أيها السوريون القوميون،
ما كاد الـحزب السوري القومي يصبح كائناً حياً ويستكمل شروط كيانه حتى تعرض لـما تتعرض له كل الكائنات الـحية من اختبارات طبيعية وتـجارب نفسية روحية.
وهي اختبارات وتـجارب ضرورية لـمعرفة مواهب هذا الكائن الـحي الـجديد وخصائصه، وللتثبت من بنيته هل هي قوية تصلح للبقاء أم ضعيفة تتفكك لأول صدمة، ومن روحيته هل هي سليمة أم فاسدة لا تـحقق شيئاً، ومن عقيدته هل هي صحيحة تعبّر عن فهم صحيح لـحاجة أمة حية أم مخطئة لا تعبّر إلا عن أوهام شخصية؟ وبعد هذه الاختبارات العنيفة وهذه التجارب الدامية التي لا تزال أنغام أغلالها وأصفادها ترن في آذاننا إلى اليوم، وستظل ترن في آذان أجيالنا الآتية ليفهم الأحفاد قيمة حياة الأمة ومصالـحها وما كلفت من حياتنا نحن الذين نصبح إذ ذاك جدوداً، بعد جميع هذه الاختبارات والتجارب يحسن بنا أن نقف في هذه الـمرحلة الأولى لنلقي نظرة على ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، ونعيّن بالضبط مركزنا بالنسبة لهدفنا ولـما حولنا.
إنّ الاختبارات والتجارب التي مرت بالـحزب السوري القومي، وهو بعد في مهده، كانت اختبارات وتـجارب عظيمة فاقت بقسوتها كل الاختبارات والتجارب التي مرت بالكائنات الـحية الشبيهة بالـحزب السوري القومي. وما خروج الـحزب السوري القومي سليماً من هذه الاختبارات العظيمة والتجارب الشديدة سوى الدليل القاطع على قوّته التي لا تُغلب، وعلى جدارته بالبقاء وعلى تفوّقه في النزاع العنيف بينه وبين القوات العاملة على قتل الأمة في سبيل حياتها هي.
لم تتعرض أمة لـحوادث تاريخية عظيمة ذات تأثير طويل على تاريخها وحياتها كالـحوادث التاريخية الـجليلة التي ألـمّت بأمتنا العظيمة، وأبقتها تـحت تأثيرها الطويل. فما كادت سورية تعود إلى إثبات شخصيتها ومزاياها على عهد الإمبراطورية الرومانية حتى جاءها الفتح العربي الذي اقتضى تغيير لغتها، ثم جاء فتح الـمغول الذي نكب البلاد وهدم دمشق، ثم عقبه الفتح التركي القاهر، وهذه الـحوادث الـمتعاقبة التي تكوّن الـحروب الصليبية فصلاً هاماً من فصولها، قطعت الـمجرى الثقافي الذي كان سائراً وجعلت مصير الأمة معلقاً على تفاعل هذه العوامل وتـجاذبها السيادة، وأوجدت حالة سادت فيها الفوضى الاجتماعية والاقتصادية، فاضطرب سير العمران في هذه البلاد الـجميلة التي التقت فيها الـجحافل الـمتطاحنة الزاحفة من الـجنوب ومن الشمال ومن الغرب، في طور من أطوار التاريخ الكثيرة الـحوادث الـخطيرة، وتضعضعت العقلية تـحت ضربات الـحروب والفتوحات فضاعت الـمعنويات السورية، التي قامت بالثورات العمرانية والثقافية الكبرى، وزرعت الـمدن البحرية في جهات الـمتوسط وحملت إلى جميع شواطئه فنون الـحضارة السورية، وأمدّت الإغريق بالأساطير الفلسفية والفلسفات، ووضعت أسس التمدن الـحديث، وانحدرت الأمة في مهاوي الـخمول قروناً متطاولة.
كان من وراء هذه الأطوار القاسية التي مرت بالأمة أنّ الفضائل الكبرى التي امتازت بها أمتنا وانبثق منها فجر التمدن غارت تـحت أطباق الـخراب والانحلال القومي، وحلّت محلها خصال غير جديرة بإنهاض الأمة من كبوتها. وتبع ضياع الـمعنويات ضياع الشخصية القومية ومصالـحها الكبرى. وأدى التضعضع الاجتماعي إلى التضعضع الاقتصادي الذي ترك نتائج سيئة لا نزال اليوم تـحت وطأتها.
كان التضعضع القومي عاماً وكاد يقضي على شخصية الأمة قضاءً مبرماً فلم يبقَ لها سوى بعض الـمؤسسات كالـمراجع الدينية والـمعابد والسلطة الإقطاعية ونظام العشيرة أو رابطة العائلة الدموية. ثم آذنت السلطنة العثمانية بالتفكك والانحلال وأخذت عوامل الشخصية السورية تختلج اختلاجات الـحياة وتتململ، ووجدت في تضارب مصالح الدول الكبرى ومصالح الدولة العثمانية فرصة تساعدها على التملص من قبضة تركية. ولكن الـمعنويات كانت لا تزال صرعى، وظلمة الـخمول مخيمة على الشعب. فعاد الأمر إلى الـمؤسسات القديـمة وبعض الأفراد الذين بنوا نظرياتهم على تلك الـمؤسسات واستمدوا فلسفتهم السياسية منها. فكانت النتيجة تخبطاً اختلطت فيه السياسة بالدين والاجتماع بالسياسة. أما الاقتصاد فلم يكن له أثر.
إنّ الشعور الأول الذي تـحكّم في عقلية اختلاجات الـحياة السورية الأولى كان: «وجوب التحرر من ربقة تركية كيفما كان الأمر». لم يكن هنالك فكرة واضحة لتأسيس الـحياة القومية ومصالح الشعب السوري، ولذلك اختلطت شؤون كثيرة سياسية واقتصادية ودينية وتداخلت بعضها ببعض وأصبحت التعابير كلها مترادفة، وكلها تعني التخلص من تركية. ولـمّا كانت تركية تتسلط على أقطار عربية غير سورية ساعد وجود هذا العامل الـمشترك على دمج الـمسائل القومية بالـمسائل اللاقومية والدينية، وتولدت فكرة إجماع أمـم العالم العربي الـمخضعة لتركية على القيام بحركة تـحريرية مشتركة، كانت الدول الكبرى تنظر إليها بارتياح، وعرفت هذه الفكرة، تـحت عوامل أكثرها ديني، بـ «القضية العربية» التي اشترك فيها العاملون السياسيون من سورية ومصر والعراق وامتدت إلى بلاد العرب لتجد قوة دينية تتمركز فيها، لأن العاملين كانوا يجدون القوة الدينية، قوة السلالة النبوية والتعصب الديني، القوة الوحيدة الـجديرة بإنـجاح القضية. وبعض هؤلاء العاملين كانوا يعملون سراً للحصول على تأييد دولة كبيرة ومنهم من كان يسعى للحصول على حماية مثل هذه الدولة بعد التحرر من تركية.
في جميع ما كتب باللغتين العربية والتركية نـجد «القضية العربية» حركة يقوم بها بعض الـمفكرين السوريين السياسيين، ومن اشترك معهم من أمـم العالم العربي بقصد التحرر من السيطرة التركية. وفي الـحقيقة أنّ هذا التعبير لم يكن له معنى غير التعبير عن طلب الـحرية الذي يشترك فيه عدد من أمـم العالم العربي. ولكن انطلاق هذا التعبير في مجموع الأمة السورية، وهو لذلك العهد مجموع مضعضع الـمعنويات مختلطة عليه الـمذاهب السياسية والدينية والقومية والوطنية، فسح الـمجال لإيجاد أغراض متعددة لتعبير «القضية العربية» فكان هناك مَنْ تخيّل «القضية العربية» حركة رجعية لإنشاء إمبراطورية عربية وإعادة عهد هارون الرشيد السيِّىء من الوجهات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ومن الناس من حسب القضية العربية رجعة إلى النظرة الدينية وشؤون الـخلافة والإمامة. ومنهم من قام يبني من هذه القضية قضية نسبية ورابطة دموية، ويجعل منها مسألة «صلة أرحام». ومنهم من ذهب فيها مذهب القومية فعدّها قضية قومية تلغي أمـم العالم العربي وتـجعل العالم العربي كله بـمقام أمة واحدة. ومنهم من عدَّ «القضية العربية» قضية حلف فأعاد إليها أقرب الأشكال إلى صفتها الأساسية.
يظهر مـما تقدم أنّ الـحركة التحريرية التي نشأت في سورية وأقطار عربية أخرى تـحولت، تـحت تأثير عوامل عديدة أهمها العوامل الدينية، إلى نوع من الفوضى في النظريات السياسية. وليس أدلّ على هذه الفوضى من التعابير الكثيرة الـمختلفة التي وصفت بها هذه الـحركة التحريرية ومن محاولة تـحويل هذه الـحركة إلى قضية اختلط فيها الدين بالسياسة والاجتماع والاقتصاد والـحقوق. ويبدو هذا الاختلاط جلياً في «أدب» هذه القضية غير الـمعيّنة وغير الـموضوعة على بساط البحث الآن.
فالذين يتكلمون عن «القضية العربية» ويريدون بها قضية قومية كثيراً ما يتحدثون عن الأقطار العربية والأمـم العربية، ثم يعودون فيتكلمون عن القومية العربية خالطين بين القومية التي هي شعور كل أمة بنفسها وليست مشتركة بين عدد من الأمـم، وبين عصبية دينية أو عرقية أو لغوية.
ظل أمر هذه القضية فوضى إلى أن جاء الـحزب السوري القومي بنظريته الـجديدة العملية، وأوجد قضية «إنشاء جبهة عربية» من أمـم العالم العربي التي ترى في إيجاد هذه الـجبهة مصلحة سياسية أو اقتصادية لها، فألزم الأشكال معانيها وفرّق بين القضية القومية والقضايا السياسية وأحلَّ هذه القضية الـمعيّنة، العملية محل لفظة «القضية العربية» الـمبهمة الـمطاطة. فإنشاء جبهة عربية هي دعوة الـحزب السوري القومي إلى أمـم العالم العربي، التي يهمّها الأمر، لتأليف جبهة على أساس الـمصالح الـمشتركة الـمعيّنة فيما بينهن، فلا تفرض أمة من أمـم العام العربي وجهة نظرها على أمة أخرى. ويتم تأليف الـجبهة بتفاهم هذه الأمـم بواسطة مؤتـمر تـمثل فيه، لا بتفرد بعض الفئات في بعض هذه الأمـم بتعيين «قضية عربية» من عند أنفسهم لم ينظروا من ورائها إلى مصلحة سوى مصلحتهم الـخاصة.
لم تكن «القضية العربية» الظاهرة الوحيدة للاختلاطات السياسية والدينية في أمتنا في العهد السابق ظهور الـحزب القومي، بل نشأت ظاهرة أخرى هي ظاهرة «القضية اللبنانية».
يرجع أصل هذه القضية إلى الـحوادث الدينية الدموية الـمعروفة بـ «حركة الستين» وهي حوادث القتال بين الـمسيحيين والدروز، التي انتهت بتدخل الدول الكبرى ذات الـمصلحة في تفكيك السلطنة العثمانية وبسط نفوذها على هذه الأرجاء، ووضع نظام خاص لـجبل لبنان يحصل بـموجبه الأمان للمسيحيين الـمقيمين فيه الذين يؤلفون أكثريته. وقد عفا نظام لبنان اللبنانيين من واجبات الدفاع عن حقوقهم وعوّدهم الاتكال على الغير في إدارة شؤونهم. وبقاء هذا النظام نحو نصف قرن عوّد اللبنانيين الكسل وحبّب إليهم حالة الاستكانة، وجعل قسماً كبيراً منهم يرى فيها الـمطلب الأعلى للحياة الاجتماعية والسياسية وولّد عند الطائفة الـمسيحية الكبرى التي استفادت من نظام لبنان حب استبقاء الـحالة اللبنانية وإيجاد «قضية لبنانية» على أساسها.
على أساس هذه الرغبة في إبقاء الـحالة الراهنة وتوافق هذه الرغبة مع العوامل السياسية الأجنبية أنشىء لبنان الكبير ثم أُعلنت الـجمهورية اللبنانية، التي هي كيان سياسي يجد مبرراته في حوادث الاضطرابات الدينية في أواسط القرن الـماضي وفي حالة الـخنوع التي آل إليها اللبنانيون في ظل نظام لبنان السيِّىء الطالع.
هذه البلبلة الفكرية الروحية التي ترى مظاهرها في «القضية العربية» وفي «القضية اللبنانية» ساعدت على تـجزئة سورية وتفكيك وحدة حياتها ووحدة مصالـحها وتوليد صعوبات جمة في سبيل نشوء قضيتها القومية التي جاء بها الـحزب السوري القومي.
إنّ الذين تبلبلت أفكارهم وعقولهم يظنون أنّ قضية الأمة تـحقق عن غير طريق الأمة. فالذين يرون بلوغ الأرب في قضية إسلامية يخمنون أنّ ستر هذه القضية الدينية بستار من جامعة عربية يخفي دوافعها الباطنة عن الـمسيحيين في هذا الوطن، ويقود الـجميع في اتـجاه واحد فهم لا يفهمون نفسية الـجماعة وطبيعة العوامل الاجتماعية ويجهلون كل الـجهل أنه مهما تظاهر الـمسيحيون بأنهم مقتنعون بقضية «الـجامعة العربية» فلن يألوا جهداً في الاعتصام بقضية تناقض هذه الـجامعة الدينية. والذين يرون الفلاح في قضية مسيحية يتوهمون أنّ ستر هذه القضية الدينية بستار من شكل أرض يسمونه «استقلال لبنان» يخفي عن الـمسلمين دوافع هذه القضية الباطنة، فتجوز عليهم الـحيلة وينضوون تـحت لواء هذه القضية. وهم أيضاً لا يفهمون نفسية الـجماعة وطبيعة العوامل الاجتماعية ويجهلون كل الـجهل أنه مهما تظاهر الـمسلمون بأنهم مقتنعون بقضية «استقلال لبنان» أو الانعزال في لبنان، فلن يألوا جهداً في العمل لقضية تناقض هذا الاتـجاه الديني. والغباوة من الـجانبين تُري الفريقين أنه يـمكن التعويض عن الـحقائق الاجتماعية وحاجات الـجماعة بشيء قليل أو كثير من الـمنطق الكلامي.
على أساس هذه الغباوة نشأت الشركات السياسية لاستثمار النزعات الـمختلفة باسم «الوطنية». وقد عملت هذه الشركات طويلاً لغايات مبهمة من الوطنية بعيدة عن تنظيم الشعب وعقائده، وعن إيجاد الـمؤسسات الصالـحة للعمل القومي، وعن وضع قواعد تربية اجتماعية سياسية جديرة بتوليد الـمعنويات القوية الكامنة في نفسية الأمة. فكان من وراء ذلك إقصاء الكفاءات السورية الـجديدة، الآخذة في الظهور، عن الاشتراك في عمل منظم يعطي النتائج الـمرغوبة واتـجاه الشركات الـمؤلفة نحو الاحتكار.
هذه هي الـحالة السياسية الـمشؤومة التي كان عليَّ أن أواجهها عند عودتي إلى الوطن، هذه هي الـحالة السياسية التي أخذ الـحزب السوري القومي يعالـجها على ضوء مبادئه وأهدافه. هذه هي الـحالة السياسية الـمشؤومة التي نتج عنها الانحطاط الـمعنوي في النفسية السورية الظاهر في أقوال كهذه: «نحن أمة ضعيفة لا قبل لنا بأمر كبير كالاستقلال. بلادنا كانت مـمراً للفاتـحين وهي الـجسر بين الغرب والشرق وستظل كذلك. ماذا يستطيع أربعة ملايين سوري أن يفعلوا؟ الخ.» ومن هذه الأقوال، التي كنا نسمعها ولا نسمع غيرها قبل نشوء الـحزب السوري القومي، يظهر لكم جلياً مبلغ انحطاط الـمعنويات الذي بلغت إليه الأمة السورية على عهد الشركات السياسية. وهي هذه الأقوال، ما يتذرع به كلا الفريقين: القائل بـ «القضية العربية» والقائل بـ «القضية اللبنانية» أولئك يتذرعون به ليبرروا إنكارهم حق أمتهم بالـحياة والعمل للجامعة الإسلامية - العربية، وهؤلاء يتذرعون به ليبرروا تـمسكهم بانعزال لبنان ووضعه تـحت حماية دولة أجنبية مسيحية. وكلا الفريقين على ضلال مبين.
هذه هي الظروف السياسية الـمتولدة من الـحوادث التاريخية القاسية، التي مرت بأمتنا في عصورها الـمتأخرة وجاء الـحزب السوري القومي ليبطل مفعولها ويزيل أثرها.
أما الظروف الروحية النفسية الـمتولدة من هذه الـحوادث ومن الظروف السياسية الاقتصادية الـمتأتية عنها فهي ظروف انحطاط في الـمناقب عز نظيره. فإن فقد الثقة بالنفس وبقوى الأمة وإمكانياتها السياسية والاقتصادية، والاستسلام للخنوع، أنشأ طائفة من الـمأجورين للإرادات الأجنبية القريبة والبعيدة يغذون الأفكار بسموم فقدان الثقة بـمستقبل الأمة والتسليم للأعمال الـخارجية والـحالة الراهنة. فإذا النفسية العامة في الأمة نفسية خوف وجبن وتهيّب وتهرّب وترجرج في الـمناقب والأخلاق. ومن صفات هذه النفسية العامة الـخداع والكذب والرياء والهزؤ والسخرية والاحتيال والنميمة والوشاية والـخيانة وبلوغ الأغراض الأنانية، ولو كان عن طريق الضرر بالقريب وعضو الـمجتمع.
هذه الـحالة كانت أكبر نكبة أصيبت بها الأمة، والتفاعل بينها وبين الـحالة السياسية كان وخيم العواقب معدماً كل أمل بتوليد نهضة قومية صحيحة وكل أمل بتحقيق القضية القومية. فاليأس ساعد الفساد الأخلاقي مساعدة عظمى والفساد الأخلاقي قوّى اليأس ووطد النفوس عليه.
هذه هي الظروف السياسية والروحية التي وجدتُني محاطاً بها عندما قررت وجوب إنقاذ الأمة بإنشاء الـحزب السوري القومي، والسعي لاكتشاف العناصر السليمة الضالة في فوضى هذه الظروف وتنظيمها في الـحزب.
من البديهي أنّ الـحركة للتحرر من سيطرة تركية، التي عرفت فيما بعد بـ «القضية العربية» لم تكن القضية القومية بل القضية السياسية الأولى الناشئة من الاختلاجات القومية الأولى. فالقضية القومية لا تنحصر في فكرة التحرر السياسي من ربقة دولة مسيطرة بل القضية القومية تكون في إدراك شخصية الأمة وحاجاتها وإيجاد الـمبادىء الـموحدة صفوفها واتـجاهها، ووضع أسس كيانها الثابت الـمجهز بجهاز البقاء والتمييز بين حقوقها وحقوق الـجماعات الأخرى. ولـمّا كانت سورية مجتمعاً واحداً قائماً بذاته في القطر السوري تتفاعل ضمنه حياة اجتماعية اقتصادية واحدة، كان همّي الأول تعيين قضية هذا الـمجتمع الذي هو مجتمعي، والقضاء على الاختلاطات السياسية الدينية التي بلبلت عقائده وأضاعت شخصيته مدة من الزمن، وتأسيس قضيته القومية الـجامعة مصالح السوريين جميعهم وحقوقهم الـمولدة إرادة الأمة السورية أن تدرك مصالـحها وحقوقها وأن تنمّي وتوسع هذه الـمصالح والـحقوق. وقد تـمكنت من تكوين قضية الأمة السورية تكويناً تاماً في الـمبادىء التي أعلنتها ودعوت الشعب إليها وتأسس عليها الـحزب السوري القومي.
كان تأسيس الـحزب السوري القومي ضربة قاضية على البلبلة الفكرية الروحية، وبدء اتـجاه الأمة نحو قضيتها التي هي قضية حياتها ومصيرها ومطالبها العليا. فالقضية السورية القومية وضعت حداً للفوضى السياسية والاجتماعية فلم تعد الـحركة القومية مجرد انتقاض على الإرادات الأجنبية والسيطرة الأجنبية أو حركة جماعة مسيحية أو جماعة إسلامية، بل حركة أمة أدركت وحدة مصالـحها وحقيقة حياتها فأرادت هذه الـحقيقة وعملت لهذه الـحقيقة. هذا هو عمل الـحزب السوري القومي.
بهذه الـحقيقة أردت معالـجة الـحالة الفكرية السياسية الـمضطربة الـحائرة بين إبهام «القضية العربية» والاختلاطات الـمشتملة عليها، وعماوة «القضية اللبنانية» والاشتراكات الداخلة فيها. وبهذه الـحقيقة انتصرت على اليأس وظلمة الفكر وتشوش الشعور.
ما أعظم الفرق بين الأمة بعد إعلان هذه الـحقيقة والأمة قبل إعلانها. ففي هذه الـحقيقة نرى حقيقتنا نحن - وجودنا ومصالـحنا، شخصيتنا وإرادتنا ومطالبنا العليا. في هذه الـحقيقة ندرك قوّتنا ومؤهلاتنا ومقدرتنا، وعلى هذه الـحقيقة نسيّر خططنا لفلاح أمتنا. على ضوء هذه الـحقيقة أصبحنا نرى جيداً مقاصدنا وطريقنا.
بهذه الـحقيقة صرنا ندرك أنّ الإرادة الواحدة الدائمة لا تكون إلا وليدة الـمصلحة الواحدة الدائمة. وإنّ الـمسائل السياسية لا يـمكن أن تصبح قضايا عقائدية مهما اجتهد العاملون لها في إيجاد تعليلات كلامية عقائدية لها. فالـمسألة اللبنانية هي مسألة سياسية تتعلق بظروف بعض الـجماعات الدينية لا يـمكن أن تصير قضية عقائدية لأنها مسألة ظرفية هي من آثار زمن العصبيات الدينية. أما محاولة الرجعيين والنفعيين استغلال اختلاطات الـمسألة السياسية التي سمِّيت «القضية العربية» وتـحويلها إلى قضية عقائدية فهي نوع من محاولة العبث، لأنه إذا كان هنالك بعض الـمصالح الظرفية يشترك فيها عدد من أمـم العالم العربي، فالإرادة الناشئة عنها هي إرادة ظرفية أيضاً، ليست ثابتة ولا دائمة، لأنها ليست وليدة وحدة حياة اجتماعية ووحدة مصالـحها الدائمة. فمصلحة التعاون على تـحرير الأقطار العربية ليست مصلحة قومية لأنها تنتهي بحصول الـحرية وتزول لتترك الـمجال للمصالح القومية الـخاصة الدائمة الناشئة عن وحدة حياة دائمة التي منها تتولد إرادات قومية خاصة دائمة، والتي تتعين بتعيين الـمجتمع وتتميز بتميّزه، كما تتميز بـمجموعها مصالح الزرّاع والصنّاع والتجار وأهل الفنون والأدب السوريين، وحقوقهم ومطالبهم العليا عن مصالح رعاة الإبل والغزاة العرب وحقوقهم ومثلهم العليا في مجموعها، أو عن مصالح الزرّاع والصنّاع والتجار وأهل الفنون والأدب الـمصريين وحقوقهم ومطالبهم العليا في مجموعها.
إنّ اشتراك أمـم العالم العربي في طلب الـحرية والاستقلال لا يولِّد وحدة قومية، بل يولِّد وحدة اتـجاه سياسي تظل قائمة ما دام هنالك حاجة إليها. فإذا تـمَّ التحرر السياسي عادت كل أمة من هذه الأمـم إلى حاجاتها ومصالـحها الناشئة عن وحدة حياتها. ونحن لا نريد أن نكون قصيري النظر إلى حد أن تختلط علينا الـمصالح القومية والـحاجات السياسية.
نحن لنا وحدة حياتنا في هذا الوطن الذي هو وطننا وتراثنا، ولنا مصالـحنا التي لا نخلط بينها وبين مصالح الوحدات الأخرى، ولنا إرادتنا التي لا نقبل إرادة غيرها.
إنّ الذين يقولون عنا: إننا نريد غاية ما يريدونه هم وسيلة، هم مصيبون جداً في هذا القول. ولكن هذه الإصابة تزيد في قوّتنا بدلاً من أن تضعفنا، كما يتوهمون، لأنها تدل على أننا نرى مصلحة أمتنا وحقها في السيادة على نفسها ووطنها غاية جهادنا، وعلى أنهم يرون مصلحة أمتنا وحقها في الـحياة والسيادة وسيلة لبلوغ مصالح أخرى غير هذه الـمصلحة. إنهم يرون مصالح السوريين وسيلة يخضعونها لـمصالح أمـم أو دول أخرى يحلمون بتشييد إمبراطورية منها. أما نحن فنقول إنّ مصالح شعبنا
هي غايتنا. فنحن ننهض في سبيل مصالـحنا وحقنا في الـحياة والسيادة. ونقول للأمـم الأخرى أن تنهض هي بدورها في سبيل مصالـحها وحقها في الـحياة، فإذا فعلت فإننا ندعوها لتأليف جبهة تعاونية لبلوغ الأهداف لا تقضي على شخصيتنا ولا تـجرّدنا من حقوقنا ومصالـحنا القومية.
وإنّ تأسيس قضيتنا القومية في مبادىء الـحزب السوري القومي، التي كنت حريصاً جداً على أن تكون معبّرة عن حاجاتنا ومصالـحنا وإرادتنا، أنقذنا من حالة اليأس وبدّل من حالة التخبط بحالة الـجلاء والعمل الـجدي الـمنظم في الـحزب القومي. ونحن الآن جادون في هذا الطور العملي لوضع الأمة السورية كلها على طريق الفلاح.
هذه الـحالة الـجديدة التي أوجدها الـحزب السوري القومي جعلتنا ندرك جيداً الفرق بين مبدأ كره الأجنبي الغامض ومبدأ الـحياة القومية ومصالح الأمة والغرض القومي الـجليّ.
ليست مبادئكم، أيها القوميون، خطة سياسية يـمكن أن يبحث أمر الأخذ بها أو تركها حسبما يبدو للناس من إمكانية نـجاحها أو حبوطها. إنها مبادىء قضيتكم التي تـمثّل شخصيتكم ومصالـحكم. إنها مبادىء نهضتكم التي لا شخصية ولا كرامة لكم إلا بنجاحها. إنّ قضية شخصيتنا ومصالـحنا لا يـمكن أن تكون خطة أو وسيلة، فهي الأساس الذي نبني عليه كل منشآتنا والـمرجع لكل خططنا.
تكفلت القضية القومية بإعادة الثقة والـمعنويات الإنشائية، التي امتازت بها أمتنا وقادت بها البشرية منذ بدء الـحضارات الأولى إلى تأسيس الـمدنية الـحديثة الـمنتجة من التفاعل السوري - الإغريقي. وهذا القصد هو الذي قصدته من وضع الـمبدأ الثاني من مبادىء الـحزب السوري القومي القائل: «القضية السورية قضية قومية قائمة بنفسها مستقلة كل الاستقلال عن أية قضية أخرى». وقد عنيت بهذا الـمبدأ أنّ قضية الأمة السورية قضية يجيء تـحقيقها من الأمة السورية ويكون بإرادة الأمة السورية وفاقاً لـمصالحها، لا بإرادة أمة أو أمـم أخرى وفاقاً لـمصلحة تلك الأمة أو الأمـم. من هذا الـمبدأ تولدت فينا قوة الثقة بالنفس والاعتماد على النفس في تـحقيق مطالبنا.
ومن هذا الـمبدأ خرج إيـماننا الراسخ بأن سورية تقدر أن تـحيا تـحت كل الظروف القريبة والبعيدة، مهما يكن من أمر هذه الظروف. إنّ هنالك فرقاً عظيماً بين الـمعنويات الـمتولدة من اضطلاعنا بـمسؤوليات مصالـحنا وحقوقنا وبين وضع مسؤوليات هذه الـمصالح والـحقوق على الغير أو على اشتراكات واختلاطات تضيع فيها الـمسؤوليات والـمصالح والـحقوق، كما كان الـحال في قضية «استقلال لبنان» وفي «القضية العربية».
بعد أن وضعتُ مبادىء القضية القومية التي هي مصدر جلاء الأفكار ووحدة العقيدة والاتـجاه، وأوقفتُ الاختلاطات السياسية الدينية في الـمسائل القومية من الوجهة النظرية شرعتُ في إيجاد الوسائل العملية لتحقيق القضية القومية. ولم تكن الـمهمة هينة في جو موبوء كجو الـحالة الـمناقبية والأخلاقية السيئة التي أشرت إليها. ولكني وضعت قاعدة أساسية أتـمشى عليها وهي البحث عن العناصر الـجديدة السليمة وتعليمها الـمبادىء الـجديدة وإفهامها قضية الأمة، وتكوين حزب منها ينشأ بـمعزل عن الاختلاطات الـمذكورة آنفاً نشأة صحيحة قوية بـمعنوياتها، حميدة بـمناقبها، سليمة بروحيتها صالـحة لـحمل أعباء القضية. وقد توصلتُ بعد جهد إلى لـمس قابلية ثلاثة أشخاص من الشوير: إثنان منهم كانا طالبين في الـجامعة الأميركانية.
وواحد من هذين أرسل إليَّ كتاباً يطلعني فيه على اهتدائه إلى بعض الطلبة ذوي الإمكانيات، واحد منهم من شرق الأردن، والباقون من لبنان، ويسألني الإسراع في العمل. فطلبت منه أن يأتي برفقائه فجاء بهم إليَّ وكانوا ثلاثة، أحدهم جورج عبدالـمسيح، وآخر من شرق الأردن، وآخر من لبنان رفيق للأردني. وبعد مباحثتهم وجدت أقربهم إلى فهم الفكرة والقضية جورج عبدالـمسيح الذي كان طالباً في الاقتصاد. أما الإثنان الآخران فكانا بعيدين جداً عن فهم القضية لأنهما كانا متأثرين بالاختلاطات السياسية الـجارية. وكان الأردني طالباً في علم السياسة ورفيقه طالباً في الأدب. وبعد جدل كثير حول الـمسائل السياسية تظاهر الأردني بالاتفاق مع رفيقه اللبناني بقبول الدعوة على أساس الـمبادىء التي وضعتُها أمامهم، وتظاهرت أنا بأني اقتنعت بصحة قبولهما في حين أنّ شكوكاً كثيرة خامرتني في صددهما، وشبهت للجميع أنني أباشر تأسيس الـحزب معهم وانصرفت إلى البحث بنفسي بين طلبة الـجامعة الأميركانية الذين كانوا يدرسون الألـمانية عليَّ عن العناصر التي أريدها فاهتديت إلى فرد آخر ومعلّمَيْن في الاستعدادية والابتدائية، واحد منهما لم يكن صالـحاً لحمل رسالة الإيـمان، ولكني رأيت أن أستعين بهذا العدد غير الـمتجانس على القيام بالاختبار الأول لتأسيس الـحزب. وبعد قليل من السير انكشف لنا أنّ الأردني يراوغ بالاشتراك مع رفيقه فهو ما انفك يتمسك بـمظاهر الاختلاطات السياسية بدلاً من الأخذ بجلاء القضية القومية، والآخر ألقى قصيدة في دمشق تثير النعرة الطائفية. وكنت قد استوثقت من نزاهة الآخرين وإخلاصهم فجمعتهم وأطلعتهم على رغبتي في طرد الأردني ورفيقه من الـحزب. ولـمّا لم يكن قد وُضِع للحزب دستور رأيت أن يكون الطرد بصورة حل الـحزب فدعوت الـجميع إلى اجتماع حضره الدجّالان، وأبديت لهم رغبتي في تأجيل العمل الـحزبي إلى أن أكون قد وجدت استعداداً وتفاهماً تامّين بين الذين يرغبون في السير معي، وأنّ عملنا قد انتهى، وأنّ كل واحد حر. وبعد أسبوع أو أسبوعين عدت فجمعت الآخرين وأعدت تأسيس الـحزب منهم سراً وكانوا كلهم نزهاء مخلصين وأكثرهم جدير بالأعمال التعميرية. وبناءً على نزاهتهم وإخلاصهم وثقتهم التي أخذت تتزايد بتزايد إيـمانهم اعتبرت الـحزب السوري القومي قد تأسس نهائياً.
أحببت أن أُظهر هذه اللمحة عن واقع إنشاء هذا الـحزب العظيم وتوليد هذه النهضة القومية الـجبارة، لتدركوا مقدار الفساد الذي كان قد تغلغل في الـمعتقدات والـمناقب والأخلاق في مجتمعنا. فمن أربعة أشخاص يجتمعون إلى صاحب الفكرة القومية كان اثنان يعتقدان أنّ القضية القومية ليست سوى وسيلة سياسية لبلوغ أغراض في نفسيهما، ويجيزان لنفسيهما احتقار إخلاص رفيقيهما وسلامة طويتهما ويظنان أنّ الـمناقب والأخلاق ليست إلا صوراً شعرية، وهكذا ترون الفائدة العملية الكبيرة من القاعدة التي وضعتها واعتمدتها لتوليد النهضة القومية ومن العمل بـموجبها، فإنني لو تركت الفساد يستمر مندمجاً مع الصلاح والـجدارة لـما كان نـمو الـحزب سوى تضخم لا يلبث أن ينتهي إلى التفسخ والتفكك. إنّ عملية تنقية الـحزب السوري القومي من العناصر الفاسدة غير الصالـحة لـحمل الرسالة القومية الـمجددة ابتدأت مع ابتداء الـحزب، ويجب أن تستمر ليكون الـحزب متيناً جديراً بحمل أعباء النهضة القومية.
بعد نحو سنة ونصف من عمل بطيء خفي لم يزد فيهما عددنا على ثلاثين عضواً، ازداد تنبه الأعضاء وابتدأوا يصيرون قوة فاعلة لها ثقة بنفسها وإيـمان بقضيتها فاتسعت دائرة الأعمال الإذاعية والدعوة إلى اعتناق الـمبادىء الـجديدة والدخول في الـحزب، وكانت الدعوة إفرادية سرية، فازداد الإقبال وأخذت الـمعنويات تشتد والأمل يقوى. وفي بضعة أشهر بلغ عددنا ألف عضو. وكانت سنة 1935 سنة إقبال واسع النطاق وكنت في سنة 1934 قد وضعت مواد التشريع الأساسي وأوجدت بعض الـمؤسسات فنشأت الفروع وتعيّن عدد من الـمسؤولين لـممارسة الصلاحيات الإدارية في الـمركز والفروع. وأخذ الـحزب السوري القومي يتجه من حالته السرية الأولى نحو صفته الصحيحة، وهي أن يكون حركة شعبية واسعة النطاق وثورة اجتماعية - اقتصادية - سياسية.
بين أواسط سنة 1935 وأواخرها نـما الـحزب نـمواً كبيراً واتسع نطاقه، ولم يعد في الإمكان إخفاء هذه الـحركة الفكرية الاجتماعية السياسية العظيمة. فأخذ أمر الـحزب يظهر شيئاً فشيئاً وصار بعض الناس يتهامسون في البيوت والأوساط العائلية عن هذه الظاهرة الـجديدة. ولكن الشعور بوجود الـحزب السوري القومي واتصال هذا الشعور بدوائر الاستخبارات والأمن العام لم يكونا كافيين لـجلاء حقيقة هذا الـحزب وطبيعته ومبلغ قوّته، فكان لا بد من اكتشاف خائن لأن رجال الـحزب الـمركزيين كانوا كلهم مخلصين ومنزهين وكانوا قد أصبحوا ثابتين في مراكزهم. وتـمكنت هذه الدوائر من اكتشاف أكثر من خائن ومأجور واحد ولكن واحداً منهم فقط تـمكن من انتهاز فرصة تشعب أعمال الـحزب والوصول إلى معلومات وثيقة عن أماكن أوراق الـحزب وأسماء جميع العاملين الـمركزيين، فأعطى هذه الـمعلومات إلى دائرة الأمن العام، التي اتخذت تدابيرها في الـحال وكان أمر القبض علينا في السادس عشر من نوفمبر/تشرين الثاني سنة 1935.
كان هذا الاعتقال أول تـجربة تتعرض لها قوة الـمبادىء والـمناقب والأخلاق الـجديدة. وقد وقع معاونيَّ، أعضاء مجلس العمد وبعض الـموظفين الـمساعدين، في حيص بيص. وكانوا في حيرة من أمرهم حينما مررت بهم نحو الساعة الثانية بعد الظهر إلى الغرفة الـمجاورة لغرفتهم في دائرة الأمن العام وواحد منهم تنكّر لي وتظاهر بأنه لا يعرفني. إلا أنّ رئيس مجلس العمد السيد نعمة ثابت اقترب مني وهزَّ يدي هزة معنوية وقال: «لا بأس». والشيء الوحيد الذي تـمكنت من أن أقوله لهم في مروري هو أني قد اعترفت بوجود الـحزب السوري القومي وأنه يجب على كل واحد أن يعترف بالوظيفة والـمسؤولية اللتين يحملهما ويترك الباقي من الأمر لي أنا.
من هذه النقطة ابتدأت الثورة الروحية العملية على الـخوف والوجل والتهرب، على صفات الـخنوع والذل. «إني أسست حزباً قومياً في السر لا لكي يبقى في السر، بل ليظهر للملأ معلناً تـجدد أمة كان العالم يظنها ميتة» هذه هي العبارة، التي أجبت بها على سؤال قاضي التحقيق الأجنبي عن السبب في كون الـحزب سرياً.
أتظنون أنّ هذه العبارة هي التي كان يتوقعها الناس. ألم يقل الكثيرون في نفوسهم «سنرى كيف يتنصل سعاده من تبعة الأمر الذي يقوم به؟»
الـحقيقة أنّ الـحزب السوري القومي هو أول حزب تـجرأ على التأسس في سورية بعد إلغاء الأحزاب وإعلان قوانين قمع الـجرائم الـمخيفة. وكنت أشعر أنّ الكثير من الذين دخلوا الـحزب كانوا يظنون التستر والـخفية أقوى قوة في الـحزب، ويتخوفون كثيراً من انكشاف أمر الـحزب وظهور أسمائهم حتى أنّ مجلس العمد الأول بحث في إحدى جلساته ضرورة كتمان إسم الزعيم والعمد، فلما رفضت أن يكتم اسمي والعمل بسياسة الكتمان والإبهام رأى أعضاء الـمجلس أن يوافقوني على أنّ سياسة الـجلاء والصراحة هي الأوفق. وكم وكم من الذين جاؤوا يراجعونني في أمر إتلاف بطاقات العضوية الـمثبتة مسؤوليات الأعضاء فرفضت الإصغاء لصوت الـخوف والوجل، وأجبت الذين كانوا يطلبون إتلاف التذاكر أو الاستغناء عنها «إننا حين ندخل الـحزب السوري القومي ندخل في حياة جديدة لا نريد أن نتخلى عنها» والذين كانوا يقولون «لا حاجة لهذه البطاقات، لأن الإيـمان في القلب، والأصل الباطن وكلمة الرجل تكفي لتقييده» أجبتهم «إنّ الظاهر يجب أن يدل على الباطن والذي يتقيد بكلمته لا يرفض أن تكون هذه الكلمة خطية وحاملة توقيعه.» إني أبغضت السياسة في القومية وكرهت الاحتيال للتهرب من الـمسؤولية بشرف ولكني لم أحتقر الذين خاطبوني، لأني كنت أعرف نفسية البيئة قبل النهضة، بل صبرت وحدثتهم بـما يشجعهم ويقوي معنوياتهم.
إنّ موقفي في دائرة الأمن العام وعند قاضي التحقيق الفرنسي كان مشجعاً لرفقائي ولكن بعد الليلة الأولى في السجن عاد إليهم الشك والتفكير في الـمصير الـمبهم فأخذوا ينحون عليَّ باللائمة ويعدّون اتساع نطاق الـحزب من الأغلاط التي أؤاخذ عليها، وإني لو أصغيت لرأي بعضهم وعملت به لـما كان الـحزب بلغ هذا الاتساع، ولـما كان انكشف أمره ولـما كنا دخلنا السجن. فلما تضايقت من هذا الـملام حملت وسادة وانتحيت ناحية وقعدت لوحدي فشعر رئيس مجلس العمد بالغلط الذي ارتكبوه، وجاء إليَّ واعتذر عن الضعف الذي أظهروه. وبعد أيام جاءت الأخبار عن تنبه الرأي العام وتقديره موقف الـحزب فانتعشت الآمال داخل السجن وقويت الـمعنويات خارجه بـما ظهر من عطف في الرأي العام. ومع ما ظهر على معاونيّ الأُوَل والرفقاء الذين سجنوا معهم من ضعف أوّلي فلا بد لي من التصريح بأن فترة الضعف كانت قصيرة وأنهم تـحمّلوا الصدمة هم وعيالهم وأهلهم على أفضل ما أمكن.
بالـموقف الذي وقفنـاه بين دخـول السجـن والـخـروج من الـمحكمـة انتصرت روحية الـحزب السوري القومي على عوامل الزمن العتيق وروحيته العديـمة الفضائل والـمناقب.
بعد الـمحاكمة وصدور الـحكم عليَّ بالسجن ستة أشهر، انصرفت إلى تأليف كتابي نشوء الأمـم فأكملته في نحو ثلاثة أشهر بينما كنت أتتبع، ما أمكن، أعمال الـحزب وحالة البلاد.
مـما لا مشاحة فيه أنّ ظهور الـحزب السوري القومي بهذا الـمظهر الـجريء السامي أطلق في جسم الأمة تياراً فكرياً قوياً وثورة خواطر لم يسبق لها مثيل في القرون الـمتأخرة. وكان من البديهي أن تنكسف أمام أنوار النهضة القومية الأنوار الضئيلة التي ظلت مدة من الزمن الأنوار الوحيدة في البلاد. ولكن أصحاب هذه الأنوار الضئيلة غاروا غيرة كبيرة من الـحزب، ورأوا أن يقوموا بعمل يحوّل اتـجاه الأنظار إليهم بعدما أخذت تتجه إلى الـحزب السوري القومي، فحركوا الـجماعات في الداخل وحملوها على الهياج وإقفال الـمدن والـمطالبة بعقد معاهدة تـحلّ محل الانتداب. ولكنهم لـمّا تيقنوا من الـخطر الذي أحدق بهم حين تدخّل الـجيش الفرنسي في الأمر، أصدروا بياناً إلى الشعب يدعونه فيه إلى العودة إلى مجرى حياته العادية وترك الأمر لهم ليعالـجوه بطرقهم السياسية. ولكن الطلاب أبوا الإذعان لهذا البيان وكان بينهم عدد من أعضاء الـحزب السوري القومي فأظهروا خرق رأي البيان ونادوا بالاستمرار في الإضراب إلى أن تـحقق الـمطاليب. وخرج الطلاب يطوفون أحياء دمشق ويعيدون إغلاق ما فتح من مخازنها، إلى أن تقرر فتح الـمفاوضات التي انتهت بعقد الـمعاهدة.
الـحقيقة أنّ عقد الـمعاهدة لم يكن إلا استثماراً للتنبه الذي أحدثه ظهور الـحزب السوري القومي. ولذلك جاءت معاهدة خالية من الشروط القومية الأساسية واقتصرت على بعض الـمطاليب، التي لا تعبّر عن إرادة الأمة بل عن وجهة نظر رجال «الكتلة الوطنية» غير الـمنظمين، وغير واضحي الأهداف القومية، الـمنشئين سياستهم على الاعتباط والـمناسبات.
وليس أظهر لسياسة «الكتلويين» الاعتباطية من حملة بعض رجالهم على الـحزب السوري القومي قبل درس مبادئه وأهدافه وسياسته، ومن إبائهم الاتصال به والاعتراف به وبجدارته لـمعالـجة القضية القومية والـمسائل السياسية والتضامن معهم. فهم غاروا غيرة شديدة على كبريائهم من أن يـمسها تفوّق الـحزب السوري القومي بنظرته القومية الـجلية ونظامه البديع ونهضته الرائعة. ولم يريدوا أن يكتفوا بالـمقدار الذي تـمكنوا من إعطائه، إذ ليس ذلك من صفات الشركات السياسية، بل أرادوا أن يدّعوا كل شيء لأنفسهم وأن ينكروا على غيرهم مؤهلاتهم وابتكارهم. فبدلاً من أن يفتحوا الباب للتقارب بينهم وبيننا والتفاهم على خوض الـمعركة معاً، والـمعركة تلك كانت تـحتاج لوجودنا وللاستعانة بنظرياتنا ونظامنا، تـجاهلونا وتـجاهلوا الـحدث العظيم الذي قمنا به، والثورة التي ولّدناها وأهملوا الإمكانيات التي أوجدتها نهضتنا واقتصروا في مفاوضات سنة 1936 على الـمطاليب عينها التي قدموها سنة 1928، بل على أقلّ منها.
مع كل ذلك، ومع أنهم بادأونا بهجوم اعتباطي فقد قررت التعاون معهم على الرغم منهم في سبيل الـمصلحة القومية وأصدرت تعليماتي في هذا الصدد من السجن. وبناءً عليها توجه من عيَّنته نائباً إدارياً للزعيم وأخذ بصحبته أحد الـمفوضين إلى دمشق وعرف هذا الوفد بوفد صلاح لبكي ومأمون أياس، الذي قدّم للوفد الـمفاوض مذكرة اقتصادية باسم الـحزب. ثم عدت فأرسلت تعليمات من السجن بوجوب إرسال مذكرة باسم الـحزب السوري القومي إلى الوفد الذاهب إلى باريس توصي هذا الوفد بوضع تـحفظات في الـمعاهدة من أجل العقيدة القومية في لبنان، وترك الباب مفتوحاً لاتصاله بالشام في الـمستقبل. وقد جاءني من إدارة الـحزب جواب رسمي بأن مذكرة بهذا الـمعنى سلِّمت إلى الوفد في رياق قبل مسير القطار بدقائق قليلة. ثم أرسلت تعليمات جديدة في 25 فبراير/شباط 1936 بوجوب وضع مذكرة باسم الـحزب السوري القومي تعلن وجهة نظر الـحزب في الـمسألة الـمعروضة للبحث في باريس. وقد كانت دهشتي عظيمة عندما قرأت في الـجرائد أنّ الأستاذ صلاح لبكي، الذي كان آنئذٍ نائباً للزعيم، قدّم باسمه الشخصي مذكرة إلى الـجمعية الأمـمية عرفت بـ «عريضة الأستاذ لبكي». وقد علقت على هذه «العريضة» في كتاب أرسلته من السجن في 8 مارس/آذار 1936 بهذه العبارة: «إنّ الـحزب يجب ألا يظهر بأنه يقتصر على لبنان وتـمثيل إرادة لبنانية، بل يجب أن يـمثّل دائماً آمال الأمة السورية جمعاء» ولم أعلق آنئذٍ شيئاً على الـمظهر الشخصي الفردي الذي ظهرت به هذه «العريضة» التي أردتها أن تكون رسمية أو لها، على الأقل، صفة الـجماعة.
أيها السوريون القوميون،
إنّ حزبكم هو الذي قام بالنهضة القومية التي حملت وزارة فرنسة على انتهاج خطة جديدة تـجاه سورية، ولكن الـمتزعمين لم يحسنوا الاستفادة من الظروف الـملائمة التي خلقناها، بل استفادوا منها لعقد معاهدة لم يحتاطوا لـجعلها مستوفية شروطاً أساسية واتخذوها هي احتياطاً لسياستهم. وعندما سألنا عن أسباب تراجعهم في الـمفاوضات سمعنا أنهم قالوا: «إنّ الفرنسيين كانوا يرفضون البحث خارج النطاق الذي حددوه!»
ولا بد لي من التصريح أيضاً أنّ الـحزب قد قصّر كثيراً أثناء وجودي في السجن في الاستفادة من القوة الروحية العظيمة، التي ولّدها في الشعب، ولم يفعل شيئاً في سبيل إظهار قوّته. فبالرغم من تعليماتي الصادرة من السجن بأني أريد أن أرى الـحزب في جمهوره وقوّته الـمعنوية يوم خروجي من السجن، فإن الإدارة الـمركزية قررت منع السوريين القوميين من استقبال الزعيم في مجموعهم يوم خروجه من السجن، وقسمت الاستقبال إلى فرق ومواعيد استغرقت نحو شهر كامل فتقسمت بذلك معنوية الـحزب وضعف اندفاع أعضائه وكانت تلك الفرصة مناسبة جداً لزيادة معنويات الـحزب وإظهار قوّته.
ولم أكد أفرغ، بعد خروجي من السجن، من برنامج الاستقبالات الطويل حتى حدثت حوادث تأديب الصحفيين الذين أخذوا يفترون على الـحزب، وتلا ذلك اعتقال عدد من الأعضاء ثم اعتقال الزعيم. ولـمّا كنت رأيت من الاعتبار السابق أنّ تدبير نيابة الزعامة الذي لـجأت إليه الـمرة الأولى ليس مستوفياً شروط العمل به تركت مرسوماً بتشكيل مجلس أعلى موقت وتعيين الأعضاء صلاح لبكي، نعمة ثابت، مأمون أياس، فوزي بردويل، يوسف بحمدوني أعضاء في هذا الـمجلس برئاسة صلاح لبكي.
ولكن هذا الـمجلس اجتمع، بعد الـجهد الـجهيد، في جلسة غير رسمية وغير نظامية، على شاطىء البحر وأجمعت آراء ثلاثة أخماسه على عدم إمكانية العمل وعلى عدم مقاومة الضغط وعلى التخلي عن مسؤوليات الـمجلس. وقرر الـجميع تفويض العضو مأمون أياس بالإدارة العامة.
كان ذلك روحية سيئة جداً من الذين وضع الزعيم ثقته فيهم، انعكست على روحية الأعضاء عموماً وأوجدت في الـحزب ميلاً إلى الـخضوع للضغط والتراخي وزعزعت مبدأ التضامن في الـمسؤوليات والعمل النظامي، وهدمت كثيراً من الثقة العامة التي اكتسبها الـحزب من مظاهر القوة والعزم في السجن الأول. فدعا ذلك إلى أسفي الشديد ولكني ظللت واثقاً بإيـمان الأعضاء ورسوخ عقيدتهم. وبعد مدة من الفوضى في شؤون الـحزب بسبب اضطرار الـمدير العام ورئيس مجلس العمد السابق إلى التواري عن الأنظار، تطلّب التحقيق سجن صلاح لبكي فجيء به إلينا. فأظهر لي أعذاره واستعداده للعودة إلى العمل بعد خروجه من السجن فقبلت أن أعطيه فرصة أخرى. فشكلت مجلساً أعلى ثانياً وأعدته رئيساً عليه، ولكن عمل هذا الـمجلس لم يكن منتظماً وحصلت مشادة بين الرئيس والأعضاء على الـخطة السياسية. وأهمل أمر الفروع حتى اشترك فرع طرابلس في حوادث الاضطرابات من تلقاء نفسه. وظهرت في أعمال هذا الـمجلس بعض البوادر الشخصية غير الواضحة.
خرجت من السجن الثاني بعد قضاء أربعة أشهر ونيف في معاملة سيئة واضطهاد، بعد أن أكدت لرئيس الـجمهورية أنّ الـحزب يسعى الآن لتحقيق فكرة الوحدة القومية، خصوصاً وأنّ السبيل للمطالبة بالوحدة السياسية قد أقفله «الكتلويون» عملياً. وكان أول عمل رأيت القيام به هو زيارة مناطق الـحزب وتفقد روحية الأعضاء. فزرت منطقة اللاذقية أولاً وتـجولت فيها ووقفت على روحية الأعضاء وعلى الإصلاح الإداري الذي تـحتاج إليه وباشرت تأمين ذلك. ثم أخذت أعيد تشكيل الإدارة الـمركزية.
وكانت الشؤون السياسية تتطور تطوراً سريعاً وجاءت الأخبار عن انتظار حدث للواء الإسكندرونة فكتبت في الـحال مقالاً نشر في جريدة الشرق (أنظر ج2 ص 95) حملت فيه على محاولة الأتراك خرق الـحدود الشمالية وأتبعت هذا الـمقال بـمذكرة إلى الـجمعية الأمـمية (أنظر ج2 ص 58) أبيّن فيها الـمشاكل التي تنشأ في الشرق الأدنى من فصل هذا اللواء السوري عن جسم الوطن، وفي حين أن سياسيي الداخل لم يظهروا أية محاولة جدية لإنقاذ مصير اللواء، أعلنت أنّ ألوف السوريين القوميين مستعدون للدفاع عن الإسكندرونة.
ثم زرت منطقة الشوف التي يجري فيها نزاع شديد بين الـحركة القومية ونفوذ الإقطاعيين. وكان للحزب السوري القومي في الشوف موقف باهر بعظمته تـجاه القوى الـمسلحة التي لم يكن لقدومها مبرر. وتلا زيارة منطقة الشوف الاستقبال الكبير في بكفيا، الذي يكوّن في حياة الـحزب نقطة تاريخية. في بكفيا ظهرت متانة نظام الـحزب وقوة معنوياته بأبرز مظاهرها. في بكفيا أظهر الـحزب السوري القومي تفوّقه الـمعنوي. فهو لم يكن قادماً لـحرب أو لقتال ولكنه أظهر تفوقاً عظيماً في موقفه وحمل القوة الـمسلحة على احترامه. وغلطة واحدة من جهة، وسوء تصرف أو سوء نية من الـجهة الأخرى، أديا إلى حملة الـجند على فريق الشوير وبكفيا والـخنشارة وضرب عدد منهم بأقفية البنادق وفوهاتها وسقوط جريحين وحصول جروح ورضوض طفيفة لآخرين من الأعضاء.
إنّ حادث بكفيا هو اختبار هام من اختبارات الـحزب السوري القومي في جهاده لقوميته وحلقة متينة من حلقات تاريخه. إنه كان من جهة اعتزازاً بقوة الـحزب ونظامه، ومن جهة أخرى كان أول صدمة من هذه الصدمات التي تـمرّ في حياة كل حزب يتطلع إلى الـمسؤوليات العامة. كان لا بد من حدوث هذه الصدمة لنا لنعرف كم هو استعداد الـحزب لقبول الصدمات باكتراث عادي والتغلب عليها والاستمرار في السير إلى النصر. فإن الـحزب الذي لا يستطيع الصمود لصدمة كصدمة بكفيا التي خبرناها بتضحيات من مقدرتنا، والـحزب الذي لا يتوقع صدمات كصدمة بكفيا هو حزب غير جدير بالـحياة. وإني أهنىء السوريين القوميين الذين حضروا يوم بكفيا بالـموقف الشريف الذي وقفوه وصار جزءاً هاماً من تاريخ نهضتنا وجهادنا. إنّ الذين وقفوا في بكفيا سيكون لهم ذكر حميد يوم تنتصر النهضة القومية، وإنّ في موقفهم ما يشد أواصر وحدتنا ويدفعنا إلى الأمام.
بعد حادث بكفيا كانت الاعتقالات الأخيرة التي جاءت والـحزب لا يزال فاقداً الشيء الكثير من حيويته الـمركزية بسبب الاعتقالات السابقة وجنوح عدد من الـمؤهلين للعمل إلى اتقاء الـخطر، وهو من بقايا روحية الـخنوع العتيقة، التي لا تزال عالقة بنفوس كثيرين والتي آن لنا أن نتحرر منها إذا كنا نريد تـحقيق غاياتنا السامية، وإننا نريد. وكانت هذه الاعتقالات أخطر الاعتقالات في عنفها وشدّتها، فتجهّم الـجو حتى ظن قليلو الإيـمان أنّ الساعة قد دنت، وقام خصوم الـحزب السوري القومي يبشرون بـموته وبينهم الأحزاب الطائفية، التي أنشئت بقصد محاربة الـحزب السوري القومي.
في هذه الـمرة أوقفت جميع الـمفاوضات التي كان يقوم بها عادة من تبقى خارج السجن. وتـمكنت في مدة قصيرة من حمل الـحكومة على الاقتناع بأن الوحدة القومية التي نريدها هي شرط أساسي للوحدة السياسية، التي صرح لنا كبار الـمسؤولين في الـجمهورية اللبنانية أنهم لا يـمانعون بها على هذا الأساس. وقد أكدت للحكومة اللبنانية أنّ غرضنا ليس هدم الكيان اللبناني، بل بناء سورية. وكانت الـحكومة قد تعبت هي أيضاً من هذه الـمشادة على غير طائل، فرأت الإفراج عنا على هذا الأساس. وهكذا استطعت أن أصل بالـحزب إلى هذه الـحالة السلمية، التي تسمح لنا بتجديد معنوياتنا ومتابعة أعمالنا الإنشائية التعميرية.
بيد أنه يجب ألا يساء فهم غرضنا من ترك الكيان السياسي اللبناني. فنحن أمة واحدة سواء أكنا دولة واحدة أم عدة دول. وكل من يعتدي على قسم منا فقد اعتدى علينا جميعاً.
وقد جاءت الانتخابات اللبنانية بعد مدة قليلة من وقت خروجنا من السجن. وكان جو هذه الانتخابات متجهماً والدعاوات سائرة على قدم وساق. وبرزت الأنانيات الـجامحة على الـمرسح. وظن بعض هذه الأنانيات أنه يستطيع تسخير الـحزب السوري القومي لأغراضه وتضحيته على مذبح شهواته. أما الـحزب فتجاه ما كان متراكماً عليه من القضايا الـجزائية، وتـجاه الـحاجة إلى وقت لإعادة تنظيمه بعد نحو سنتين من اعتقالات وملاحقات، لم يكن في حالة تسمح له بخوض الـمعركة الانتخابية بأساليبها الطائفية الفاسدة وإمكان شراء أصوات كثيرة بالـمال فضلاً عن الاتـجاهات السياسية، التي كنت أرى خطوطها بجلاء. ولذلك فضلت العمل لـمصلحة الـحزب، لا سيما ونحن لا فرق عندنا بين حكوميين ومعارضين في السياسة الـحاضرة. فكان موقف الـحزب السوري القومي في الانتخابات أعظم الانتصارات السياسية.
إنّ هنالك أفراداً تعوّدوا تسخير الأحزاب التقليدية لـمنافعهم الـخاصة فظنوا أنهم ينالون من الـحزب السوري القومي ما كانوا ينالونه من الأحزاب الأخرى. وقد ساء فألهم، لأن الـحزب السوري القومي يقول إنّ الأفراد يسخَّرون للقضية القومية لا القضية القومية للأفراد.
في هذه الفترة السلمية الأخيرة تـمكن الـحزب السوري القومي من لمِّ شعثه واستعادة الشيء الكثير من معنوياته. وتـمكنت من الاهتمام بقضية فلسطين فوضعت مذكرة عجلى رفعتها إلى الـجمعية الأمـمية رداً على تقرير البعثة الـملكية البريطانية. وكان لهذه الـمذكرة الشأن الذي تعرفونه في الدفاع عن حقوقنا القومية في الـجنوب وتسديد الأفكار إلى الـمسائل الأساسية في قضيتنا الـجنوبية.
وبعد الانتخابات اللبنانية جرت الانتخابات الـجزئية في منطقة اللاذقية فخضنا الـمعركة وفازت جبهتنا في تلكلخ - الـحصن. وبعد زوال هذه الـمشاكل الـملحّة تـمكنت من العودة إلى الاهتمام بأهم عمل أساسي بعد تأسيس القضية القومية، ألا وهو إيجاد الـمؤسسات الصالـحة لـحمل مبادىء الـحياة الـجديدة وحفظ مطاليبها العليا وخططها الأساسية فأعدت الـمؤسسات التي أنشأتها قبل انكشاف أمر الـحزب وزدت عليها مؤسسات لـجان الـمديريات الاستشارية ومجالس الـمنفذيات والـمكتب السياسي وشُعَبه السياسية. وفسحت بهذا العمل الـمجال أمام الكفاءات السورية القومية للقيام بالأعمال الـمؤهلة لها بصورة نظامية. وهنالك طائفة من الـمؤسسات الصغرى الإذاعية والثقافية هي الآن في دور التأسيس ومتى استكملت تأسيسها كانت جهازاً دقيقاً عظيم الفاعلية.
إنّ إنشاء الـمؤسسات ووضع التشريع هو أعظم أعمالي بعد تأسيس القضية القومية، لأن الـمؤسسات هي التي تـحفظ وحدة الاتـجاه ووحدة العمل، وهي الضامن الوحيد لاستمرار السياسة والاستفادة من الاختبارات. بواسطة مؤسساتنا الـحزبية الـمنظمة تـمكنّا من القضاء على الفوضى وترقية خططنا وأساليبنا. ولولا مؤسساتنا القوية ونظامها الـمتين لكانت العوامل الشخصية الأنانية التي برزت في بعض الظروف تـمكنت من تسخير جهاد ألوف السوريين والسوريات لـمطامعها.
كثير من الناس الذين لا يعلمون شيئاً عن أعمالنا ولا يفقهون طبيعة الأعمال الإنشائية العظيمة يقولون: «ماذا فعل الـحزب السوري القومي وماذا يفعل؟» هكذا كانوا يتساءلون قبل انكشاف أمر الـحزب السوري القومي «ماذا يعمل سعاده وما شأنه؟» أما الـحزب السوري القومي فقد حقق حتى الآن يقظة سورية ونهضتها القومية. وأما سعاده فليس بغافل لـحظة واحدة عن مصلحة الأمة.
لم يبقَ أمام الذين أفلسوا من كل سياسة وطنية أو قومية صحيحة غير «القضية العربية» ستاراً لعجزهم الفاضح وللخسائر الوطنية الفادحة التي جلبتها على الأمة سياستهم العقيمة. أما نحن فقد قضينا على الـخرافة القائلة إننا شرقيون وإنّ مصيرنا يجب أن يكون كمصير الشعوب الشرقية. نحن لا ندخل في عداد الشعوب الشرقية.
نحن مصدر ثقافة البحر الـمتوسط الذي صيّرناه من قبل بحراً سورياً تـحمي مراكبنا سبله وتـحمل إلى شواطئه الشمالية والغربية والـجنوبية ثقافتنا واختراعاتنا واكتشافاتنا.
أيها القوميون،
إنّ تغلّب الـحزب السوري القومي على الصعوبات العظيمة، التي وُضعت في سبيله وإثباته أفضليته للبقاء واستعادته معنوياته الـمثلى، وتثبيت مؤسساته بعدما لـحق بها من تهديـم تـجعلكم الآن تشعرون أنّ لكم كياناً قومياً حقيقياً وأنكم قد جددتـم صفة أمتكم التعميرية وجَلَدِها العظيم في سبيل حقها وأهدافها العليا.
وإذا كان الـحزب السوري القومي يشعر اليوم أنه أقوى وأمتن من أي زمن سابق فهذه الـحقيقة نتيجة عودته إلى آدابه وتقاليده الـمثلى، ونتيجة تطهيره من الـجواسيس ومن الذين أرادوا أن يجعلوه مطية لأنانياتهم.
إنّ أكثر الذين طُردوا من الـحزب السوري القومي كانوا إنتهازيين تأتي مطامعهم قبل القضية القومية. وبقاؤهم في الـحزب بعد ظهور غاياتهم وخياناتهم كان يجعل قضية الـحزب في خطر دائم. هنالك عدد من الناس يظن أنّ طرد الـخائنين والـمتلاعبين هو غلط أو سابق لأوانه فيقول: «أنظروا كيف صبر هتلر أو غيره على الذين كان يشعر بخيانتهم لقضيته» وهم يعنون أن نصبر على الـخونة إلى أن ننال النصر. فأجيب على هذا الظن أنّ الأسباب التي عندي تختلف عن الأسباب التي عند غيري، وقد تساهلت مع الانتهازيين ما وجدت إلى التساهل سبيلاً فلما رأيتهم يعرّضون الـحزب للخطر أقصيتهم. وإني أوصيكم بالقضاء على الـخيانة أينما وجدتـموها، لأنه إذا لم نتخلص من الـخيانات لا نبلغ الغاية. والـمجتمع الذي يحتضن الـخيانة ويفسح لها مجال الـحياة مجتمع مصيره إلى الـموت الـمحتم. وإني أعرف جيداً ما أقول وما أفعل. وبالعناية عينها التي أسست بها الـحزب وأنشأت مؤسساته أسهر عليه وعلى هذه الـمؤسسات لتعطي النتيجة التي أنشئت لها.
والآن وقد تغلّبنا على الصدمات الأولى وثبتّنا مؤسساتنا فإننا نرى طريقنا واضحاً، ونلتفت إلى ما حولنا بثقة تامة بالنصر. فكل ما يجري الآن على مرسح السياسة إنـما هو تدجيل. ففي لبنان يتراشق الـحكوميون والـمعارضون وليس من وراء هذا التراشق أية فائدة للشعب. وكذلك الـحال في الشام. ونحن نقول إنّ الأمة ليست محتاجة لإسقاط هذه الوزارة وتأليف تلك الوزارة، بل هي بحاجة لتغيير السياسيين الكلاسيكيين العفنين وأساليبهم الفاسدة. إنّ الـمدرسة السياسية القديـمة يجب أن تزول كلها وتـحلّ محلها مدرسة السياسة القومية لكي يـمكن الإصلاح. وما أقوله في صدد لبنان والشام أقوله في صدد فلسطين، فالسياسيون الكلاسيكيون هناك لم يتمكنوا من إيجاد أي دفاع مجدٍ يصدّ الـخطر اليهودي، لأن أساليبهم لا تزال من ذلك النوع العتيق الـمسيطرة فيه الصفة الاعتباطية والأنانية الـمغررة بالشعب.
ولا بد لي من التصريح في هذا الـموقف أنّ الـخطر اليهودي هو أحد خطرين أمرهما مستفحل وشرّهما مستطير. والثاني هو الـخطر التركي. وهذان الـخطران هما اللذان دعوت الأمة السورية جمعاء لتأييد الـحزب السوري القومي في مناهضتهما في مواقفي العديدة منذ نحو سنتين. أما الـخطر التركي فقد أصبح مداهماً بعد نزع السيادة السورية عن لواء الإسكندرونة. وأما الـخطر اليهودي فقد أصبح مداهماً بعد فشل ثورة 1936 وتدخّل عناصر غير سورية في مسائلنا الـجنوبية.
ولا ينحصر خطر اليهود في فلسطين، بل هو يتناول لبنان والشام أيضاً. إنه خطر على الشعب السوري كله، لأن اليهود لن يكتفوا بالاستيلاء على فلسطين، ففلسطين لا تكفي لإسكان ملايين اليهود، الذين أثاروا عليهم الأمـم النازلين في أوطانها بقدر ما عملوا لقضية قومية خاصة بهم. وهم منذ اليوم يقولون: «الـحمد لله أننا أصبحنا نقدر أن نـمارس الرياضة الشتوية في أرض إسرائيل» يعني التزحلق على الثلج في لبنان! أيدرك الآن اللبنانيون الـمغرقون في لبنانيتهم ما هي الأخطار التي تهدد الشعب اللبناني؟
إنني عندما أقول: إننا ننظر إلى الـمستقبل بثقة تامة بالنصر، أعني أنّ الأمة ستكون معنا، لأن الـحزب السوري القومي يـمثّل مصالـحها وإرادتها وقوّتها، ولأنه الـحزب الذي يهتم بـمسائلها الأساسية الـحيوية بينما السياسيون التقليديون يحاولون التغرير بها بشعوذاتهم، وإننا نؤمن أنّ الشباب في لبنان وفلسطين والشام لا يلبث أن يدرك أنّ الأحزاب التي أنشئت على غرار الـحزب السوري القومي بقصد محاربة هذا الـحزب أو بقصد منع الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي الذي يريد حزبنا تـحقيقه هي حرب على الأمة وضربة على الشعب. وإنّ أهدافها الـحقيرة وعواملها الرجعية تزيد في خفضه وتقييده بدلاً من تـحريره ورفعه إلى الإدراك العالي والـمطالب السامية. إننا نثق بأن الشباب الـمستيقظ على نور القومية الـمرسل من الـحزب السوري القومي سيدرك جيداً أنّ الرجعة الـمنظمة شر من الرجعة غير الـمنظمة.
إنّ الشعب سيدرك أنّ مسألة الديون لا تـُحلّ بفضّ مشكلة الدائن والـمديون. وإنّ الزراعة لا تكون مورداً قومياً بواسطة مشاريع الري. وإنّ الصناعة لا تتحسّن وتسد حاجاتنا بـمجرّد إعفائها من الرسوم على الآلات الـمستوردة. وإنّ التجارة لا تزدهر بتعديل القوانين التجارية. إنه سيدرك أنّ حل جميع هذه الـمسائل لـمصلحة الأمة لا يكون إلا بتحقيق قضية الـحزب السوري القومي.
إنّ نهضتنا القومية قد أصبحت أمراً واقعاً. وإننا نعمل ونثق بأنها ستحقق غايتها وتنفّذ الإصلاح الذي تـحتاج إليه الأمة.
(1) صدر في كراس عام 1938.