بعد صراع عنيف استقر الشعب الألـماني في البقعة الـمعروفة اليوم بألـمانية التي تكوّن أقوى وأبرز مجتمع جرماني.
لم يكن الشعب الألـماني كل الـجرمان ولم يكن الـجرمان الشعب الألـماني فقط. فمن الـجرمان الأنغل والسكسون الذين ارتـحل قسم منهم إلى إنكلترة وتغلب فيها وولد العالم الأنغلوسكسوني، ومنهم الفرنك الذين عبروا الرين وامتدوا إلى غاليا، أو بلاد الـجلالقة عبر الألب، وكوّنوا من امتزاجهم مع الـجلالقة فرنسة. ومنهم الهولنديون والفلمنك وشعوب الشمال.
فالألـمان هم القبائل الألـمانية الـمتلاصقة التي نزلت بقعة واحدة من الأرض، وظلت متمشية في أطوارها الأولى على نظام القبائل الـملازم للحالة البربرية. ونشأت من هذه القبائل الإمارات الألـمانية كبايرن «بافارية» وساكسن «سكسونية» وبروسن «بروسية» وأسترريخ «أوسترية - النمسة» وغيرها. وكانت هذه الإمارات الـحالة السياسية الأساسية لهذا الشعب الـخارج من طور البربرية. وصورة مصغرة لـحالة هذا الشعب الأولى نـجدها في نظام العشائر في منطقة اللاذقية العلوية. فهنالك أربع عشائر علوية: الـخياطين والـحدادين والرسالنة والـمتاورة. ولكل عشيرة من هذه العشائر شيخ ترجع إليه في أمورها. ولو أنّ هذه العشائر كانت قبائل كبيرة نزلت بقعة أوسع لكان مصيرها حتماً إلى الإمارة الأرضية كما حدث للقبائل الألـمانية التي احتلت بقعة واحدة واسعة نزلت كل قبيلة منها في ناحية منها.
تطورت القبائل الألـمانية اجتماعياً وسياسياً، وخرجت من الـحالة البربرية وأخذ نظام العمران والـمجتمع يتغلب على نظام القبائل. وأخذت إرادة الشعب الـمتولدة من مصالـحه تتغلب على إرادة الشيوخ والأمراء. وأخيراً قويت الـمصلحة القومية على الـمصالح الإقطاعية التي صار إليها نظام القبائل.
وكانت النمسة في بادىء الأمر أقوى إمارة أو دولة من دول هذا الشعب. فكانت تتزعم الـمصالح الألـمانية والإمارات الألـمانية، حتى لكان ينتظر أن تتمّ الوحدة الألـمانية السياسية على يد النمسة. ولكن الظروف السياسية التي تلت، ومجيء عائلة هوهنزلرن إلى بروسن (بروسية) وظهور التنافس بين الهوهنزلرنيين والهبسبورغيين أو بين بروسية والنمسة حالت دون تـحقيق مطامح النمسة في قيادة الشعب الألـماني. فرجحت كفة بروسية التي ظهر فيها فردريك الكبير. وفي ظرف سياسي موافق تنازل الأمراء الألـمان عن سيادتهم الـمطلقة، وصار ملك بروسية إمبراطور الألـمان ما عدا النمسة التي أنشأت إمبراطورية النمسة والـمجر.
ترى مـما تقدم أنّ الوحدة الألـمانية السياسية تـمّت بدون النمسة لأسباب سياسية هي العائلة الـمالكة ومطامحها. أما من الوجهة القومية فلم يكن هنالك مبرر لبقاء النمسة خارج الوحدة الألـمانية.
بعد الـحرب زالت الـموانع السياسية، فقد تفككت الإمبراطورية النمسوية - الـمجرية وزالت العائلتان الهبسبورغية والهوهنزلرنية عن عروشهمـا ولم تعـد الـمسـألة مسألة تنافس بين بروسية والنمسة، وأصبحت الـحالة الـجديدة تقتضي إكمـال الوحـدة الألـمانية.
ومـما يجب مراعاته أنّ النمسة تكوّن قسماً من الـمتحد الاجتماعي الألـماني، فالأرض النمسوية مكملة للأرض الألـمانية، والشعب واحد ومرتبة الثقافة واحدة والدورة الـحيوية الاجتماعية الاقتصادية واحدة.
وقد قوي تيار الوحدة في النمسة على أثر الـحرب، وعمدت إلى استفتاء عام في صدد الوحدة. ولكن الـحلفاء تدخّلوا في ذلك الوقت ومنعوا استمرار الاستفتاء، لأن نتائجه الأولى كانت في مصلحة الوحدة. ولكن حالة النمسة الاقتصادية كانت سيئة جداً. فكان لا بد لها من مساعدة فقررت فرنسة وبريطانية عقد قرض للنمسة وتثبيت نقدها ومساعدتها لتبقى منفصلة عن ألـمانية.
ومع ذلك فلم يـمكن تثبيت وضع النمسة الشاذ، لأن وحدة الـمصالح الـحيوية والنفسية الـمستمرة كانت تتطلب الوحدة السياسية أيضاً.
وقد انتهزت الدولة الألـمانية فرصة مشاكل روسية الداخلية وشللها الإداري الـحربي وترنّح النظام البرلـماني في فرنسة، وتراوح السياسة البريطانية لتحقيق الأنشلوس. وكان الشعب النمسوي مستعداً ولم تتمكن العوامل الأجنبية من إيجاد قوة ساحقة في داخل النمسة تريد الإبقاء على انعزالها عن بقية الشعب الألـماني.
والآن فقد تـمت الوحدة الألـمانية العامة وأصبحت النمسة جزءاً من الدولة الألـمانية بعد أن كانت جزءاً من الأمة الألـمانية. ففي برقية وردت نصف ليل أمس أنّ الوزارة النمسوية النازية أعلنت انضمام النمسة إلى الـجسم الألـماني.
إنّ هذا الـحادث هو أعظم حادث سياسي بعد الـحرب، لأنه في قلب أوروبة ولأن تأثيره على الوضع السياسي الأوروبي سيكون عظيماً جداً فقوة ألـمانية السياسية - الـحربية قد زادت بهذه العملية زيادة عظيمة مع أنّ النمسة قطعة أرض مكملة للعمران الألـماني، فلا صحارى ولا جبال ولا أي حاجز طبيعي أو اجتماعي يفصل بين ألـمانية وجزئها النمسوي.
تدخل السياسة الأوروبية بعد هذا الـحادث في فصـل جديـد. فهـل الـحرب على الأبـواب؟