اجتماعية الإنسان وقدمها
مهما يكن من أمر النظريات المتعلقة بنشوء الإنسان وهل حدث ذلك ابتداءً من حالة قردية كانت درجة من درجات ارتقائه، أم أنّ القردية حالة منحطة تفرعت من حالة التطور نحو البشرية(1)، فمما لا شك فيه أنّ الإنسان يقع من الوجهة الإحصائية، في جدول الحيوانات المتجمهرة أو المتجمعة، أو هي الأنواع الحيوانية التي يعيش أفرادها جماعات (كالنحل والنمل والوعول والغزلان والذئاب والغنم وغيرها). فالاجتماع صفة ملازمة للإنسان في جميع أجناسه، إذ إننا حيثما وجدنا الإنسان، وفي أية درجة من الانحطاط أو الارتقاء وجدناه، وجدناه في حالة اجتماعية. وهكذا نرى أنّ المجتمع هو الحالة والمكان الطبيعيان للإنسان الضروريان لحياته وارتقائها.
ولـمّا كنا لم نجد الإنسان إلا مجتمعاً، ووجدنا بقايا اجتماعه في الطبقات الجيولوجية أيضاً، فنحن محمولون على الذهاب إلى أنّ الاجتماع الإنساني قديم قدم الإنسانية، بل إننا نرجّح أنه أقدم منها وأنه صفة موروثة فيها(2). نرجح ذلك، حتى في حال ثبوت قرابة الإنسان والشمبنزي(3).
وإذا كان الإنسان يقع، من الوجهة الإحصائية، في جدول الحيوانات المتجمهرة، فلا يعني ذلك بوجه من الوجوه أنّ بينه وبين الحيوانات والحشرات المذكورة قرابة اجتماعية تمكن من استخراج أقيسة عامة تطبَّق على كلا الحيوان والإنسان، كما ظن ويظن عدد من الكتّاب الاجتماعيين وغيرهم. وإنّ من أكبر الأخطاء التي وقع فيها هؤلاء الكتّاب محاولتهم تطبيق أحوال المجتمع الإنساني على مظاهر تجمهر الحيوانات والحشرات واتخاذ قواعد اجتماعية من هذا التجمهر ومظاهره. وإذا كان في أنواع حياة الحيوانات والحشرات المتجمهرة شيء ذو فائدة للإنسان فليس ذلك في واقع التجمهر بل في الحقائق الأخرى التي نتوصل إليها بالدرس في جميع الحيوانات والحشرات، سواء أكانت من المتجمهرة أم من غيرها، ففي الحياة سُنَنٌ عامة تجري على الأجسام الحية كلها. على أنّ في المتجمهرة منها فائدة أخص، وسنُلمّ بذلك فيما يلي:
وجهة الاجتماع البيولوجية
إذا وجّهنا نظرنا إلى عالم الحشرات والحيوانات الدنيا ودرسناه من الوجهة البيولوجية بتدقيق، وقفنا على حقائق كبيرة الأهمية والفائدة. ذلك ما نلاحظه من أنّ الحيوانات أو الحشرات التي لا تعتني كثيراً ببيوضها أو خليات توالد حياتها تضع من هذه الخليات عدداً كبيراً. وإنّ القاعدة هي أن تقلَّ عدد البيوض بالنسبة إلى ازدياد العناية بالإنتاج(4). وهذه الحقيقة تجعلنا نفهم الشيء الكثير من أسباب تصرّف الحيوانات والحشرات التي هذا شأنها. والملاحظة الثانية تفيدنا في فهم أنواع الحياة الاجتماعية للحشرات والحيوانات الدنيا. إنّ دور الذكر في حفظ النوع ينتهي عادة باللقاح الذي لا يزيد، غالباً، على مرة واحدة وبعد ذلك لا يكون للذكر أدنى أهمية في العناية بالنتاج(5). وإذا كان الإنسان يتفق وسائر الحيوان والكائنات الحية في مبدأ المحافظة على النوع وخدمة النسل، فإن ظروف تطبيق هذا المبدأ عند الإنسان تختلف عنها عند الحيوان. وإنّ الحشرات والهوام التي تتخذ عادة أمثلة للاجتماع كالنمل والنحل تختلف عن الحيوانات العليا والإنسان بغرائزها البيولوجية. فإن أفراد جماعات النحل والنمل فاقدة الحيوية الجنسية واجتماعها حول ملكاتها إنما هو تجمهر مقيد بخاصية حفظ النوع فقط.
نرى أيضاً من متابعة درسنا عالم الحشرات والحيوانات الدنيا من الوجهة البيولوجية أنّ هنالك أنواعاً من الزنابير تجري في حياتها على أسلوب فردي مطلق. وحين ندقق في هذه الظاهرة التي تخالف ظواهر النحل يتضح لنا أنّ السبب هو في حيوية هذه الزنابير الجنسية، فإن اكتمال جهازها الجنسي هو السبب الظاهر الوحيد الذي نستطيع بواسطته تعليل حياتها الفردية، كما أنّ ضمور الجهاز التناسلي في النمل والنحل هو أقوى عامل في تجمهرها حول ملكاتها وبيوضها.
ولسنا نطيل الشرح في موضوع يبعدنا التوغل فيه عن متجه هدفنا في هذا الكتاب. ونحن ما عرضنا لبعض نواحي الاجتماع الحيواني البيولوجية إلا لنوضح بالدليل والأمثلة أنّ الاجتماع في الكائنات الحية أنواع، لكل نوع منها خصائص لا تتعداه إلى نوع آخر وأنّ تطبيق الاجتماع الإنساني على مظاهر التجمهر في الحشرات والحيوانات الدنيا أو بالعكس غلط فادح سببه جهل مرتكبيه العوامل البيولوجية المختلفة في أنواع الاجتماع المختلفة.
وسواء أكان الاجتماع البشري موروثاً من اجتماع سابق الطور البشري، أم حادثاً بعد نشوء البشرية، فما يهمّنا منه أنه أمر واقع ملازم للبشرية وأنّ خصائصه ملازمة لخصائص الإنسان حتى أنه يستحيل تطبيق مقاييس اجتماع الحيوان ونظمه عليه، ويمتنع كل وجه لجعل الاجتماع الحيواني قياساً له.
تباين اجتماع الإنسان والحيوان
رأينا في درسنا وجهة الاجتماع البيولوجية أنّ خاصية حفظ النوع هي أظهر خصائص اجتماع الحشرات والحيوانات الدنيا. ويمكننا أن نضيف إليها خاصية الغذاء التي تكاد تكون، أو هي بالحقيقة، عملاً مطاوعاً للخاصية الأولى وضروراتها، إذ إننا نجد في أنواع حياة بعض أجناس الزنابير وغيرها من الهوام أنّ الأفعال الدماغية وما ينتج عنها من الأعمال، كالسعي في طلب الغذاء والاعتناء بالنتاج، تزيد وتنقص في الحيوان الجنسي (الملكة) وفاقاً لنقص أو زيادة أسباب العناية بالنتاج (أي نقص عدد العمال أو زيادته وما إلى ذلك من نقص الغذاء وتوفره)(6).
نلاحظ أيضاً في الحشرات المنشئة الدول ظاهرة أخرى جديرة بالاعتبار هي كون «الملكة» في هذه الحشرات أقلّ نمواً في دماغها من العمال، أو أنّ هؤلاء أكثر نمواً في الدماغ من تلك(7). وعليه يكون هذا التجمهر الدولي مؤلفاً من ملكة، ويندر أكثر، زائدة النمو في الجهاز التناسلي ومقصِّرة في نمو الدماغ، وعمال (والأصح عاملات) مقصِّرين في نمو الجهاز التناسلي وممتازين بنمو الدماغ.
أما الإنسان فمع أننا لا ننكر نصيب عوامل حفظ النوع في اجتماعه، فإن اجتماعه لا يصح أن يقابل بتجمهر الحشرات لعدم صحة أسباب هذا التجمهر عليه. فالحيوية الجنسية في كل إنسان تتكفل ببقاء النوع كما تكفلت وتتكفل به حيوية الغوريلا في معيشته الإفرادية أو الازدواجية. فالإنسان غير مضطر بطبيعة الحال الفيزيائية وغيرها إلى التجمهر لإقامة النسل. وليس هو في عداد الحيوانات التي هي من الضعف وانعدام وسائل الدفاع بحيث يكون التجمهر وكثرة النتاج أقوى أسباب بقائه، فإن خصائص الإنسان الفيزيائية، كانتصابه على قدميه الذي أطلق ليديه حرية الاستعمال، تؤهله للانفراد أو الازدواج في حفظ نوعه بما تجعل له من الامتياز والأرجحية على خصومه. فليس الاجتماع البشري، إذن، من الضرورات البيولوجية لحفظ النوع وفاقاً لطبيعة الحال، كما هو شأن الحشرات المتجمهرة.
وإذا تركنا الوجهة البيولوجية وعمدنا إلى الفوارق الاجتماعية البحتة، وجدنا في الاجتماع الإنساني ظاهرتين مفقودتين في غيره، هما: استعداد الفرد لبروز شخصيته، واكتساب الجماعة شخصيتها التي تكوّنها من مؤهلاتها الخاصة وخصائص بيئتها. وهاتان الظاهرتان الأساسيتان اللتان تميّزان الاجتماع البشري تمييزاً شديداً بخصائصهما لا وجود لهما في عالم الحشرات والحيوانات الدنيا، ولا في عالم الحيوانات العليا، فلا النمل والنحل والغنم والذئاب، ولا ما هو فوقها كالقرود لها شيء من خصائص هاتين الظاهرتين. بل هنالك الفارق الأساسي الأولي الذي يجعل لأعمال الإنسان وللاجتماع البشري صفة مستقلة تبطل كل مقابلة «اجتماعية» بين الإنسان والحيوان، هو ظهور الفكر الذي له كل الأهمية في الحياة والاجتماع الإنسانيين. ولا يبطل هذا ما قلناه من أنّ درس تجمهر الحيوانات وخصائصه يكون ذا فائدة كبيرة للإنسان ومجتمعه، ولكن هذه الفائدة لا تحصل إلا بالدرس الدقيق الذي يكفل تعيين هذه الفائدة. وأما اتخاذ ظواهر التجمهر والتجمع أساساً لبناء أحكام عامة تطلق على كلا التجمهر الحيواني والاجتماع الإنساني فكثيراً ما لا يكون من الفائدة في شيء بل قد يكون على العكس.
إنّ الفائدة المعيّنة الأساسية التي يمكن استخراجها من درسنا حياة الحيوان الاجتماعية وغير الاجتماعية هي في علاقة هذا بالمحيط وفي أنّ أفعاله ناتجة عن تفاعل ثلاثة أضلاع هي: الجسم؛ النفس (الدماغ)؛ المحيط، (أو سمِّها غير هذه الأسماء إذا شئت أو استسهلت ذلك لنوع البحث أو العلم الذي تريده). فإذا كانت حياة الحيوانات المتجمهرة تجري ضمن هذا المثلث فحياة الإنسان أيضاً تجري ضمنه. ومن تطبيق هذا الأساس الواحد على كلا الإنسان والحيوان نتوصل بالاختبار إلى تعيين الفوارق الجوهرية بين الحياتين. وهي الفوارق في كيفية فهم المحيط من الوجهة النفسية. ففهم المحيط من هذه الوجهة، فيما يختص بالظواهر النفسية، كالوعي والإحساس والإرادة والفكر والتصور وما إليها، ليس مما يمكن استكشافه في الحيوان. وهي هذه الظواهر التي لها كل الأهمية في حياة الإنسان الاجتماعية - في فهم الإنسان محيطه. وهكذا نرى أنّ موضوع استكشاف علم الاجتماع يختلف في الإنسان عنه في الحيوان.
ولقد حملت مظاهر الحيوان الاجتماعية المشابهة لمعاني ظواهر اجتماعية إنسانية، كالاستبداد والتعاون والتفاهم والرقص واللعب والتملك والتقليد وغيرها، بعض الاجتماعيين والاجتماعيين القدماء على التكلم عن حياة الحيوان الاجتماعية بالاصطلاحات المستعملة للتعبير عن حياة الإنسان الاجتماعية. والحقيقة أنه لا مبرر لاعتبار مظاهر من عالم الحيوان معادلة لمظاهر عالم الإنسان، وإيجاد علاقة بين تلك وهذه عن طريق بعض المشابهات الظاهرية العامة، واتخاذ ذلك أساساً لإيضاحها أو للتحدث عنها، فيما يختص بالإنسان، كما عن شيء واضح من الوجهة البيولوجية. فاتخاذ الأمثلة الاجتماعية للإنسان من الحيوان يجب أن يكون على العكس، أي من الإنسان للحيوان، فمظاهر كثيرة في عالم الحيوان الاجتماعي تشبه نوعاً مظاهر من عالم الإنسان الاجتماعي. ولكن كم هو عظيم مبلغ الرضى والاقتناع الذي يصاحب قولنا: «وهذا تجده أيضاً في الحيوان»، فما شأن هيئتنا الاجتماعية وثقافتنا وما إليهما إذا كانت حياتنا الاجتماعية ليست إلا تطبيقاً لأمثلة مأخوذة من عالم الحيوان؟
توزع البشر ونشوء الجماعات
نعرف من الحقائق العلمية التي نتوصل إليها بالبحث المتواصل أنّ البشر وجدوا في جميع مناطق الأرض الجغرافية الصالحة لمعيشتهم ما خلا أميركة وأسترالية منذ الأزمنة المتطاولة في القدم، في طور الإنسان الأول الوحشي.
فالبقايا البشرية التي اكتشفها علماء الهلك(8) في مختلف أنحاء البسيطة، كإنسان الصين وإنسان جاوى وغيرهما، تقيم الدليل على ذلك. ونستنتج منه ومما يقدمه لنا علماء الإنسان والسلائل البشرية أنّ البشر «توزعوا» سلائل نشأت أو تكونت وفاقاً لأحوال خاصة سواءً أكان حدوث هذا التوزع وفاقاً لما يذهب إليه بعض العلماء، ومن جملتهم غريفث تايلر، من أنه كان من أواسط آسية على قاعدة تطور سلائل لاحقة لا تلبث أن تدفع السلائل السابقة نحو الأطراف، أم وفاقاً لنظريات أخرى كالنظرية القائلة بتكوّن السلائل بتأثير الانعزال في بيئة معيّنة على ممر الحقب، أو كالأخرى القائلة بأن الإنسانية الأولية كانت مؤلفة من سلائل متميزة اكتسبت صفاتها الفيزيائية الثابتة في الأزمنة القديمة جداً، وأصبحت لا تقبل التغيّر مهما طرأ عليها من الانتقال والاختلاط. وبهذا يقول جمهور من العلماء الأنتربلوجيين والجغرافيين كدي لابلاش(9) وكبرس(10) وغيرهما. وهذه النظريات تجعل التوزع مذهباً علمياً تتوفر له الحجج، خصوصاً متى درسنا جغرافية السلائل (Ethnographie (y))وأدركنا منها مدى انتشار السلائل البشرية على وجه البسيطة.
في ذلك الطور الأولي الوحشي كانت القرابة الدموية الوسيلة الأولية لتطبيق المبدأ الاقتصادي للاجتماع - مبدأ التعاون على تحصيل القوت. فقد كان الإنسان في ذلك العهد صياداً يقتات من صيده ويرحل في أثر الحيوانات التي يستسهل صيدها ويستحسن طعم لحمها. فضرب في الآفاق جماعات - عشائر وقبائل - تربط كل جماعة منها رابطة الدم التي، ما دامت العامل الأولي الهامّ في تحقيق الرابطة الاجتماعية الاقتصادية، لا تسمح باتساع الجماعة وتعاظمها، لأنه مع الاتساع والتعاظم تتراخى الروابط الدموية وتفقد حيويتها. لذلك كانت العشائر أخص من القبائل والقبائل منتهى ما تحتمله الرابطة الدموية.
ضربت الجماعات البشرية في الآفاق، الأمر الذي أدى إلى انتشار السلائل قبائل قبائل بعدت فيما بينها الشقة، وتراخت ما بينها أواصر الاجتماع لانعدام الغاية الاقتصادية منه، ولعدم فائدة القرابة الدموية في حاجة من حاجات الحياة من جراء استحالة التضافر والتعاون باختلاف البيئات وبعد المسافات. وتوالت الارتحالات الكبيرة والصغيرة، واستمرت وتعددت وجهاتها واختلفت. وحيث دفعت قبائل سلالية إلى مكان قصيّ اعتزلت فيه، حافظت على نقاوة دمها ورجح أن تبقى من الارتقاء عند الحد الذي بلغته قبيل اعتزالها، مدة طويلة من الزمن على الأقل.
وكان من وراء هذه الارتحالات أنّ جماعات سلالية تبعت جماعات أخرى، أو قابلتها ونزلت قربها وصادمتها واحتكّت بها. وغلب في الجماعات المنحطة أو الأولية أو البربرية أنها حافظت على نقاوة دمها، لأنها، لانحطاطها، لم تكن تفقه رابطة اجتماعية غيرها. إلا أنّ هذه الجماعات كانت، لنموها وبداءة مدنيتها، تعجز عن معالجة هذا النمو بطريقة تحافظ على وحدة الجماعة وتضطر إلى الانقسام عشائر وقبائل. فحيث اعتزلت الجماعات السلالية وانتحت ناحية من أرض فصلت العوامل الجيولوجية بينها وبين غيرها، كما يرجح أن يكون الواقع فيما يختص بأسترالية وأميركة(11)، استطاعت الجماعات السلالية أن تتطور اجتماعياً على هذا النمط دون أن تتعرض تعرضاً خطراً للاصطدام أو الاحتكاك بعضها ببعض بحيث يكثر المزيج الدموي، وتفقد الجماعة وحدتها السلالية الدموية. أما حيث سهّلت العوامل الجيولوجية والجغرافية توالي الارتحالات والنزول في بقاع الأرض الخصبة وتقارب الجماعات، كما هو الحال في آسية وأوروبة، فإن الجماعات السلالية لم تلبث أن تلاصقت واحتكّت بعضها ببعض، وتمازجت بعامل الثبات في الأرض والعكف عليها الذي هو أصل العمران وسبب المدنية، بل هو الحال في أفريقية وأرخبيل «بولنيسيا» بل وفي أميركة أيضاً. ففي أفريقية نشرت قبائل البنطو لغتها فوق ثلثي طول أفريقية (40 ˚عرضاً)، في مدة قصيرة من الزمن(12). قبائل الماليانيين البولنيسيين انتشرت فوق كل المساحة العظيمة المؤلفة من 210˚ طولاً و80˚ عرضاً(13).
(14) المصدر نفسه، ص 79