تسجل الصحف «الكتلوية» نفي رجال الـمعارضة الطعن في رجال الـحكم وتوزيع مناشير تطعن في الـحكومة ورجالها، كمن يسجل على خصمه تراجعاً وانخذالاً.
وتـحاول البيئة الكتلوية أن تظهر في هذه الـحالة بـمظهر الظافر القوي الـمعنويات.
ليس لنا أي دليل على أنّ رجال الـمعارضة وضعوا الـمناشير التي وُزِّعت أو لا على أنهم هم الذين يسببون حالة القلق والـخوف والشعور بسوء الـحال. فقد يكونون هم الـمتقدمين لقيادة هذا الشعور الناشىء عن الـخسائر الوطنية وسوء السياسة وفقد الروح القومية.
الـحقيقة أنّ عَمْدَ الـحكومة الشامية إلى اعتقال مترئسي الشعور الشعبي بالـحالة السيئة وبينهم نائب له حصانته ليس دليلاً على قوة الـحكومة بقدر ما هو دليل على خطورة الـحالة الداخلية. فسياسة البطش لا تستعمل عادة إلا حيث تفشل الإدارة في سياسة الإصلاح.
لا شك في أنّ الـمعارضة نشأت بناءً على وجود استياء في أوساط الشعب من النتائج التي وصلت إليها السياسة الكتلوية، وأنها لم تفكر في أسس الإنشاء القومي ولم تـجعل مواد الإنشاء القومي هدفها الواضح، وأنها اكتفت بانتقاد الـحكومة والـحملة على سياستها الـمقصرة واقتصرت على تـحريك الاستياء. ولكن كل ذلك لا يعني أنها هي السبب في ما يلمسه الـمرء من الشعور بالـخيبة في الأوساط الشعبية من النتائج السيئة التي بلغت إليها الأمة على عهد السياسة الـجديدة.
وعلى افتراض أنّ الـحكومة نكّلت بـمؤلفي جبهـة الـمعارضـة، فهـل تزول حاجـة الشعـب إلى عهـد جديـد وحركـة إنشائية تتكفـل بالإصـلاح القومـي، وإلى وجـوب تغيير الـحـال الـمضطـرب ووضـع الأهـداف القوميـة محـل الرطانـة «الوطنية» وتوحيـد جماعـات الأمـة ومصالـحهـا في النهضـة القوميـة؟
لا نعتقد أنّ توحيد الـحكم يكون وحده أساساً كافياً لتثبيت دولة ناشئة. والكتلويون الذين لم تكن لهم أهداف غير هدف إبدال الـمعاهدة بالانتداب وتوحيد الـحكم في البقاع الداخلية، قد أصابوا أهدافهم القصيرة كلها وهم الآن يحاولون تـمييز أهداف جديدة، فلا يتمكنون، ولذلك نرى أنهم يخبطون على غير هدى في محاولات سياسية غير مجدية، لأنها خالية من الاستناد إلى القوى السياسية الـحقيقية، وغير مؤيدة بـمطاليب قومية تعبّر عن مصلحة الأمة وإرادتها. فسياستهم الآن مبنية على بذل كل شيء في سبيل الاحتفاظ بـما أدركوه، كأنه الـحالة التي لا غنى عنها، في حين أنّ الأمة تـحتاج الآن إلى السياسة القومية التي ترى قوة الدولة في قوة الأمة ومتانة وحدتها، لا بالسيطرة على التفسـخ الداخلـي بالعلاقـات الـخارجيـة والاتفاقـات السياسيـة.
تواجه الأمة حالة إنترناسيونية مخيفة وهي مجزأة في داخليتها إلى مذاهب وعناصر تهددها بالتفكك لدى أول صدمة. ومع ذلك فإن السياسة العرقية الشخصية التي اتّبعت في الشام لم تزد الـحالة الداخلية إلا سوءاً.
وقد كان في الإمكان تدارك هذا الأمر بفسح الـمجال للحزب السوري القومي للقيام بـمهمته القومية الإصلاحية، بعيداً عن الإدارة ومعاوناً لها. ولكن يظهر أنّ «الكتلويين الصغار» رأوا أن يدفعوا «الكتلة» في اتـجاه احتكاري وتنظيمها تنظيم حزب يقوم على الـحكم، ويعمل على الاحتفاظ به. ولـمّا كان هذا الهدف الـجديد للحزب الكتلوي لا يعبّر عن حاجة الأمة ولا عن مطالبها العليا فكان من البديهي أن تؤدي هذه السياسة إلى خيبة يصدر عنها استياء في الأوساط الشعبية.
ولن تغني سياسة البطش عن الـحاجة إلى الـحركة القومية الـجديدة. حتى ولا التقليد يغني عن هذه الـحركة. فإن إنشاء القمصان الـحديدية على طراز «ميليشيا» الـحزب السوري القومي وبأنظمة مستمدة من أنظمتها قد انتهى بالفشل.
إذا كان «العهد الوطني الـجديد» الذي ينادون به يقضي بوجود الأمة جبهة واحدة، فهذا يعني أنّ الكتلويين أنفسهم مسؤولون عن التعاون لتوليد هذه الـجبهة كمسؤولية غيرهم. ولكنهم في جميع تصرفاتهم ينكرون على الآخرين حق الوجود والعمل ويريدون الأمة وحدة، لا بالشعور الناتـج عن تـحقيق الـمبادىء القومية، بل بالقوة الـمستمدة من الـحكم.
ليس هذا الوقت الـحرج وقت التسليم بالسياسة الـخرقاء في سبيل الـمحافظة على وحدة صفوف وهمية، بل هو موقف إدراك الـحقائق والاعتراف بها، وإحلال سياسة التفاهم والتعاون محل سياسة البطش.