تناولت الاعتقالات والـمحاكمات في روسية الشيوعية الستالينية عدداً كبيراً من أهم الشخصيات الروسية في السياسة والإدارة والـحرب، خصوصاً الشخصيات الـحربية الكبيرة. ولا تزال أنباء الاستدعاءات والتوقيفات والـمحاكمات ترد حتى أصبحت من الأنباء العادية التي يتوقع القارىء أن يراها في الصحف كل يوم.
يستوقف نظر الفاحص اتساع نطاق الدائرة التي تتناولها الـملاحقات، فهي في مركز الدولة وأطراف البلاد وفي مراكز السلك الدبلوماسي في الـخارج. وبين الأشخاص الذين اعتقلوا وحوكموا بعض الذين لعبوا دوراً تأسيسياً في الدولة السوفييتية وفي إنشاء عهد ستالين، وإليهم تعود مظاهر القوة والـمتانة والاستمرار التي ظهرت بها الدولة السوفييتية.
ومن الأمور التي تثير الدهشة الشديدة هذه الاعترافات بالـجملة بالـخيانة والتجسس الصادرة من الـمتهمين أثناء الـمحاكمة. وواحد فقط حاول أن يشذّ عن هذه القاعدة الـمتّبعة بكل دقة، ولكنه عاد بعد مقابلة زوجته فعدل عن محاولته العقيمة «واعترف» بخيانته وتـجسسه لـحساب دولة أجنبية. فإذا الكل جواسيس: بعضهم لـحساب بريطانية العظمى وبعضهم لـحساب ألـمانية وآخرون لـحساب اليابان والبعض لـحساب إيطالية. فهم لا يؤلفون شبكة جاسوسية متصلة الـحلقات، بل جواسيس إفراديون يبيعون أسرار دولتهم لأعداء أمتهم ووطنهم!
يصعب كثيراً تصديق هذه «الاعترافات» الإجماعية بخيانة الدولة وخدمة الـمصالح الأجنبية من أشخاص كبار لهم وزنهم في الدولة، وتاريخ يشهد لهم بـمواقف جرأة ونبالة قصد وشرف في العمل. ومنهم من كانوا أشد رجال الـحركة الشيوعية حيوية واندفاعاً بعد لينين وتروتسكي، ومنهم من كان فخر الـجيش الأحمر ومثاله الأعلى كطوخاشيفسكي.
أجل، يصعب كثيراً التصديق أنّ رجالاً كباراً اشتركوا في الـمجهودات الرئيسية لإيجاد هيبة الـحكم السوفييتي التي أيدوها بشرف تصرّفهم يكونون أو يتحولون إلى مجرّد جواسيس، يعملون لـمصالح دول أجنبية لقاء بعض الفوائد أو الـمنافع الشخصية. إنّ تصور مثل هذا الافتراض يتوغل بنا بعيداً في نقض الـمبادىء النفسية وقوة عواملها ودوافعها، وفي إبطال كلّ ثقة بالأخلاق التي تقوم عليها الـمصالح والقضايا العامة ونفي كل أمل بالأعمال الإنشائية والإصلاحية في الـمجتمع.
نعتقد أنّ إدارة السوفييت الـمركزية لم تكن موفقة في اختيار التهمة التي يجب على الـمتهمين «الاعتراف» بصحتها، لأن هذه التهمة لو صحت لدلّت على انحطاط أخلاقي وفساد مناقبي عام لا يشرّف الـمبادىء التي تقوم عليها الدولة السوفييتية، وتدعو إلى الشك في إخلاص كل رجل مسؤول في روسية اليوم للقضية التي يظهر أنه يعمل لها.
وإذا لم تكن التهمة صحيحة فالـمصيبة أعظم لأنها تدل على أنّ النظام السوفييتي الـحاضر يقوم على الطغيان والإرهاب، وعلى أنّ الـحالة الروسية الـحاضرة حالة غير قائمة على حاجة عامة إليها واقتناع عام بخيرها وضرورة وجودها لـمصلحة روسية.
نحن نـميل إلى الأخذ بهذا الوجه الثاني من مسألة «اعترافات» الـمحاكمين من أركان الإدارة السوفييتية. ونعتقد أنّ الـمسألة ليست مسألة اعتراف بالواقع بل مسألة إرهاب أوجب على الـمتهمين «الاعتراف» بأمور لم يرتكبوها تـحت تهديد قوي بالتنكيل بأهلهم وأولادهم أو ما شاكل.
ونذهب أيضاً إلى الاعتقاد أنّ الواقع لا يتعلق بالـجاسوسية للمصالح الأجنبية مطلقاً، بل يقتصر على عمل داخلي يتعلق بدكتاتورية ستالين وأغراضه.
ومعلوم أنّ ستالين لم يكن من الشخصيات القوية اللامعة على عهد لينين، ولا من نوابغ الـحركة الذين حازوا إعجاب العاملين. فهو أحد تلك العقليات الـمتوسطة التي ينحصر تفكيرها في الاستفادة الـمستعجلة. وهو قد انصرف في أيام لينين الأخيرة إلى الاستفادة من كل ظرف لـجمع مناصرين لـمطامحه وإعداد العدة للانقضاض على الـحكم بعد موت لينين، وهكذا كان.
ولكن «وسطانية» عقلية ستالين لم تكن تـمتاز إلا بهذه الـميزة، ميزة العمل للمطامح الشخصية. وكان من البديهي أن تصطدم وسطانيته بالـمطالب العليا لأشخاص كبار في الدولة. ومع أنه تـمكن من أن يجمع حوله عدداً من القائلين بقبول الأمر الواقع والعمل به ما أمكن العمل، فإن ظاهرة الدكتاتورية الـمفروضة أخذت تصبح ظلاً ثقيلاً على القائلين بالدكتاتورية الـمرغوبة أو الذين يقبلون بها.
ومـما لا شك فيه أنّ تروتسكي كان دائماً لستالين بالـمرصاد. وتروتسكي شخصية قوية كانت أبرز شخصية بعد لينين عملت للانقلاب الروسي. وقد يكون النافرون من طغيان ستالين اتصلوا به وحاولوا توحيد جهودهم للقضاء على زعامة ستالين الـمفروضة بالقوة السياسية الإرهابية لا بالعقلية الكبيرة الـمسيطرة.
تـجتاح روسية اليوم عاصفة تقتيل. ومهما يكن من أمر التّهم الـموجهة إلى الـمحاكمين والـمعتقلين، فالظاهرة ظاهرة محاولة التعويض عن تفسخ النظام السوفييتي الستاليني بالإرهاب، وهي من أعقم الـمحاولات التي يـمكن الالتجاء إليها بقصد شريف.
إنّ الـحالة التي نبحثها هي حالة فقدان الثقة بالنفس وبأسس الكيان القائم ومحاولة التعويض عن هذه الـخسارة الأساسية بالإرهاب. وهي أيضاً مظهر من مظاهر الانشقاق والتفسخ الداخليين في الإدارة الروسية.