في مقالة سابقة (ص 225 أعلاه) عرضنا لعمل الـجمعية الـجزويتية الأجنبية في سورية ولتدخّلها في جميع شؤون الشعب، لأنها جمعية لا تقتصر على التبشير الديني والاهتمام بالروحيات، بل تقوم بأعمال سياسية خفية خدمة لأغراضها الـمشتملة على شيء كثير من استغلال سلامة طوية الشعب السوري واستعباده لنفوذها، وبذل مصالـحه في سبيل مصالـحها الأجنبية.
والظاهر أنّ مقالتنا الأولى كان لها أثر كبير في نفس الشعب فنبهته لطبيعة جمعية الـجزويت الأجنبية وأعمالها الـخفية والعلنية ضد مصلحته. فصار يفهم الآن ما هي هذه الـجمعية الدينية الأجنبية الـمتخذة من الشعب اللبناني ستاراً تستر به أغراضها الـحقيقية، وسلاحاً تطعن به الشعب اللبناني في صميمه، في حياته، وكرامته وحقوقه. فهي لا تفتأ تتكلم باسم لبنان كما لو كان مقاطعة حق السيادة فيها لـجمعية الـجزويت لا للشعب اللبناني، ضاربة بحرّية اللبنانيين عرض الـحائط.
وقد ساء هذه الـجمعية الأجنبية ظهور جريدة النهضة الـحاملة رسالة النهضة القومية الـمستمدة من حياة الأمة الـمعبّرة عن إرادتها، لأنها ستكون عاملاً أولياً في تنبيه الشعب لـحقوقه وللجمعيات الأجنبية العاملة على هضم هذه الـحقوق وتسميم الشعب لينقاد انقياداً أعمى لأغراضها التي تسترها بستار من أسماء وطنية.
وساء هذه الـجمعية، بنوع خاص، ظهور مقالنا الأول في حقيقتها الـمستورة، الذي كشف أمرها وأظهر للشعب خطرها على مصالـحه وشخصيته وإرادته، خصوصاً الشعب في لبنان، إذ تأتيه هذه الـجمعية عن طريق الدين فتشبّه له أن لا حياة له إلا بالسياسة الدينية، وتـحارب الفكرة القومية التي توحّد جماعات الأمة وتـجعلها قوية في حقها ومطالبها العليا، وتعمل لبقاء الانقسامات الداخلية على أساس الدين لتتمم أغراضها الأجنبية ويظل الشعب عبداً لها وللإرادات الأجنبية.
ساء جمعية الـجزويت ظهور النهضة القومية وساءها ظهور جريدة النهضة وساءها أيضاً صدور مقالنا الأول الذي يعيّن محل هذه الـجمعية الأجنبية من حياة الأمة السورية والشعب اللبناني. فعادت تـحمل على الـحزب السوري القومي وعلى جريدة النهضة في جريدتها الدينية الأجنبية البشير وتنادي بأن لبنان قد ذهب إلى السوريين القوميين وتـحرض الـحكومة عليهم وعلى جريدة النهضة.
إنّ هذه الصورة: تـحريض الـحكومة على السوريين القوميين وعلى جريدة النهضة، تدلنا دلالة جلية على طبيعة هذه الـجمعية ومركزها، فهي تدرك أنّ تعاليم النهضة القومية تتغلغل في أوساط الشعب وتـحرره من عبوديتها وعبودية الإرادات الأجنبية. إنها تدرك أنّ قبضتها على الشعب اللبناني ومصالـحه تنحلّ وتتفكك بسرعة بفعل النهضة القومية، فتحاول القيام بـمجهود أخير لإيقاف هذا العمل العظيم الـمحرر للشعب اللبناني من السياسات الدينية الـمجزئة التي جعلته مقسماً، متنابذاً خاضعاً، ضائع السيادة والـحقوق. وقد ظهر هذا الـمجهود بتكبير جريدة هذه الـجمعية الأجنبية البشير وبحملة هذه الـجريدة على قوميي لبنان الذين هم من صميم الشعب اللبناني، بل صميمه وقوّته ومـمثلو مصالـحه وإرادته وحماته من مقسميه ومجزئيه وقاتلي معنوياته ومن الـمستهزئين بحقوقه، ومن جميع العاملين على تسخيره لـمطامعهم وأهوائهم.
إنّ جمعية الـجزويت تدرك اليوم أنّ ظل سلطانها على الشعب اللبناني قد أخذ يتقلص أمام أنوار النهضة القومية، وأنّ مكانتها القديـمة في قلب الشعب السليم الطوية قد أخذت تزول تـجاه تنبّه الشعب بفعل النهضة القومية، حتى أنّ اللبنانيين الذين يحترمون أنفسهم ويعززون كرامة شعبهم أخذوا يشيحون بوجوههم عن جريدة البشير الـجزويتية الأجنبية العاملة على تسميم أفكار الشعب اللبناني وقتل إرادته ومعنوياته، ويعرضون عن مطالعتها مدركين أنّ الشعب اللبناني ليس بحاجة لهذه الـجريدة الأجنبية للتعبير عن إرادته ومطالبه العليا، وأنّ اللبنانيين يقدرون على تسوية مسائلهم الفكرية بعضهم مع بعض بدون هذه الـمساعدات الأجنبية الـمغرضة.
تدرك جمعية الـجزويت اليوم كل هذه الـحقائق الـجديدة وتدرك بالنتيجة أنّ الشعب بعيد عنها فهي لا تـجسر على مخاطبته، إذ إنّ ذلك يكون عبثاً فالشعب لم يعد يؤخذ بحبائلها، فتخاطب الـحكومة وتتملقها بعبارات الزلفى طالبة منها أن تتدخل في شؤون الشعب الفكرية والروحية، وتقتل حريته الفكرية وتـمنع تطوره، والشعب هو الذي له السيادة على حكومته التي يجب أن تخضع لـمشيئته فلا تتحول إلى طغيان على سيادة الشعب وحقوقه.
تريد جمعية الـجزويت أن تسيّر الـحكومة سياستها وفاقاً لـمصالح الـجزويــت لا وفاقـاً لـمصالـح الشعـب. ومثـل هذا الأمر مؤامـرة على حقـوق اللبنانـيين ومصالـحـهم وكرامتهم.
نحن لا نخاطب الـحكومة في شأن جمعية الـجزويت الأجنبية، ومن حقنا أن نخاطبها إذا شئنا، ولكننا نكتفي بتنبيه الرأي العام لتجاوز هذه الـجمعية الأجنبية على شخصية اللبنانيين وامتهانها كرامتهم.