المترجم: يوسف الغريب - «المطبعة الأرجنتينية» - كوردبة 1941
ظهر في الشهر الماضي هذا الكتاب، وقد أهداه المترجم إلى أولاده، وبواسطتهم إلى جميع الأولاد في الدُّنيا.
هذه حلقة جديدة من سلسلة خدمات أدبية كبيرة يقوم بها الأديب السوري المعروف، نزيل كوردبة، الأرجنتين، يوسف الغريب نحو الشعبين السوري والأرجنتيني، بإيجاد التعارف النفسي بينهما عن طريق الاطّلاع على المكنونات الأدبية. ومع أنّ اختصاصه كان في تعريف الأدب الأرجنتيني على الأدب السوري العالي، فأهمية هذا التعريف للتفاهم النفسي بين الشعبين عظيمة.
إختص يوسف الغريب باهتمامه كتابات النابغة السوري جبران خليل جبران، فترجم إلى الإسبانية عدداً غير قليل من كتبه، بينها ما تضمن أدباً سورياً بحتاً، وبينها أهم ما كتب جبران وكانت له صفة عامة كـ النبي ويسوع إبن الإنسان. ومن هذه الناحية خدم يوسف الغريب مكانة شعبه عند الأرجنتينيين وغيرهم خدمة كبيرة، كما خدم الوجهة الأدبية الإنترناسيونية.
وقد أحسن كل الإحسان باهتمامه بترجمة كليلة ودمنة ترجمة جديدة تنعش رونقها وتظهر جلاءها وجمالها. ولا ندخل هنا في النظر في الترجمة وصحتها وقوّتها بالنسبة إلى الأصل العربي المأخوذة عنه، فهذا بحث يكون الأولى أن يتناوله يوسف الغريب نفسه. فنحن نعرف صحة أدبه ونثق به ونعرف أنّ الغريب ليس متطفلاً على الأدب ولا على اللغة الإسبانية، ونفتخر بأنه يوجد ثقة مثله في هذا الباب.
ولكن لا بد لنا من ذكر المقدمة التي أنشأها الغريب لترجمته. فقد عرض فيها لوجهة نظر تستحق الالتفات. وخلاصة هذه الوجهة: أنّ ابن المقفع هو مؤلف كليلة ودمنة وليس مترجم الكتاب عن الفارسية كما يذكر. وأنّ الكتاب ليس مترجماً عن الهندية.
ليست هذه أول مرة يطرق مسامعنا قول مثل هذا في كليلة ودمنة. فمنذ ابتدأت في سورية دروس الشك والتمحيص والتأويل، أخذ عدد من المولعين بهذا الفن الجديد يذهبون المذاهب الكثيرة ويتسابقون في ابتداع التأويلات. وكان أنّ بعضهم أخذوا يشكون في كون كليلة ودمنة مترجمة، وعملاً بمدرسة التعليل والتحليل، أخذوا يجتهدون في تبيان صعوبة كون هذه القصة أو تلك عائدة إلى تفكير هندي وترجيح كون هذه القصص كلها موضوعة بالعربية. وقرأنا لكاتب مرة مقالاً اجتهد فيه أن يطبق بعض القصص على التفكير الإسلامي والظروف العربية.
إنّ أهم حجة يدعم بها الأستاذ يوسف الغريب مذهبه هو ما وصل إليه بالتحقيق من أنّ جميع الترجمات في العالم لهذا الكتاب، حتى الهندية، مأخوذة عن كتاب ابن المقفع، وأنّ الهنود، قبل ترجمة كتاب ابن المقفع، كانوا يجهلون وجود الكتاب ولم يكن لهم علم إلا بحكايات قليلة مشابهة لحكاياته مبعثرة في عدة كتب كـ مهرباته وفنشطسترة والهيتوفديشة. وأضاف صاحب الترجمة إلى هذه المعلومات قائمة أقدم الترجمات الإنترناسيونية لكتاب كليلة ودمنة فإذا هي كلها بعد زمن كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع.
ولكنه يذكر أنه وجدت ترجمة سريانية قديمة، أي أقدم من الترجمة التي ظهرت في القرن العاشر. ولكنه لا يعيّن قِدَمَ هذه الترجمة. وهذه نقطة تستحق الدرس والتحقيق الدقيق. فالذي يحضرنا أنّ الأب لويس شيخو ذكر أنّ هنالك ترجمة سريانية لـ كليلة ودمنة عن الفارسية سابقة العهد لترجمة ابن المقفع إلى العربية. فإذا صح ذلك سقطت دعامة قوية من دعائم المذهب الجديد أنّ ابن المقفع مؤلف وليس مترجم كليلة ودمنة.
ومهما يكن من الأمر فحجة عدم العثور على الأصل الهندي أو الترجـمة الأولى البهلوية تظل حجة قابلة النقض. ونذكر هنا ما جرى في أمر ألف ليلة وليلة التي كان يُظنّ أنـها موضوعة بالعربية حتى أنّ الإنكليز أطلقوا على ترجمتها «ليالي العرب». ولم يعرف لها أصل في غير لغة حتى اكتشفت بعثة روسية الأصل الفارسي الذي كان مجهولاً في بلاد فارس نفسها. وإذا أخذنا العهد الذي قيل إنّ كتاب كليلة ودمنة ترجم فيه إلى الفارسية، والزمن الذي قيل إنه وضع فيه بالهندية قبل ذلك، وإنّ الكتاب كان مخزوناً، أي غير شائع في الهند، كان لنا أن نأخذ علماً بحجج المترجم الغريب وأهميتها وننتظر حدوث تحقيق جدّي كامل يذهب إلى الأصول ويتتبع جميع أطوار الكتاب وظروف نشأته.
نهنىء الأديب السوري يوسف الغريب على بحثه في الترجمة المشار إليها الذي اتّبع فيه أصول الاستقراء والاستدلال وأثار به قضية تستحق الدرس، وعلى ترجمته كليلة ودمنة إلى الإسبانية. فإنه من أجمل الكتب في العالم وأفْيَدها للناشئة الطالبة الحكمة. ونشكر له هديته.