إنّ من أغرب المهازل وسط مآسي هذه الحرب الهائلة مهزلة «استقلال سورية» التي ابتدأها الخبير الاستعماري الجنرال كاترو في بدء الحملة البريطانية على شمال سورية، ويظهر أنه قد أوصلها الآن إلى ختامها بشعوذة قلّما عرف العالم المتمدن لها مثيلاً. فقد صدرت عن دمشق ولندن برقيات حاملة إلى العالم خبر «برّ بريطانية والفرنسيين الأحرار بوعد الاستقلال لسورية.» فصعقت لهذه البرقيات جميع الجرائد السورية المأجورة في المهجر، وجميع أراخنة السياسة الذليلة الذين بُحّت حناجرهم وهم ينادون ويدعون إلى تأليف لجان المساخر التي كان يجب أن تكمل فصول المهزلة. ولكن العناية رحمت الناس بأن أسرع الجنرال كاترو بوضع المهزلة على المرسح قبل أن يتم تأليف اللجان الكرنفالية الهائلة، فحرم بذلك عدداً كبيراً من الدجالين والمشعوذين الذين يغشّون الشعب في كل سانحة وبارحة من فرصة يظهرون بها الألعاب التي تفننوا في ابتكارها وإتقانها.
تتجمع زبدة المهزلة في كتاب الجنرال كاترو، رئيس القوات الفرنسية الحرة في اللونت، إلى الشيخ تاج الدين الحسني (لا أحد غيره) المعروف جيداً على مرسح السياسة الشامية الذي عيّنه القائد المشار إليه رئيساً للجمهورية السورية. والكتاب وارد في برقية لشركة «رويتر» عن دمشق بتاريخ 16 سبتمبر/أيلول الماضي، وهذا نصه:
«إنّ فرنسة الحرة قد خوّلت سورية الاستقلال، وذلك بقرار من رئيسها الجنرال ديغول وموافقة حليفتها بريطانية العظمى، فتكون قد أوصلت الانتداب إلى نهايته. وإنّ فرنسة الحرة تقدّر أنه قد حان الوقت لوفاء الوعد بتخويل سورية وضعاً مستقلاً مضموناً بمعاهدة. وفي هذا الظرف كان لا بد أن يكون أول عمل تقوم به هو تعيين شخصية سورية حائزة ثقة البلاد تحت مسؤولية تنظيم حكومة تقيم سيادة الدولة السورية (الشامية) الجديدة.
«قد بدا لي من بعد استيحائي الشعور الشعبي الذي استشرته بكل عناية أنّ سعادتكم أقدر من أي شخص آخر للقبض على مقدّرات سورية. ولذلك أرشّح سعادتكم لتأخذوا صفة وصلاحيات رئيس الجمهورية لتنشئوا بدون تأخير حكومتكم الأولـى.
«فإذا قبلتم - كما أتوقع - فيمكن سعادتكم أن تعتمدوا على تأييدي الكلي ومعاونتي التامة. وإني مرفق بهذا الكتاب نص النداء الذي سأعلنه في الدقيقة التي تقبضون فيها على زمام السلطان، والذي تظهر فيه المبادىء التي يجب أن تستقر عليها العلاقات بين فرنسة الحرة وسورية (الشام) السائدة المستقلة.»
وبناءً على هذا الكتاب الذي يحمل إهانة عظيمة إلى كل سوري حر يأبـى كل ما لا يعترف بوحدة الأمة السورية وحق الشعب السوري في اختيار مصيره يكون قد وُلّي الشيخ تاج الدين الحسني الاستقلال بالسلطان في الشام باسم «فرنسة الحرة»، التي لا يعلم إلا الله ما هي ولحسابها، وتكون الشام قد نكبت باستعباد جديد.
أما القسم الآخر من سورية - أما لبنان فتقول البرقيات إنه لمّا يتقرر بأي شكل يكون استعباده ولمن يعطى الأمر عليه!
والظاهر أنّ إسراع الجنرال كاترو إلى وضع مهزلة استقلال الشيخ تاج الدين الحسني على المرسح قبل اكتمال تأليف لجان المساخر في المهجر، كان بناءً على وجود مساخر كافية في الوطن، وعلى أنّ المهزلة ستبرز على المرسح مكتملة الفصول، إذ قد أُعدّ كل شي في الخفاء لإعطاء الشيخ تاج الدين حكومة تعمل بأمره يؤلفها عدد من البارعين في مختلف أدوار التمثيل، فمنهم من سبق له تمثيل دور «الوطني»، ومنهم من سبق له تمثيل دور «الإمبراطوري العربي»، ومنهم من سبق له تمثيل دور «المعتدل» بين العبودية المباشرة والعبودية المداورة. فقد وردت عن دمشق بتاريخ 21 سبتمبر/أيلول برقيات لـ «يونيتد برس» ولمراسلي «نيويورك تيمس» حاملة أخبار تأليف حكومة الدولة الحسنية على الشكل الآتي:
رئيس الوزارة ووزير المالية: حسن الحكيم. وزير القضاء: زكي الخطيب. وزير الشؤون الخارجية: فايز الخوري. وزير الداخلية: بهيج الخطيب. وزير المعارف: فايز الأتاسي. وزير الدفاع: عبد الغفار الأطرش. وزير الاقتصاد: محمد العايش. وزير النافعة: منير العباس. وزير الإعاشة والتموين: حكمة الحراكي.
وقد أعطيت الشركات البرقية الموالية «للديموقراطية» النغم الذي يجب عليها ترديده في أخبارها. وهذا النغم هو أنّ بريطانية «وفرنسة الحرة» قد ردّتا لسورية استقلالها (أي للشام لأن سورية الطبيعية، سورية الحقيقية التي تشمل لبنان وفلسطين وشرق الأردن، فضلاً عن الشام ومناطقها لم يبقَ لها وجود في لغة الاستعمار).
وعبارة «إرجاع الاستقلال إلى سورية» مستعملة عمداً ليكون «الاستقلال» ما كانت قد قررته فرنسة بالتواطؤ مع «الكتلة الوطنية» النفعية للشام وهو دون الاستقلال بمراحل بعيدة.
وآخر الأخبار الواردة عند ختام هذا التعليق هو ما ورد من الناحية الموالية للدول «الكلية». فقد جاء عن أنقرة لشركة «ترانس أوسيان» بتاريخ 22 سبتمبر/أيلول أنّ رئيس الجمهورية الشختجية قد أسس حزباً جديداً أطلق عليه «اللجنة الوطنية» وغرضه جمع الموالين للإنكليز في البلاد. وأنّ رئاسة هذه اللجنة قد أُسندت إلى الشيخ كامل القصاب، فانضم إليها الذين كانوا متحزبين للدكتور شهبندر الذي قتل في السنة الماضية.
وتقول برقية للشركة المذكورة وبالتاريخ عينه إنّ الحكومة الشختجية الجديدة ما كادت تتسلم زمام الاستعباد حتى ابتدأت باضطهاد العناصر القومية والعناصر الوطنية التي لم تعلن تأييدها لها أو أظهرت عدم رضاها عنها، مما يدل على أنّ في نية هذه الحكومة القيام بحملة على المقاومة الداخلية.
ومهما يكن من الأمر فإن هذه المهزلة الجديدة لن تكون سوى برهان جديد على أنه لا أمل لسورية بفرد واحد من سياسييها القدماء، سواء أكان من «الكتلة الوطنية» أو من «الجبهة الشعبية الشهبندرية»، وأنّ الأمل الوحيد هو في رجال العهد الجديد عهد القومية السورية الذين عرّضوا حياتهم مراراً عديدة لخطر الموت من أجل إنقاذ شرف سورية والمحافظة على فكرة وحدتها القومية.
ولذلك نهتف من أعماق قلوبنا:
ليحيى الحزب السوري القومي.