التعليل الديني
كانت مسألة نشوء النوع البشري من الـمسائل التي شغلت عقل الإنسان منذ ابتدأ الإنسان يشعر بوجوده ويعقل نسبته إلى مظاهر الكون ونسبة هذه الـمظاهر إليه. فأخذ يتكهن صدوره عن عالم غير هذه الدنيا يعود إليه بعد فناء جسده. ولم يكن هذا التكهن الراقي في التصور مـما تنبه له الإنسان كما يتنبه للموجودات الواقعية، بل كان درجة بارزة في سلّم ارتقاء الفكر سبقتها درجات من التخرصات الغريبة التي ليس هذا البحث مختصاً بها. ولكن لا بد من الإشارة إلى هذه الدرجة لأنها ذات صلة متينة بنشوء الدين وفكرة الله وحكاية الـخلق الـمستقل التي أثّرت فينا تأثيراً عظيماً.
في هذه الدرجة نشأت اعتبارات النفس والـجسد. ففي الهند اشتقّت النفْس من النفَس وشاعت في أماكن كثيرة عقيدة لفظ النفْس مع النفَس، حتى إذا بلغ التطور الديني إلى فكرة الله القادر على كل شيء الخالق السماوات والأرض وما عليها كان ما يشبه البديهي أن يعلل الإنسان نشوء نوعه بخلق مستقل «وإنّ الرب الإله جبل الإنسان تراباً في الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار الإنسان نفساً حية.» [تكوين 2: 7.]
ولم يكن العقل البشري عند تلك الدرجة من الدقة في التمييز بحيث يحاول الدخول في افتراض وتقرير خلق مركّب، معقد للإنسان وسلالاته فلجأ إلى جعل الخلق بسيطاً ومعقولاً بحيث ينطبق على الظاهر البسيط، فخلق الله رجلاً واحداً هو «آدم» ثم خلق له امرأة واحدة من ضلعه هي «حواء» وسنّة التوالد تكفلت بتعليل تكاثر البشر وانتشارهم في الأرض.
ومنذ انتشرت توراة اليهود مع كتاب الـمسيحية وشاعت الـمسيحية في العالم رسخ في عقول الـمؤمنين بـ «الكتاب الـمقدس» الاعتقاد بتسلسل البشر من مخلوق واحد. ثم جاء القرآن مؤيداً حكاية الـخلق الواردة في توراة اليهود وتأصل في أذهان الـمؤمنين به الاعتقاد بصحة هذه الـحكاية.
هذا هو التعليل الديني لنشوء النوع البشري وقد فرض الدين على كل مؤمن الاعتقاد بصحته وعدّه حقيقة ثابتة أصلية وعليه بُنِيَ علم السلالات القديم الذي جعلها متسلسلة من آدم ومتفرعة من سام وحام ويافث.
نقد التعليل الديني ونقضه
ظل هذا الاعتقاد مستولياً على عقول العالم الـمتمدن بالدين إلى أن أخذت العقول الـممتازة تلاحظ في ترتيب الكون ومظاهر الحياة ما يدل على وجود حقائق لا يوصلنا التعليل الديني الأولي إلى كشف القناع عنها. فكان من وراء ذلك نشوء الـمدرسة العلمية التي قام النزاع بينها وبين الدين فيما يتعلق بالـحياة ومظاهر الكون وحقيقة الأشياء، وكان ولا يزال نزاعاً شديداً.
اكتشفت الـمدرسة العلمية أنّ علاقة الإنسان بالـحيوان وعلاقة الـحيوان بالنبات أشد كثيراً مـما حدده الدين. اكتشفت هذه الـمدرسة أنّ اللغات لم تتوزع على البشر في برج بابل وأسطورته، وأنّ النجوم ليست مجرّد «نـجوم»، وأنّ الشمس لا تدور حول الأرض، ولو لم تتفق هذه الـحقيقة مع مجد يشوع بن نون. وأخيراً اكتشفت مدرسة العلم التاريخ الذي سطرته الأرض في طبقاتها الـمنضَّدة، فظهرت إلى النور حقائق غريبة لم تخطر على قلب بشر من قبل.
كانت حكاية الـخلق الـخيالية أقرب إلى تصديق أهل الدرجة الـمشار إليها آنفاً لأنها اقتصرت على تسمية وجود الشيء خلقاً مباشراً، تخلصاً من الدخول في أي بحث يتطلب أدلة راهنة يصح اعتبارها حقائق واقعية. ولكن الإدراك البشري الذي كان آخذاً في الارتقاء بـما يعرض للإنسان من الاختبارات الـموسِّعَة أفق النظر، الفاتـحة أبواب الـمقابلات والاستنتاج، لم يعد يقنع بالتعليلات الـخيالية البحتة الـمعزوّة إلى افتراض وجود شخصية وراء نظام الكون تـُحدث النظام وتـحدث بلا نظام، إليها يُنسب كل ما يقف أمامه عقل الطفل وعقل البالغ الـمجرّد من العلم حائراً. ففتح كتاب التاريخ الطبيعي وكتاب الـجيولوجية الذي نضدت الأرض صفحاته بكل ترتيب ونظام، ووجد من ضمن الـحقائق الغريبة التي يعلنها هذا الكتاب أنّ الأرض أقدم كثيراً من عهد يسبق آدم بستة أيام فقط، وأنّ الإنسان أقدم من آدم بعشرات ألوف السنين.
وأنشأ الإنسان علم الـحيوان وعلم النبات ووجد بين أصناف الـحيوان وبين هذه والنبات صلات أمتن جداً من أن تسمح بالقول، بالـخلق الـمستقل. وأضاف علم الـحياة من مكتشفات أسرار الـحياة إلى معلومات العلوم الـمتقدمة ما أيقظ الفلسفة من سباتها. وتـجاه الـحقائق التي أبرزها العلم أخذت مسألة الـخلق الـمستقل تنحط وتتراجع حتى لم يعد يهتم بها إلا الطامعون بالـخلود الأناني.
التعليل العلمي
إنّ الـحقائق التي اكتشفها الإنسان، ومنها أنشأ الـمدارس العلمية العصرية، ابتدأت بتسجيل الـملاحظات التاريخية والـمشابهات الطبيعية، فتنبه تدريجاً لتقارب الأنواع من حيوان ونبات قبل نشوء مدرسة التطور الـحديثة، حتى أنّ مؤرخاً وعالـماً اجتماعياً كبيراً عاش في القرن الرابع عشر - الـخامس عشر (إبن خلدون) استطاع أن يدوّن لنا بلغتنا ما لاحظه الفلاسفة قبله من أنّ للكائنات الـحيّة اتصالاً غريباً معناه أنّ آخر أفق بعضها مستعد لأن يصير أول أفق الذي بعده «واتسع عالم الـحيوان وتعددت أنواعه وانتهى في تدريج التكوين إلى الإنسان.»(1) ولم يكن هذا القول من الكلام الـملقى على عواهنه ولا طائل تـحته، بل كان نتيجة ملاحظات دقيقة، لم يتح لها أن تبلغ درجة الكمال بالاستقصاء والتحري، حتى كان القرن الـماضي الذي أخرج لنا الدروينية [On the Origin of Species, 1859].
لاحظ القدماء أنّ أول أفق الإنسان متصل بآخر أفق الـحيوان، كأشباه الإنسان الأوران - أوطان والغوريلا [Gorilla] والشمبنزي [Chimpanzee]. ولعل الفينيقيين كانوا أول من اهتموا بغرابة الشبه بين القرود العليا والإنسان، إذ هم أول قوم رحلوا في سبيل الاكتشاف والعلم وكانت رحلة حنون (Hanno) الفينيقي القرطاضي إحدى الرحلتين العلميتين الـجغرافيتين الأوليين اللتين حدثتا في العالم الـمتمدن وكلتاهما فينيقيتان. فقد ارتـحل حنون حوالى 520ق.م [5th Century B.C]، بستين مركباً كبيراً وكان القصد من رحلته إيجاد محطات قرطاضية على شواطىء مراكش أو إمداد الـمحطات الـموجودة بالقوة. ولكنه لم يقتصر على ذلك بل تقدم جنوباً إلى نهر الذهب (Rio de Oro) وجزيرة كرني أو هرني، ثم تابع وجاوز نهر السنغال. وقد سافر هذا الأسطول الفينيقي سبعة أيام وراء غمبية. وفي إحدى الـجزر وجدت هذه البعثة رجالاً ونساء يكسو أجسامهم الشعر «سماهم التراجمة غوريلا» فحملت بعض إناث هذه «الغوريلا» معها ولكنها اضطرت في الطريق إلى قتلها وحملت جلودها إلى هيكل يونو(2).
كان ذلك أول اتصال العالم المتمدن بأشباه الإنسان، ثم مرت أجيال قبل نشوء مدرسة الاستقصاء التي أخذت على عاتقها درس علاقات الكائنات الحية بعضها ببعض. وفي هذه الأجيال العديدة كان التعليل الديني التعليل الوحيد لنشوء الإنسان وسائر الكائنات. فلما نشأت هذه المدرسة ابتدأت بالملاحظة الظاهرية التي أدت إلى تقرير ما ذكره ابن خلدون في مقدمته، ثم أخذت تتدرج في الارتقاء حتى اكتشفت العلاقات البيولوجية الوثيقة فيما بين الكائنات الحية وبين هذه والجماد.
رأت المدرسة العلمية أنّ الإنسان ليس إلا كائناً واحداً من الكائنات الحية، وأنه خاضع للنظام الجاري عليها كلها. فحيث الحياة في كل مظاهرها غير ممكنة لا يستطيع الإنسان أن يعيش. ولـمّا كان الإنسان مظهراً من مظاهر الحياة العامة، فلا يمكن البحث في كيفية نشوئه على حدة، ولذلك لا بد من جعل السؤال: «من أين جاء الإنسان؟» ضمن نطاق سؤال أوسع هو: من أين جاءت الحياة؟
وليس القصد من بحثنا هذا الدخول في سلسلة الأبحاث الفلسفية العلمية التي ينطوي عليها هذا السؤال، لذلك نكتفي منه بالحصول على النتيجة التي تهمّنا في درسنا نشوء النوع البشري وهي أنّ الإنسان جزء من الحياة، نشأ بالتطور حتى بلغ شكله الحالي، ولذلك فعهد نشوئه يرجع إلى عهد نشوء الحياة نفسها(3).
أثبتت العلوم الطبيعية على اختلافها أنّ الحياة أقدم كثيراً مما قال به التعليل الديني، وأنّ الأنواع، من حيوان ونبات، متصلة اتصالاً وثيقاً ينفي مبدأ الخلق المستقل. وفوق كل ذلك أثبتت الكيمياء وحدة العناصر التي تؤلف ما هو عضوي وما هو غير عضوي(4) فيكون ما ذهب إليه الفيلسوف السوري الكبير أبو العلاء المعري [973 - 1057م] من ارتباط الحيوان بالجماد رأياً يتفق كل الاتفاق مع نتائج المدرسة العلمية:
والـــذي حـــارت البــريّـــة فــيــه
حــيـــوان مســتــحــدث مــن جــمــاد
ومهما يكن من شيء فجميع الأدلة تثبت أنّ اتصال الكائنات الحية بعضها ببعض كان تسلسلياً مما لم يبقِ مندوحة من التسليم بنظرية التطور. والتطور هو التعليل العلمي لنشوء الإنسان نوعاً من أنواع الحياة قائماً بنفسه.