كُثُر في المجتمع السوري في الوطن والمهجر الذين إذا لم يحسنوا عملاً يعيشون منه يلجأون في آخر الأمر إلى الصحافة فيصدرون جرائد يطوفون بها على الناس، متزلفين إليهم بالخطب والقصائد في مديحهم ومتخذين أحياناً الطائفية أو القرابة أو الضيعة وسيلة لاستنداء الاشتراكات، وليس لهم من مؤهلات الصحافة غير معرفة قواعد الإعراب إلى حد ما ومعرفة النظم الذي هو أفضل الوسائل للتزلف إلى الأغنياء الذين يحبون الظهور، ولمدح كل من يرجو صاحب الجريدة أن ينال منه فائدة مادية. ويضيفون إلى هذه البضاعة بضاعة «الوطنية» التي لم يعرفوا يوماً من الأيام ما هي على وجه التحقيق. ومما لا شك فيه أنّ أعظم بلية أصابت الرأي العام السوري هي من هؤلاء الممخرقين الذين إذا نظم واحد منهم قصيدة، استجاد تخيّر ألفاظها بعد أن سرق معانيها ومسخها مسخاً قبيحاً، وعرض هذه القصيدة على الذين لم يتح لهم الاطلاع على مكنونات الأدب فصفقوا لها، فقد صار «شاعراً كبيراً» تسجد له النجوم والأقمار ويجب التسبيح له بالعشي والإبكار، فإذا لم يجد من يسبّح له سبّح لنفسه في جريدته.
من هؤلاء المتعيشين بالصحافة غلام كبير في الولايات المتحدة اشتغل كاتباً في صحيفة سورية في نيويورك، واجتهد في نظم القصائد، مقتبساً من مطالعاته في أدب المجتمع الأجنبي الذي يعيش بين ظهرانيه بعض معاني عصرية ليست من أفضل الشعر ولا أقواه، ثم ترك الجريدة وأنشأ لنفسه مجلة دعاها السمير. ولـمّا كانت المجلة تتطلب أبحاثاً تحتاج إلى معرفة وعلم واسعين وإلى مدارك عالية وفهم عميق، ولم يكن شيء من ذلك لصاحبها، فلم تعمّر مجلته. فنسب حبوطها إلى جهل الناس قدره وحوّلها إلى جريدة غرضها المحاباة والأخذ بالوجوه والزلفى إلى كل شخصية أو جمعية والتواطؤ على نشر الأخبار الملفقة، ومحاربة الأفكار والحركات التجديدية لقاء أجرة معيّنة. فجعلها جريدة للاجتماعيات، أي للتحدث عن المظاهر الاجتماعية. فإذا بلغ هذا الصحافي أنّ الثريّ الفلاني عمّد ابنه أو إبنته نشر في ذلك خبراً طويلاً عريضاً ذكر فيه من حضر العمادة ومن غاب، وكيف كان «القصر» يتلألأ بالأنوار، وبأية بشاشة استقبلت ربَّة الدار المدعوين، وبأي أسف ودّعتهم وودّعوها. وذكر أيضاً الخطب التي قيلت والتهاني التي وردت والنكات التي رويت. وأبدى أسفه الشديد لأنه لم يتح له حضور هذا «المهرجان» الذي كان كليلة القدر، هذا إذا لم يكن حاضراً، أما إذا كان حاضراً فهو قد فاز بأمنية ليست ليلة القدر شيئاً مذكوراً بالنسبة إليها. وهذا شأنه في رواية أخبار القداديس والجنازات والعمادات والأعياد والأعراس. وصاحب هذه الجريدة يقول إنّ هذه الأخبار هي «مهمة الجريدة الكبرى». أما مهمة الجريدة الصغرى فهي درس الشؤون والحوادث السياسية والاقتصادية ونشر أخبار الحركة القومية والأفكار الجديدة والنظريات التي لها علاقة وثيقة بالتطور الاجتماعي - الاقتصادي - السياسي في العالم!
وقد اتخذ هذا الصحافي اللقيط من جريدته وسيلة أخرى ليمدح نفسه ويسبّح بعظمتها وألوهيتها، مسبغاً عليها النعوت والأسـماء الحسنى فيقول عن نفسه إنه «شاعر مبدع»، وإنّ القصائد التي ينشرها في جريدته، وكلها قصائد إنشادية أو غنائية، ثم يجمعها في كتاب أو ديوان هي «أروع كتاب أخرجته المطابع العربية في هذا العصر»! ومادح نفسه يقرئك السلام.
هذا الغلام الكبير الذي لا يعرف أصناف الصحف في العالم المتمدّن، لا يفتأ يعرض في «يومياته» للصحافة والصحف وواجبات الصحافي والأصول المرعية في الصحافة ليوهم الكثير من المهاجرين الذين أكثرهم تجار لم يدرسوا هذه الأمور أنه مفكر كبير وعالِم خطير!
ولقد كنا ننظر إلى شعوذات هذا الغلام الكبير بشيء من حب التسلية، كلما وجدنا حاجة لصرف الفكر عن القضايا التي نعالجها. ولم نرَ بأساً أن يكون في أوساطنا صحافيون للاجتماعيات يتسلون بأخبار ما يحدث من الشؤون الخصوصية للأفراد والعائلات ويسلّونهم بنقل هذه الأخبار إليهم، ما دام هؤلاء الصحافيون لا يتخذون هذا الفن وسيلة للشعوذة والخلط والخروج عن دائرتهم إلى شؤون القضايا الكبرى والأعمال العمومية الجليلة التي يتطلب التعرض لها علماً وفهماً وإدراكاً عالياً، وما داموا لا يجعلون صحفهم وسائل لترويج الدعاوات الأجنبية وطعن النهضة القومية بالمطاعن الخفية والتطاول على رجالها لقاء أجور معينة يقبضونها من دول أجنبية ومن عناصر رجعية باعت الأمة والوطن واشترت بثمنهما حلاوة وزخرفاً.
كنا نروّح عن أنفسنا في أوقات الاستراحة القليلة بما ينشره الغلام الكبير في جريدته «الكبرى»، خصوصاً ما تعلّق بنفسه و«أدبه وشعره». وكنا نجد بعض التسلية في ملاحظة انهماكه بتشييد قصوره وقلاعه الكرتونية وأسوار الكرتون التي يحيطها بها، وطيارات الورق التي يقضي ساعات طويلة من وقته «الثمين» في صنعها من فروق قصبة وورق ملون بمختلف الألوان، وكيف يطيّرها ويجعلها تحوم فوق قصور دولته وقلاعها لتمنع الطيارات الحربية من الاعتداء على التخوم الجوية لدولته الكرتونية.
كل هذه المظاهر كانت تسرّنا ولم نكن نجد فيها أي بأس إلا أنـها صادرة عن غلام كبير!
وكان سرورنا يبلغ بنا أوج اللهو والفكاهة حين نرى اجتهاد الغلام الكبير في إنشاء «العلاقات الدبلوماسية» مع كل من يستأنس منه ميلاً إلى الظهور والشهرة، عاميّاً كان أو خاصّياً، فيسير معه على قاعدة «سياسة الحمير» التي تعبّر عنها العامة بهذا المثل البسيط «أحكّ جلدك لتحكّ جلدي». فيأخذ في مدحه ليستدرجه إلى إرسال رسالة مدح وإطناب ينشرها في جريدته «الكبرى» كتحفة أدبية ممتازة!
وقد شفعت هذه التسلية عندنا حتى غضضنا الطرف عن وقاحات سخيفة ودسائس صبيانية حقيرة أخذ هذا الغلام يوجهها إلى الحركة السورية القومية، التي لم ترد له إلا كل خير ونجاح في أغراضه الخصوصية، طالما هو عارف حدّه وغير متعرض لها بسوء.
والظاهر أنّ هذا الغلام الكبير اقتنع بأن قصوره وقلاعه وأسواره الكرتونية هي قصور مبنية بحجارة متينة ومواد قوية، وفيها الشبهان والرخام والعاج، وقلاع مصنوعة من السمنت والحديد والفولاذ، وأسوار ضخمة قوية، وأنّ طياراته الورقية طيارات من المعادن القوية لها محركات تُمكّنها من التحليق إلى جو النسور، حتى أنه لينسى خيط الطيارة في يده!
والظاهر أنّ نفسه حدثته بما تحدث كل غرّ جاهل نفسه من الشر والاعتداء، حتى على الذين عاملوه معاملة الكريم وحاولوا أن يضعوه في مصاف الرجال. فبعد تمارينه الأولى في الغمز والطعن الخفي على الحركة القومية ورجالها، ظنّ أنّ سكوتنا عنه ناتج عن الرعب الذي حلَّ بنا من مرأى طياراته الورقية، فتجاسر وطلب الوقيعة علناً راجياً أن يعيب كبيراً، ظاناً أنّ التطاول على العظماء يجعله في مقامهم، أو نداً لهم، وأنّ إيقاعهم في عداوته يجلب عليهم البلاء الذي قال فيه أحد الشعراء:
بــــلاء لـــيس يشـــبـــهـــه بـــــلاء
عـــــداوة غير ذي حسب وديــــــن
يــبــيـحك مـنـه عرضـاً لم يـصـنــه
ليرتــع مـــنك في عـــرض مصـــون
فحمَله حمقه وغروره على كتابة مقالة في «يومياته» تحامل فيها على كاتب عالِم لم نسمع له أو منه يوماً من الأيام تعريضاً أو تصريحاً بسفه الغلام الكبير، بل آنسنا منه في بعض المواقف نية طيبة من نحوه ومحبة لخيره. وتعرّض، في مقالته المشار إليها، لعلوم يجهلها، وحمل حملاً لا قِبَلَ له بالسير به، فتكلم عن الشعر كلاماً يُضحك الثكلى، ووصف الشاعر وصفاً لا يليق إلا بالأحـمق أو المعتوه. فقال عنه إنه هو الذي «لا يحصره حيّز من فكر أو مادة». وتكلم على الحركة السورية القومية فقال إنّ للمعتوهين، الذين هم في عرفه «الشعراء»، فضلاً عميماً على هذه الحركة القومية المباركة. وتعرّض للدفاع عن أبيات منظومة سخيفة بكلام يدل على مبلغ جهله ومدى غروره. مع ذلك فقد رأينا أن لا نعامل هذا السفيه حسب سفاهته، وأن نفسح له مجالاً ونعطيه فرصة أخرى ليكون رجلاً. فناقشنا كلامه وأظهرنا فساد رأيه في الشعر وعدم فهمه الصفة الحقيقية للشاعر، وفضحنا تحامله المأجور وتشويهه الحقائق المنشورة. ثم بيّنا بالحقائق التاريخية التي لا تقبل جدلاً أننا قابلنا مساوئه ودسائسه ومطاعنه الخفية السابقة ضد الحركة القومية بصدر رحب وصبر الكرام، فلم نتعرّض له بما يمسّه أو يسيء إليه مراعين أنه رب عائلة، ظانين أنه مكره على مقابلته إكرامنا باللؤم، إلى أن كان خروجه العلني في مقالته المذكورة التي أزهقت من الصبر أنفاسه فرأينا أن نردّ على سهامه المشوية بسهام أمنيناه بها فأصابت منه أكثر من واحد مقاتل «أدبه» المنكشفة فارتد كيده في نحره وأدرك بعد فوات الفرصة أنه ليس كفوءاً للجولان في ميدان الأدب العالي فانكفأ وارتدّ راجعاً على خطواته وحاول أن يتنصل من تبعة ما اقترفه قلمه ولكن بطريقة لا يلجأ إليها إلا كل جبان رعديد وعبد زنيم. فكتب مقالة في «يومياته» بتاريخ 30 يوليو/تموز الماضي نرى فيها كل المثالب الأخلاقية التي اتّصف بها تحامله ودسّه السابقان. فقال فيها إنّ جريدته التي يحمل هو لقب «منشئها ورئيس تحريرها» الضخم هي التي كتبت المقالة السابقة التي خرج بها إلى التحامل العلني وليس هو، وإنّ مسؤولية المقالة تقع على الورقة المطبوعة لا عليه! وقال إنّ جعله مسؤولاً عن مقالة يعلم العارفون بأسلوبه أنـها من قلمه وإنشائه هو «محاولة للارتفاع بالتسلق على شخصيته» والأرجح أنه يعني الهبوط، لأن درجته قد وطئتها أقدام «الغلمان» من زمان! فرمى نفسه بالعجز عن حمل مسؤولية مقالاته الخاصة أو المقالات الرئيسية الوحيدة التي تنشرها جريدته التي يعلن أنه رئيس تحريرها ويقبل جميع التهاني عليها من أصدقائه الخصوصيين، الذين اكتسبهم بالزلفى وينشر عبارات إعجابهم بسحر بيانه وأسلوبه البديع في إنشائها! وكأنه يعلن للناس أنّ كل مدح في رئيسيات الجريدة هو موجّه إليه خصيصاً، وأنه حقيق به، وأنّ كل انتقاد يظهر جهالة المُنشىء وعظم مسؤولية «رئيس التحرير» يجب أن يوجه إلى معاونيه أو إلى الورقة المطبوعة فلا يعنيه شيء منه!
ما أعظم هذه البطولة! إنّ القائد الشريف يقبل أن يكون مكسوراً، كما يقبل أن يكون منصوراً. ولكن هذا المبدأ لا تدركه غير النفوس الكبيرة التي ترتفع إلى جو لا تصل إليه طيارات الغلام الكبير الورقية!
والظاهر أنّ تنصّل الغلام الكبير من تبعة الكلام الأكبر منه، الذي قاله بلهجة من أُعطي السلطان ليحكم على الأدب والصحافة، لاقى استهجاناً في أوساط أدبية كانت إلى حد قريب تعتقد ببطولة صاحب قصور الكرتون ومنزلته الأدبية، فعاد في عدد جريدته الصادر في 2 أغسطس/آب الماضي يرقّع أمره بمقالة أخرى تحامل فيها على «جريدة في الأرجنتين لها أخت في البرازيل»، وحاول أن يرميهما بكل الشر الذي انطوت عليه نفسه التي تكاد تتفطر من الحسد، وبكل الآثام التي يجري بها قلمه المأجور للدعاوات الأجنبية الثابتة بشواهد عديدة من إنشائه القاتلة روح القومية بين السوريين المهاجرين بتعليمهم أنّ الوطن ليس واحداً بل متعدداً، وأنّ منه ما هو قديم ومنه ما هو جديد، وذلك تسهيلاً لتلاشي رابطتهم الروحية بوطنهم ولقتل شعورهم بوجوب نهضة شعبهم، وهو طعن في كل الأوطان على السواء لأنه طعن بمبدأ الوطنية العام. تدعمه في هذه الدعاوة موارد مالية يصل إليها بالاحتيال على العامة السليمي النية، وموارد أخرى خفية لا تصل إليها العيون!
وقد تحاشى في هذه المقالة الإشارة إلى التّهم التي وُجّهت إليه وإلى جريدته، لأنه لا قِبَلَ له بدحضها. فهو لا يحسن دفع الحجة بالحجة، ونفي البرهان بالبرهان. فتسلح بسلاحه الوحيد - سلاح المراوغة والشتائم. ووجد وقتاً كافياً للسبّ ونهش الأعراض، ولكنه لم يجد أي وقت لدفع التّهم الموثوقة التي يعلم هو كما نعلم نحن أنـها ثابتة، ولا مناقشة النظريات في الشعر والأدب على الإطلاق. فعلِمنا وتيقنّا أنه ليس أهلاً لأن يُعدّ في مصاف الرجال الأحرار، وأنه ليس سوى غلام كبير في هيئة رجل، فجرّدنا ذلك من جميع الأسباب التي كنا نتذرع بها لاحترامه، ولم يبقَ له عندنا غير الاحتقار الذي نصارحه إياه على مرأى ومسمع من الناس، معترفين أمام الله وأمامهم أنه لا خيل لنا نجريها في ميدان سفهه وسبابه، فيكون هذا المقال فصل الخطاب في ما أثاره غروره.
وقد حاول في مقالته المذكورة أن يتستر بستار مقبول عند العامة. فقال إنّ «الجريدة الباقية» في الأرجنتين نَعَت على جريدته «نشرها أخبار الكهنة والكنائس والأعراس والجنازات» واتخذ من هذا التحريف الفاسد حجة ليدّعي أنه بطل يدافع عن «الكنيسة المسيحية»
والظاهر أنه لا يعرف فرقاً بين نشر أخبار الكهنة والكنائس والأعراس والجنازات، ونشر مقالات في هذه الأخبار وغيرها طنانة، طويلة، مملّة إلا لذوي المصلحة فيها.
فنشرُ الجرائد هذه الأخبار اليومية التي هي من الشؤون الاجتماعية المعتادة يمكن أن يكون بأسطر قليلة لا تشغل معظم «الجريدة الكبرى» في تطويل لا طائل تحته غير التزلف. إنّ الجرائد الكبرى، يا جميع الغلمان الكبار، تخصص مجالاً، لا يبلغ عشر معشار صفحاتها العديدة، للأخبار الاجتماعية العادية التي تهمّ بعض الأوساط، ولكنها لا تملأ صفحات بكاملها من هذه الأخبار إلا في ظروف استثنائية ومناسبات لها أهـمية ممتازة. أما «الجريدة الكبرى» التي تملأ أعمدة كثيرة منها على التوالي بتطويل وصف أخبار قليلة من هذا النوع العادي فهي جريدة لا حرج عليها في أن تنصرف إلى هذه الاجتماعيات لخدمة مصلحة صاحبها، ولكنه لا يجوز لها أن تدّعي أنـها «جريدة كبرى» بمعنى أنـها جريدة المواضيع العامة التي تشغل أفكار الأمم.
وإننا نذكّر كل من قرأ جريدة الغلام الكبير المنتفخ غروراً أنّ بعض من عالجوا الكتابة حيناً نطق بالصواب حين أجاب على سؤال وجّهته جريدته إلى «الأدباء الساكتين» وقال إنّ الصحف السورية اللاقومية التي عرفتها أوساط الولايات المتحدة حتى اليوم أو الأمس القريب، لم تحمل إلا المواضيع التافهة التي قتلت كل رغبة في الأوساط المستنيرة وعند الأدباء التوّاقين إلى خوض معارك الحياة. ونقول إنّ جريدته «الكبرى» سجلت شهادة ذلك «الأديب الساكت» على صفحاتها فكانت شهادة حق عليها لتبوء بإثمها!
وإننا نقول الآن لجميع الذين قرأوا بهتان هذا الغلام المكابر في الحق إنّ هنالك بوناً شاسعاً بين «الكنيسة المسيحية» من حيث هي مؤسسة الدين المسيحي الرسمية و«الكنائس» من حيث هي أبنية يشاد كل يوم عدد كبير منها، ويكفي الإشارة إلى بعضها الذي تنحصر أهـميته في بلدة أو قرية وجزء صغير من الجالية بأسطر قليلة، لا تزلّف فيها لهذا «الخطيب المِصقَع»، أو لذاك «البلبل الشادي»، ولا أخذ بوجوه هذه الجمعية أو تلك البلدة في وصف تقليدي تافه يمجّه الذوق السليم المتمدن.
هذا ما أشارت إليه «الجريدة الباقية» في الأرجنتين في ما يتعلق بتوافه جريدته «الكبرى» وهو ليس كل ما أشارت إليه. أما الجريدة التي «نزلت عليها آية الحجاب» في البرازيل أسوة بجميع الجرائد الأجنبية من سوريّة وغير سوريّة، فإن من خساسة النفس وحطّة المناقب اعتبار ذلك مدعاة للشماتة. وبعد فإن القوة التي أوجدت تلك الجريدة باقية، بل هي تزيد والدليل على ذلك أنه نشأت في المهجر بعد تلك الجريدة ثلاث صحف. وعسى أن تصدر قريباً صحيفة أخرى تكون أكثر من شوكة في جنب كل دجال ومنافق في الوطنية والصحافة!
ولا يقدر الغلام الكبير أن يوهم غير السذّج أنّ نشره أخبار القداديس والكهنة بهذا التطويل الممل، فضلاً عن طائفة أخرى كبيرة من التوافه، هو خدمة «للكنيسة المسيحية». إنْ ذلك إلا شاهد على أنه أحد الذين:
أظـــــهـــــروا لــــلـــــه ديــــنـــــــاً
وعــــــلـــــى الــــديــــنـــــــار داروا
ولــــــه صـــــامــــــوا وصـــلّــــوا
ولــــــــه حــــــــجّـــــــــــوا وزاروا
لـــــــو بــــــدا فـــــــوق الثريّـــــا
ولــــــهـــــــم ريش لـــــطــــــــاروا
أما محاولته تعيين نسبة مختلّة بين «أتباع جمعية» قومية يقتصر عملها على أمة واحدة ولمّا يمضي على نشوئها عقد من السنين، وبين المسيحية التي يمتد عملها بين الأفراد إلى جميع الأمم، لأنـها لا تتعرض لمبدأ القومية وصراع المجتمعات، فمن أسخف المحاولات الدّالة على ضعف العقل. وقد تذكّر الغلام الكبير أنه قد مرّ على المسيحية نحو ألفي سنة حتى انتشرت هذا الانتشار، ولم يتذكر أنّ الناس الذين جاء المسيح لينقذهم من مثالبهم ويرفع مناقبهم صلبوه لثلاث سنوات من تعليمه، وأنّ المسيحية لم تنتشر في عقد من السنين في وطن المسيح أكثر من انتشار «الجمعية التي لا أتباع» جهال لها!
إننا ما كتبنا هذا المقال إلا لنُظهر للرأي العام أمر هذا الغلام الدّعي، وليس لنقيم أي وزن لكلامه فلن يجد عندنا، بعد الذي ظهر لنا من أمره غير الاحتقار. فقد رأيناه يقابل الإكرام الذي أولاه إياه رجل خطير الشأن بتمرّد اللئيم، وتحققنا حين دعوناه إلى أفعال الرجال أنه ليس سوى غلام كبير، سفيه، سبّ، عديم أخلاق الأحرار يقابل الإكرام بالتمرد، والصراحة بالمواربة، والاحترام بالسباب. لا يحب الخروج إلى نور الحقائق والبراهين في مكابراته الصبيانية، ولا يترك فرصة تمرّ إلا ولوّح بقصوره وحصونه الكرتونية و«مقامه العالي» فيها وهوّل على الناس بها، رامياً الذين ستروا طيشه وتحملوا سفهه مدة طويلة بكل النقائص التي اشتملت عليها نفسيته المثالبية، ناعتاً إياهم «بالغلمان» تصغيراً لقدرهم، عملاً بالمثل القديم «رمتني بدائها وانسلت»، ناسباً إلى الجريدتين في الأرجنتين والبرازيل الشر الذي بدأه بتحامله في جريدته، مع أنّ هاتين الجريدتين لم تتعرضا لشرّه إلا محمولتين على الدفاع عن الحق، وقد سكتنا عنه من قبل تحاشياً لإضاعة الوقت وليس عن عجز.
وإذا كان محررو الجريدتين المذكورتين، الذين ينعتهم مادح نفسه «بالغلمان»، قد أظهروا كل هذا الحلم قبل أن يقرروا ردّ شرّه عليه، فحالهم لم يكن إلا كما قال الشاعر:
ولا أتــــــمنـــى الشــــر والشـــر تــــاركــــي
ولـكـن مـتى أُحـمـل على الشر أركبِ
إنّ «الغلمان» الذين يعنيهم لا يرفضون أن تكون الحياة المقبلة أمامهم، لا وراءهم، فيستقبلونها بحلوم الرجال وشهامة الأحرار الكرام. وإنّ شأنـهم ولا شك يختلف كل الاختلاف عن شأن غلام المكابرة والجبن الذي بلغ الهرم ولم يبلغ الرجولة ولن يبلغها.
وإننا نحذّر الغلام الكبير من عاقبة التبجح الفارغ والتطاول على مقام العظماء وكرامة المنظمة القومية. فقد يكون بين الأحداث الذين يحاول استصغارهم من إذا مرَّ بقصوره وحصونه الكرتونية ورأى غلوّه بها وزهوه وسفهه فقد لا يتمالك من أن «يفنّ» عليها، على طريقة الأحداث، فتتداعى فتسقط ويكون سقوطها عظيماً!