إلى العدول عن الإضراب، بعد نزول الـخسائر الفادحة به وسقوط عدد من القتلى لم يكن هنالك مبرر لسقوطهم لو كان مضطلعاً بالأمور غير هؤلاء الكتلويون الـحسني العبادة! ولولا قرارات لـجان الطلبة التي جمع الكلمة عليها خطباء من الـحزب السوري القومي لذهبت الدماء الزكية هدراً.
لم تكن «السياسة السلبية» لرجال الكتلة تنظيماً قومياً لـمقاومة الاستعباد واستنزاف الأمة بل حركات هوجاء، اعتباطية يدفع الشعب إليها جماعة لا فرق بين عقليتهم وعقلية الغوغاء، إلا بشيء واحد وهو أنّ عقلية الغوغاء عقلية اندفاع عملي وعقلية زعماء الغوغاء عقلية كلام اعتباطي.
ثم لـما جاءت «السياسة الإيجابية» ماذا رأينا؟
إننا شاهدنا ونشاهد «السياسة الإيجابية» الكتلوية سياسة تسليم على طول الـخط وسياسة تساهل في حقوق الأمة في وطنها، فذهب لواء الإسكندرونة حالـما قبل الـمجلس الشامي نص الـمعاهدة، بينما السياسيون الكتلويون حائرون يبحثون عن مخرج كلامي يتمكنون به من إلقاء ستار على غباوتهم السياسية الفاضحة.
وقد وجدوا الـمخرج الكلامي في تقليل أهمية لواء الإسكندرونة حتى لا يشعر الشعب بالـخسارة العظيمة التي لـحقته وبالأخطار العظيمة التي تهدده من هذه الناحية التي هي مفتاح البلاد السورية كلها.
وبينما الأتراك يعملون على التهام هذا اللواء السوري الغني الـحصين يرسل الكتلويون معتمديهم للاتفاق مع الأتراك على كيفية قبول الأمر الواقع وإنشاء علاقات ودية على أساسه!
هكذا السلب وهكذا الإيجاب لهؤلاء السياسيين الذين لم يعرف العالم صبياناً في السياسة أشقى منهم وأتعس!