حلَّ محل الـمفوض البريطاني السابق في فلسطين مفوض جديد هو السر هارلد مكميكل. وقد نشرت النهضة في عددها الأخير خلاصة رسالته التي أذاعها من محطة القدس. ورسالة الـمفوض الـجديد هامّة جداً لأنها بـمثابة البيان الرسمي للسياسة الـمكلّف باتباعها.
نلاحظ من هذه الرسالة أنّ السياسة البريطانية في فلسطين سائرة في تنفيذ خطتها الـجديدة التي ابتدأتها سنة 1936. وهي سياسة الوصول إلى استقرار سياسي حربي في فلسطين والوصول بالهجرة اليهودية إلى وضع ثابت من وجهة حقوقية عملية يضع حداً لـحملة السوريين الـمستندة إلى أساس حقوقهم في وطنهم.
ومن الأمور الـخطيرة في رسالة الـمفوض الـجديد أنّ الـمفوض يتكلم على أساس الوضع، الذي تريد بريطانية الوصول إليه، كأنه أمر واقع. وهو يتمسك كل التمسك بوجهة نظر بريطانية وبنائها اعتباراتها على أساس مصالـحها. فيضع اليهود الأغراب على قدم الـمساواة مع السوريين. وينوّه بأيادي «الشعب البريطاني» على «الفريقين».
تسمّي رسالة الـمفوض البريطاني عملية الهجرة اليهودية إلى جنوب سورية «مشروع عدالة كبرى» ثم يذكّر اليهود بأنه لولا مجهودات بريطانية لـما كان ثمة وطن قومي لهم. ويأخذ من هذا التذكير حجة لتذكير السوريين بأنه «لولا مجهودات البريطانيين لـما قامت دول عربية مستقلة في مستهل القرن العشرين.»
إنّ مسألة فلسطين من وجهتها الـحقوقية القومية قد عالـجها رد الـحزب السوري القومي على تقرير البعثة الـملكية البريطانية، وقد نشرته النهضة في عدد سابق (أنظر ج 2 ص 133). وفي العودة إلى الرد الـمذكور جواب كافٍ للمفوض البريطاني من هذه الـجهة. بيد أنّ قوله «لولا مجهوداتنا لـما قامت دول عربية مستقلة في مستهل القرن العشرين» فهو كلام ملقى على عواهنه لا يليق أن يصدر عن ذي مقام مسؤول.
إنّ قيام دول مستقلة في العالم، عربية كانت أو غير عربية، لا يكون بـمجهودات شعب أو أمة أخرى، بل بـمجهودات الأمـم الساعية إلى الاستقلال وتوافق مصالح إنترناسيونية تساعد على تـحقيق الـمساعي القومية لهذه الأمـم.
ونحن نريد أن نسأل الـمفوض البريطاني هل جرى استقلال الدول العربية على حساب فلسطين؟ وما هو هذا التعويض الكبير للسوريين في فلسطين أن تنشأ دول عربية لقاء خسارتهم أرضهم، وطنهم وتراثهم، الذي يخصّهم ولا يخصّ أحداً سواهم؟
أليس هذا هو الغرض من تلويح بريطانية للسوريين بالقضية العربية؟
إنّ هذه اللباقة في تـحويل السوريين عن قضيتهم القومية التي هي قضية وطنهم ومصالـحهم ومطالبهم العليا، لم تعد كافية لتغطية الـحقيقة. فإن الإدراك القومي الصحيح يدبّ الآن في طول سورية وعرضها، منبهاً جميع السوريين إلى حقوقهم والأخطار الـمحدقة بهم.
إذا كان استقلال «دول عربية» منّة من البريطانيين على الأمـم العربية السائرة في طريق الاستقلال، فليأخذ البريطانيون جزاء هذه الـمنّة من تلك الأمـم نفسها لا من سورية. هذا هو الـمنطق السياسي والـحقوقي. فقيام دول عربية لا يغني السوريين عن وطنهم ولا يوجب عليهم أن يدفعوا هم ثمن قيام هذه الدول.
إننا ندرك جيداً قوة بريطانية وعظمتها وندرك في الوقت نفسه حقوقنا ومصالـحنا. فيمكن للقوة أن تفرض مشيئتها ولكن أصحاب الـحق لن يتنازلوا عن حقهم. والأرض السورية لا تصير يهودية في هذا النزاع الطويل العنيف. والاعتراف بدولة يهودية في فلسطين لا يحلّ الـمشاكل بل يزيدها تعقداً. ونعتقد أنّ الأفضل للسياسة البريطانية عدم التورط في سياسة يهودية مشؤومة كسياسة «الدولة اليهودية».