مدلول السلالة
إذا وضعت تحت البحث قبيلة من القبائل أو شعباً من الشعوب وأخذت تعود القهقرى بأنسابه حتى تردّها إلى أب واحد، ثم تردّ هذا الأب إلى عائلة متفرعة من أبناء نوح، وتستمر في ذلك حتى تبلغ إلى آدم، وقسمت بعد ذلك الأقوام البشرية على هذه القاعدة إلى فروع آدم وهمي، وقلت إنّ معنى السلالة مشتق من هذا التقسيم، فإنك قد اختلط عليك علم السلائل وعلم الأنساب، فلا تميّز بين الواحد والآخر.
بيد أنه على مثل هذا جرى الأوائل في العصور المتمدنة الأولى، فكان النسب عندهم أصل الأجناس وتعليل حدوثها، لأن ما استندوا إليه في معرفة ذلك كان حكاية الخلق الخيالية التي تنوعت رواياتها في متعدد الأديان. ومن غريب هذه الروايات ما نقله [رواه] المسعودي [ت956م](1) مستنداً إلى «ماجاءت به الشريعة ورواه [ونقله] الخلف عن السلف والباقي عن الماضي»، وهو أنّ السبب في اختلاف ألوان البشر يعود إلى أنّ ملك الموت الذي أرسله الله أخيراً ليأتيه بطين من الأرض يخلق منه آدم أتاه بتربة سوداء وحمراء وبيضاء فلذلك اختلفت ألوان ذريته. وعلى هذا لا يكون البشر إلا ذرية تربطها الأنساب. وبديهي أنّ مثل هذا القول لا يوصلنا إلى حقيقة مدلول السلالة أو ماهيتها.
إذا تركنا وجهة التخمين والتقديرات التخيلية في الفوارق الظاهرة في جماعات النوع البشري وبحثنا عن مدلول كلمة «السلالة» العلمي وجدنا أنّ هذه اللفظة هي من مصطلحات العلم الطبيعي. والغرض منها تقسيم النوع الواحد إلى فروع (أجناس) تتوارث صفاتها ومزاياها الخاصة(2)، أما النوع فيقصد منه تحديد الكائنات الحية التي يُنتِج تزاوجها نتاجاً ناجحاً يكون له ذات المقدرة بلا حدود(3). فالأجناس تقبل الاختلاط والتزاوج والإنتاج ويمتنع ذلك في الأنواع إلا شذوذاً نادراً.
معتقدات السلالة
ليس بين جميع العقائد البشرية عقيدة غير الدين لعبت دوراً خطيراً في السيطرة على عواطف الأقوام كعقيدة السلالة، فقد كانت السلالة مقرونة بالنسب ومرادفة للفوز والمجد والأرستوقراطية ولذلك كانت سبباً للفخار والمباهاة والعجرفة.
وكما أنّ العرب أولعوا بالافتخار بالأنساب وهجْو بعضهم بعضاً بالقدح في القبائل المختلفة التي ينتسب إليها المتهاجون، كذلك كانت شعوب أخرى كثيرة تجري على مثل ذلك في أوائل عهودهـا. ففي القرون الوسطى كـان الأشراف يعـدّون أنفسهم من دم أفضل من دم العامـة المحتقرة منهم. وكان المظنـون أنّ الفلاحين هم من نسل حام الذي قيل إنّ نوحـاً دعا عليه بالعبودية. وكانت طبقات الفرسان في أقاليم مختلفة تعتقد أنها متحدرة من أبطال طروادة الذين قيل إنهم قطنوا إنكلترة وفرنسة وألمانية بعد سقوط تلك المدينة العظيمة. وفي فرنسة، موطن الفرنك، كان هؤلاء يردّون بالتسلسل إلى فرنسيون، أحد أبنـاء هكتور [Hector](4). ويقـال في الحقيقة إنّ نقولا فريره (Nicholas Freret) سجن في الباستيل سنة 1714 لأنه خطّـأ هذه النظرية!
وفي سنة 1749 حاول أستاذ ألماني في روسية اسمه مللر أن يثبت أنّ الروسيين هم من سلالة فنية - تترية. فأمرت الإمبراطورة أليصابات بالقبض عليه وسجنه في الحال وأن يجلد ناموس المجمع العلمي، تردباكوفسكي، الذي قال إنّ مللر على صواب. وقد أجبر مللر على تكذيب نفسه(5)!
شغفت أقوام كثيرة بحب «السلالة» وعدّها مصدر جميع الخلال والمناقب الحميدة، بشرط أن تكون نقية خالصة. وهكذا نشأ أفراد وجماعات تتشبث بنقاوة سلالاتها وكل فرد أو جماعة تدّعي أنّ سلالتها أفضل السلالات وأكرمها عنصراً. ولم يسلم مثل هذا الادعاء من الغلو البعيد، فقيل إنّ جميع السلالات الأخرى منحطة من الأصل ولا تستطيع كل قوى التمدن والتربية أن ترفعها إلى مستوى السلالة الفضلى، وإنّ الشيء الوحيد الذي يرفعها هو امتزاجها بهذه السلالة، ولكن هذا الامتزاج أمر غير مرغوب فيه لأنه يؤدي إلى انحطاط هذه السلالة الكريمة على نسبة ارتفاع السلالة، أو السلالات الأخرى. ومن أغرب معتقدات السلالة ما أدى إلى الادعاء أنّ البشر مفطورون على الشعور بالسلالة ولذلك يجب رفض كل محاولة من شأنها إضعاف أو إبطال النزاع الطبيعي(6).
عقيدة السلالة في فرنسة وبلجية [Belgique]
إندغم حب السلالة، في تلك الأزمنة القليلة العلم بالعصبية القومية الغامضة. وليس ذلك غريباً بالنظر إلى تأخر ذلك العصر، ولكن الغريب أنّ هذا الاندغام استمر إلى عصرنا الحاضر. ففي فرنسة مثلاً، التي ظهرت فيها إلى الوجود نظريات سلالية غريبة تعددت واختلفت بمقدار تعددها، ظل الاعتقاد بالسلالة القومية وسيلة للاستغلال حتى في الكتب العلمية. فإنّ بين الذين عللوا أسباب الحرب بين فرنسة وألمانية عدداً من السياسيين والعلماء البارزين قالوا بأنّ النزاع إنما هو خصومة طبيعية بين السلالة الجلالقية أو اللاتينية العالية والسلالة الجرمانية الوضيعة. وإنّ بين الكتب المدرسية الموضوعة بعد الحرب الكبرى [1914-1918] كتاباً ألّفه عالمان بنفسية الأحداث بلجيان: أحدهما مركه (Mirquet) وهو رئيس مدرسة، والآخر برغميني (Pergameni) وهو أستاذ جامعة، تجد فيه: «يظهر أنّ الحرب قد برهنت على أنّ للألمان جميعاً ميلاً إلى الشر ناشئاً عن غرائز سلالية شاذة، كاستعمال القوة العضلية، الخبث الفطري، القسوة وغريزة السرقة والسلب والقتل، إنكار الجميل مهما كان شريفاً، نسيان المعروف، عصبية طائشة مسببة عن حسدهم الأمم الأخرى وكرههم لها، طمع متوارث غير طبيعي في الوصول إلى التفوق العالمي، خلوّ تام من كرم الأخلاق، العجز عن تقدير بطولة أضدادهم وإنكارهم أنفسهم. فإنهم قد جاؤوا ببرهان قاطع على أنّ من خلال سلالتهم الرياء والعبودية والمكر، وأنّ من غرائزهم التي لا سبيل إلى كبح جماحها القسوة والشر، وأنه ليس لهم غرائز إنسانية، لا فكرة عن الحق والعدل ولا فهم للشرف ولا شعور بالفكاهة.»(7) وقد حاز هذا الكتاب سنة 1920 جائزة من المجمع العلمي البلجي الملوكي!
عقيدة السلالة في إنكلترة
لم تتخذ عقيدة السلالة في إنكلترة صفة العصبية الجنونية التي اتخذتها في بلدان أوروبية أخرى. ومع ذلك فإن الاعتقاد بتفوق «السلالة الأنكلوسكسونية» كان منتشراً جداً فيها، وقد اتخذ من هذا الاعتقاد حجة لتأييد امتياز العنصر الإنكليزي الأنكلوسكسوني على العنصر الإرلندي الكلتي. ومع أنّ الإنكليز لا يتطرفون كثيراً في الاعتداد بالسلالة، ولعل ذلك عائد إلى خبرتهم الاستعمارية الطويلة، فإنهم لا يخلون من الاعتقاد بمزايا سلالتهم الممتازة. وهم شديدو التحفظ من الاختلاط والامتزاج مع أقوام من سلالات أخرى.
عقيدة السلالة في ألمانية
أدت النهضة الألمانية القومية في أصيل القرن التاسع عشر إلى تعاظم الفخر بالسلالة وأخذت دوائر متنفذة عديدة تنظر إلى الشعوب اللاتينية والكلتية والصقلبية حولها بعين الازدراء. ولم تقف المسألة عند هذا الحد، بل تعدته إلى الاعتقاد بأنّ أشراف ألمانية فقط هم من السلالة الآرية النبيلة، أما الشعب فكان من سلالة سابقة الآرية، فكان مكتوباً للشعب الخضوع ومقدراً للأشراف السيادة. وسرى الاعتقاد بأنّ هذه السلالة الكريمة العنصر هي السلالة المعدّة لسيادة العالم، وعلى هذا الاعتقاد بني كثير من نظريات الجامعة الجرمانية(8). ومن أدلة العناية بالاعتقاد بالسلالة حتى في الدوائر المسؤولة في الشؤون السياسية الخطيرة ما صرّح به المستشار الألماني الشهير بتمن هلوق، بمناسبة إجازة قانون الجيش الألماني في 7 أبريل/نيسان 1913، قائلاً إنّ هنالك خطر اصطدام بين الصقالبة والجرمانيين ولذلك يضطر هؤلاء إلى زيادة سلاحهم. ولم يذهب هذا القول بدون نتائج خطيرة بين صقالبة النمسة والمجر.
عقائد السلالة عموماً
إنتشرت عقائد السلالة عند جميع الأمم الحيّة تقريباً، فلم يسلم منها شعب من الشعوب إلا فيما ندر. ففي الولايات المتحدة اتخذت بعض العقائد والنظريات لتأييد مالكي العبيد. فقال هؤلاء إنّ السواد في العبيد إنما هو علامة قايين الذي لعنه الله(9). وشبيه بهذه النظرية ما توهمه بعض النسابين العرب أنّ السودان هم ولد حام بن نوح، اختصوا بلون السواد لدعوة كانت عليه من أبيه ظهر أثرها في لونه(10). ومع أنّ عقيدة السلالة في الولايات المتحدة كانت أظهر ما يكون بين البيض والسود فإنها لم تقتصر على هذه الوجهة، بل تناولت بغض الآسيويين عموماً والصينيين واليابانيين خصوصاً. ويظهر أنّ التحامل على السلالات يجد دائماً تربة جيدة في أميركة(11).
وهكذا نرى بعض الأميركان يعدّون السوريين والإغريق سلالات منحطة، ففي حملة انتخابية، جرت في برمنهام، ألاباما، ربيع سنة 1920 وزعت نشرة جاء فيها:
لكورونر
صوِّت لـِ ج. د. غص
«مرشح الرجل الأبيض»
«لقد جرّدوا الزنجي، الذي هو أميركاني الرعوية، من حق التصويت في الأولية البيضاء. فيجب أن يجرّد الإغريقي والسوري أيضاً من هذا الحق. إني لا أريد صوتهما، فإذا كان انتخابي لا يمكن أن يتم على يد الرجال البيض فلا أريد الوظيفة.»(12)
وإذا أخذت بلاداً جديدة كالبرازيل جمعت من الزنوج وكرام الشعوب الأوروبية والآسيوية وحثالتها وجدت لعقائد السلالة المبنية على الوهم جذوراً ذاهبة في القلوب(13).
وأخذ العرب نصيباً كبيراً من تعليق أهمية عظمى على أوهام السلالة فافتخروا كثيراً «بطيب عنصرهم»، وظنوا الأجانب أدنى منهم فسموهم «علوجاً» وغير ذلك من الأسماء. وأثّر الدين عندهم كثيراً على أوهام السلالة، كما أثّر على اليهود من قبلهم، ووصلوا أنساب عدنان بإسمعيل بن هاجر بن إبراهيم. أما اليهود فقد زعموا أنهم سلالة إبراهيم اتخذهم الله شعباً له مفضلاً على باقي الشعوب والله عندهم هو «إله إسرائيل».
عقائد ونظريات في السلالة
اشتبكت عقائد السلالة المبنية بالأكثر على الوهم بالنظريات الابتدائية التي قصد منها إدراك كنه السلالة وفهم خصائصها. ومن هذه النظريات ما وجد تأييداً في مذهب أرسطو في العبودية، إذ هو يبررها على الوجه التالي: «أولاً - إنّ الطبيعة نفسها قد أعدت بعض الناس ليحكموا وآخرين ليخدموا، إذ هي تهب للأول مقدرات عالية وللآخرين قوة الحيوانات. فإن حق السيد في العبد كحق الإنسان في الحيوان.» ويمكن رد الحجة المناقبية ضد مثل هذا الموقف بالإتيان بالنقطة الثانية وهي: «ثانياً - إنّ هذه العلاقة هي في مصلحة المسيطر عليهم، إذ هم، لفقدهم القوى العاقلة، يحتاجون إلى إرشاد سادتهم. ثالثاً - إنّ الشعب المتغلب هو دائماً أرقى بجميع المزايا الجيدة.»(14)
وقد رأينا فيما مرَّ من هذا الفصل كيفية انتشار عقائد السلالة في مختلف الشعوب. بقي أن نأتي هنا بلمحة صغيرة عن النظريات التي تقلبت على السلالة في أوروبة، خصوصاً في فرنسة التي اختلفت فيها النظريات وتضاربت بقدر تقلب ظروفها السياسية. ومن هذه النظريات ما قال به بودان (Bodin) معللاً أصل الفرنك من أنهم قوم من الجلالقة ارتحلوا إلى ألمانية ثم عادوا ليحرروا إخوانهم من نير رومة. فحظيت هذه النظرية بالرضى في عهد لويس الرابع عشر [1638 - 1715]، لأنها تجعل الفرنسيين أمة خالصة النسب وتؤيد الرغبة في إلحاق الرين بفرنسة، وهو ما كان هذا الملك يطلبه مدعياً أنّ الرين جزء من مملكة الفرنك القديمة(15). ولكن ليبنتز [W. Leibnitz, 1646 -1716]الرياضي الألماني المشهور نقض هذه النظرية وبرهن على أنّ الفرنك من أصل جرماني. فحلت محلها نظرية الكنط دي بولانفيير (Comte de Boulanvilleirs) القائلة إنّ في فرنسة سلالتين: سلالة النبلاء المتحدرة من الجرمان الفاتحين، وسلالة العامة المتحدرة من الكلتيين والرومان المخضعين(16). وهنا نرى أنّ نظرية أرسطو صارت نظرية سلالية، فأهل المواهب العليا هم أهل المراكز العليا، وهم سلالة قائمة بنفسها. ثم نشأت نظرية منلوزيه (Montlosier)القائلة إنّ في فرنسة «شعبين» متحدرين من السلالات الرئيسية الثلاث، إلا أنّ الواحد من الأحرار والآخر من العبيد.
نظرية العقيدة الآرية
من جميع هذه النظريات لم تنشأ نظرية واحدة لعبت الدور الذي قامت به نظرية الآرية التي قال بها الكنط غوبنو (J. Gobineau, 1882 -1816) وجمع فيها نظريتي بولانفيير ومنلوزيه. فبين سنة 1851 و1855 أتم غوبنو وضع نظريته واستخرج فيها من النظرية الإقطاعية المشار إليها آنفاً نظرية سلالية عامة تجعل الجرماني أو الآري العادي في عداد طبقة الأرستوقراطية «السلالية» وقيمة الشخص ومركزه يتوقفان على مقدار ما في عروقه من الدم الآري(17).
ومع أنّ غوبنو فرنسي فإن نظريته لم تصادف النجاح التام في فرنسة، ولعل السبب في ذلك يعود إلى كره الفرنسيين اعتبار مزاياهم مستمدة من السلالة الجرمانية إذ في ذلك إقرار بتفوق الألمان المبغضين ولكنها انتشرت كثيراً في ألمانية ووقعت من نفس القائلين بالجامعة الجرمانية موقعاً حسناً. ولم يطل الأمر حتى أخذ اسم تشمبرلن (Joseph Chamberlain, 1914 -1836) الإنكليزي يذيع ففاق غوبنو. وهو أكثر من أشاد بذكر التوتونيين اندفاعاً وفيه قال غليوم الثاني [William II, 1914 -1888] «إنّ أول من أعلن مجد التوتونيين وأشاد بذكره لألمانية الذاهلة هو تشمبرلن في كتابه، أسس القرن التاسع عشر»(18) ولكن ذلك كله كان عبثاً كما برهن عليه سقوط الشعب الألماني(19).
ولا بد لنا هنا من الإشارة إلى أنّ القوة التي اكتسبتها نظرية «السلالة الآرية» استمدتها هذه النظرية من الأدلة اللغوية الخداعة. فقد أدى اكتشاف قرابة اللغات الآرية إلى استنتاج أنّ دليل اشتقاق هذه اللغات من لغة أم في الأصل يدل أيضاً على تسلسل الأقوام التي تتكلم هذه اللغات من أصل سلالي واحد. واللغة كانت عند القائلين بالسلالة الآرية أهم البراهين التي استندوا إليها، كما كانت اللغات السامية من أهم البراهين التي استند إليها القائلون «بالسلالة السامية». ولا يخفى وهن الاستناد إلى مثل هذا الدليل، فتكلم عدد من الأقوام لغات مشتقة من أساليب لغوية متوحدة قد يفيد أنّ هذه الأقوام كانت في بعض الأزمنة الغابرة متقاربة في الاجتماع، أو أنّ «أصولها» كانت تعيش معاً، ولكنها لا تعني أبداً وجوب كون هذه الأقوام مشتقة من أصل واحد أو نشأة سلالة واحدة.
النظريات العلمية العصرية
إذا تركنا المعتقدات السلالية والنظريات المبنية عليها جانباً وعمدنا إلى الوجهة العلمية من الموضوع وجدنا السلائل البشرية خاضعة لعلمين رئيسيين يتناولانها بالدرس في دوائر اختصاصية، هما: الإتنلوجية، أو علم الأقوام أو السلائل البشرية(20)؛ والأنتربلوجية، أو علم الإنسان(21). ومن هذين العلمين يهمّنا في الدرجة الأولى، تعيين تقسيم السلائل البشرية من الوجهة الطبيعية الفيزيائية، وهو من خصائص علم الأنتربلوجية الـحديث أو الأنتربلوجية الفيزيائية (أنظر هامش رقم 21).
الفوارق السلالية
عرفنا في بداءة هذا الفصل (ص 15 أعلاه) المقصود من لفظة «سلالة» ولفظة «نوع» بالمعنى العلمي، وبناءً عليه نقول إنّ البشر جميعهم يؤلفون نوعاً واحداً بالمعنى الطبيعي الحيواني (الزولوجي) ولكنهم يتقسمون إلى سلالات متعددة تتوارث كل واحدة منها صفاتها ومزاياها الخاصة. وما ندخل هنا في أي بحث يتناول تعليل حدوث
هذا التقسم التنوعي لسببين: أولهما - إنه ليس غرض هذا الكتاب التحقيق في هذا الموضوع المستقل، والثاني - إنّ آراء العلماء وأدلتهم ليست متفقة بهذا الصدد فيكون الخوض فيه خطراً. ولكنه لا بد لنا في سياق هذا البحث، من أن نعرض لبعض النظريات العلمية في ذلك، من باب التوسع الذي لا يدخلنا في خطر إصدار أحكام عامة جازمة.
ونبدأ هنا بالقول إنّ معرفة السلالة وتمييزها عن سلالة أخرى ينتجان عن فوارق واضحة ثابتة لا يمكن إغفالها. ومن هذه الفوارق الأولية اللون، ولعله أول الفوارق السلالية التي تنبه لها البشر فنرى حكاية المسعودي المذكورة آنفاً (ص 15 أعلاه) توزع البشر ألواناً. وحدثت في عصور متأخرة محاولة لجعل البشر ثلاثة أقسام:
سلالات «النهار» وسلالات «الليل» وبينهمـا سلالات «الغسق» (Daemmerungs-Menschen)(22)، وحتى الآن لا يزال الناس ومنهم فريق كبير من الكتّاب يقولون: الجنس الأبيض والجنس الأسود والجنس الأصفر.
ومع أنّ لون البشرة هو من الفوارق الظاهرة بين الجماعات البشرية فهو ليس فارقاً سلالياً أصلياً، بل مكتسباً من تأثير البيئة الطبيعية(23) وقد تنبه لذلك أرسطو وعلى هذا عوّل ابن خلدون(24) وكان قد سبقه إلى ذلك ابن سينا [980 - 1037م]. فليس اللون إلا صبغة والبياض نقص الصبغة(25) وقد ظهر بالبحث والدرس أنّ البيض ليسوا سلالة واحدة لأنهم جماعات مختلفة الأشكال متباينة القامات، وكذلك السود والصفر والحمر، الخ. وبناءً عليه لا يعتمد الأنتربلوجيون العصريون، في تقسيم النوع الإنساني، على ظاهرة واحدة فقط، بل على عدة صفات فيزيائية أولها وأهمها مساحة الجمجمة وحجمها. وقد اعتمد هدن(26) في ذلك على فوارق الشَعر ولون البشرة والقامة وشكل الرأس وأوصاف الوجه والأنف والعينين. وعلى ما يشبه ذلك جرى غريفث تايلر(27) في تقسيمه ووصفه الجماعات البشرية إلا أنه يعتمد على الدليل الرأسي أولاً للتقسيم الرئيسي في حين أنّ هدن يأخذ الشَعر مقياساً أولياً(28) وجمهور علماء الأنتربلوجية، يعتمدون الدليل الرأسي فارقاً ثابتاً في السلالات.
نشوء السلائل وعددها
عرفنا في الفصل الأول أنّ الجنس البشري نشأ بالتطور ولكن كيفية حدوث ذلك لا تزال غامضة. وحتى الآن لم يمكن تعيين المكان أو الأمكنة التي نشأ فيها الإنسان، ولكن يرجح ميل فريق العلماء القائل بأن أواسط آسية هي مهد البشرية(29). وقد اختلف العلماء في تعيين عدد السلالات(30) ولعل ذلك عائد إلى اعتماد بعض أدلة أكثر من البعض الآخر. والأمانة لغرض هذا الكتاب تقضي ألا نتوسع في هذا البحث أكثر مما يجب، ولذلك يحسن بنا، للتوفيق بين غرض الكتاب وهذا الموضوع، أن نقسم السلالات البشرية إلى قسمين: أولي (Primitive)؛ ومرتق وهذه الأخيرة هي شعوب آسية وأوروبة أصلاً. وهذه الشعوب مقسمة بحسب أدلتها الرأسية إلى ثلاث سلالات رئيسية هي: السلالة الغربية (Westic) أو سلالة البحر المتوسط(31)؛ والسلالة الشمالية (Nordic)؛ والسلالة الشرقية (Ostic) أو الألبية. والأولى هي ذات الدليل الرأسي المستطيل 72 - 75، والثانية ذات الدليل المتوسط 75 - 79، والثالثة ذات الدليـل العريـض المفلطح فوق 85(32). وهذه السلالات جميعهـا مـن السـلالات البيضـاء القوقاسيـة(33).
السلائل والعقليات
إنّ السلالات أمر فيزيائي واقع والأدلة على وجوده متوفرة. ومما لا شك فيه أنّ هنالك فوارق بين السلالات في الارتقاء والتمدن والاستعداد لهما عند السلائل الأولية، فالثابت أنّ بعض السلالات التي ضربت في الأودية الخصبة كوادي النيل ووادي الفرات ووادي هوانهو أو الأراضي الخصبة كسورية أنشأت، بما كان لها من الاستعداد، مدنيات رفيعة في حين أنّ سلالات أخرى نزلت أودية أميركة الخصبة ولكنها لم تستفد منها شيئاً ولم تنشىء مدنية تستحق الذكر(34). وقد يكون ذلك نظراً لعدم اكتمال تطورها. ويستثنى من ذلك طبعاً بلاد المكسيك حيث اكتشفت بقايا مدنية من نوع راقٍ.
وإذا تركنا السلالات الابتدائية وعمدنا إلى السلالات الواقعة ضمن نطاق المدنية الآسيوية - الأوروبية، وجدنا أنها كلها قد برهنت عن توفر مزايا الارتقاء فيها. ومع ذلك فيمكننا أن نجد في كل منها ما سماه لازرس (Lazarus) وشتينطال النفسية السلالية(35) وهذا قسم من الدروس الإتنلوجية - النفسية لا يقصد منه درس الظواهر النفسية في مختلف السلالات، أي درس الفوارق العقلية من وجهة نظر السلالة، بل درس النفسية السلالية كما هي تمييزاً لها عن النفسية الفردية. وبديهي أنّ لكل فرد نفسية أو عقلية خاصة مستقلة ولكن ذلك لا يعني أنها أساس للمقابلة والتفضيل السلاليين، وللسلالات عقليات مستقلة موجودة فعلاً ولكن يجب ألا يتخذ ذلك حجة للتمسك بعقائد تفاضل السلالات المتمدنة تفاضلاً أساسياً جوهرياً كما رأينا فيما تقدم من هذا الفصل (ص 16 أعلاه).
أجل، يجب ألا يستنتج من المميّزات النفسية أو العقلية أنّ هنالك مواهب عقلية سلالية خاصة مكتسبة من الشكل السلالي، ومقتصرة على السلالة ومتوارثة فيها، لأن الواقع قد برهن على غير ذلك. فحيث امتزجت السلالات قديماً، كانت المدنية أرقى. وإنّ إسبرطة كانت تمنع الاختلاط مع الأجانب محافظة على نقاوة دمها ولكنها كانت في المدنية دون أثينة، التي كثر فيها الاختلاط الدموي، بمراحل: وإنّ أرسطوطاليس كان يعدّ المكدونيين المحافظين برابرة. والإسكندر نفسه كان يرى أنه يمكن أن يحسب الهلينيون أنصاف آلهة بالنسبة إلى رجاله المكدونيين(36).
وإن الأدلة على عدم صحة القول بتفوق إحدى السلالات الراقية في المواهب العقلية على الأخرى لمتوفرة. فإذا أخذنا الوجهة الفردية ودرسنا تسلسل بعض النوابغ وجدنا أن لا عبرة بنقاوة السلالة. فالشاعر الكبير إسكندر بوشكين [1799 - 1837] المبدع في الأدب الروسي القومي كان ذا عرق زنجي، فقد كان لبطرس الأكبر [1682 - 1725] قائد زنجي رفعته درجة ذكائه إلى مرتبة مهندس المدفعية العام وصيّرته ذا أملاك واسعة وتزوج سيدة روسية من الأشراف، وحفيد هذا الزنجي هو بوشكين أعظم شعراء روسية(37). والكاتبان الفرنسيان الشهيران دوماس [Dumas]الأب [1802 - 1870] والابن [1824 - 1895] كانا ذا عرق زنجي(38).
إنّ نظرية ضرورة نقاوة السلالة شرطاً للارتقاء العقلي وإنشاء المدنيات واطراد التقدم قد أصبحت واهية جداً، إذا لم نقل فاسدة بالمرة، تجاه المعلومات العلمية الحديثة، خصوصاً ما تعلق منها بالمدنيات الأولى، فمدنية بابل التي يعدها العلماء، أو جمهورهم، أولى المدنيات التي أثّرت على سير التمدن العام نحو الارتقاء لم تكن عمل سلالة واحدة أو قوم أصفياء، كما كان الظن القديم، بل نتيجة احتكاك واختلاط الشمريين بالساميين(39).
تغير السلائل
علمنا أنّ الإنسان نشأ بالتطور. فهو لم يظهر «إنساناً تاماً» دفعة واحدة، والمرجح أنّ ارتقاءه حدث من درجة الشمبنزي إلى درجة الإنسان الحقيقي (Homo Sapiens). والتطور أو التنوع التطوري هو التعليل الأرجح لحدوث السلالات. وقد ذهب بعض العلماء إلى أنّ بعض السلالات نشأ بامتزاج سلالتين. وبعضهم يعتقد بتحول التركب البشري حسب مقتضيات البيئة الطبيعية، والبعض الآخر يقول باستحالة تغيّر السلالة بعامل البيئة. والذي نرجحه أنّ السلالات البشرية هي عدة تطورات أو سلسلة تطورات حدثت في ظروف وبيئات تطورية، أي قبل استقرار البيئة الطبيعية على حالتها المعروفة الآن، وقبل أن يكون الارتقاء قد مكّن الإنسان من التحوط ضد اختلاف البيئات. فإذا كان الأمر كذلك، وهو ما نرجحه، فقد توافقت نظرية القائلين بخضوع السلالة للبيئة والقائلين باستقلال السلالة عن البيئة. فالسلالات الحالية لا تتغير (تغيراً سلالياً) بانتقالها من الجبال إلى السهول أو بالعكس، لأن تأثير البيئة ليس قوياً في ظروف الاستقرار الحالي ولتوفر وسائل التحوط. ولكن إذا حدثت تغيرات جيولوجية وفلكية قوية فقد تضطر الأحياء والسلائل البشرية إلى التطور أو الانقراض.
وأما تحول السلالات بالامتزاج فليس ثابتاً ولا دليل عليه إلا في حالة امتزاج ذوي الرؤوس المفلطحة مع غيرهم فيسود التفلطح(40). ويظهر من أبحاث بواس (F. Boas) في سكان إيطالية أنّ امتزاج السلالات لا يظهر ميلاً إلى إنتاج سلالة معتدلة جديدة. ففي إيطالية يظهر شكلان للرأس بتنوعات معتدلة ولكن بمعدلات مختلفة، إذ يظهر في الجنوب معدل دليل وضيع، وفي الشمال يظهر معدل دليل رفيع. وبناءً على ذلك يقول بواس:
(20) إختلفت مذاهب العلماء في تحديد نطاق هذا العلم الحديث فذهب بعضهم إلى جعل الأقوام أو السلائل البشرية كلها ضمن دائرته، وذهب آخرون إلى وجوب تخصيص هذا العلم بـدرس حيـاة الإنسـان خـارج حيز المدنيـة الآسيويـة - الأوروبيـة (أنظر ماكس شمـت ص 16 - 18) وقد قال شتينطال (Steinthal) معرّفاً هذا العلم: «إنّ الإتنلوجية متى قوبلت بالفلسفة والتاريخ كانت درس حياة السلالات التي لا تاريخ لها» (المصدر نفسه، ص 18) أمّا رتسل (Ratzel) فيقول إنّ مهمة الإتنلوجية هي «درس حياة النوع الإنساني في جميع مظاهرها» (المصدر نفسه) ويقول إدوار ماير «إنّ علم مقابلة الإتنلوجية يبحث في أحوال وأنظمة الجماعات التي تجري ضمن دائرتها شؤون الحياة بنظرياتها وعاداتها وتقاليدها متتبعاً إياها إلى أقدم أشكالها.» ماير، ج1.ق1. ص 3