تسير الحركة السورية القومية نحو غايتها سيراً حثيثاً لا يمنعه شيء، فالحركة القومية تشبه اليوم نهراً عظيماً متولّداً من ينابيع غزيرة عميقة، لا يمكن استنضابها ولكن الناس الذين لم يتعودوا رؤية مثل هذه الفاعلية العظيمة ولـمّا يدركوا حقيقة الحركة السورية القومية، لا يزالون يستعملون في تقديرها والحكم في حوادثها مقاييس قديمة غير صالحة لقياسها.
اعتاد الناس من شعبنا، فيما مضى، أن يروا نفراً من الرجال اجتمعوا على غاية قريبة ظاهرها خطير، كالاستقلال، وأخذوا يستنهضون الهمم لها من غير خطة واضحة ولا تنظيم فكري أو إداري، فيصطدمون بالإرادة الأجنبية المتسلطة ويتعرضون للخطر. فتقبض السلطة الأجنبية، أو عمالها من الوطنيين، عليهم أو على معظمهم، فيتفرق شملهم وتسقط غايتهم ويتلاشى عملهم.
هذا ما جرى «للشهداء» الذين اجتمعوا حول مؤتمر باريس سنة 1913. وهذا ما جرى لرجال الحركات الثورية في الوطن، ويختلف عن هذا ما جرى لرجال الشركة السياسية الكبرى التي عرفت في تاريخ تخبطنا القومي باسم «الكتلة الوطنية» الشامية، إذ إنّ رجال هذه الكتلة تفرقوا، وامتازوا بإعلان تخلّيهم عن الغاية التي ادّعوا أنـهم يعملون لها وانضمامهم إلى الدولة التي ألغت «المعاهدة» التي وقّعتها، وأبطلت الحكم الوطني وأوقفت «الدستور» في الشام ولبنان، بعد أن كانوا «يتبهورون» ويبتهرون بادِّعاء «الجهاد الوطني» وبأنـهم لا ينفكون عن محاربة تلك الدولة حتى ينالوا كل مطلب كاملاً، وأنـهم لو لم يبقَ بينهم وبينها سوى عقال لحاربوها عليه!
إذن، أصبح شعبنا معتاداً رؤية الأعمال القومية محتكَرة بين عدد من الأفراد يؤلفون شركة سياسية فيما بينهم ويعدّون القضية ملكاً خصوصياً لهم، تنتهي القضية بوقف أعمالـهم. وهو لا يزال جاهلاً طبيعة الحركة القومية الشعبية التي تختلف عن طبيعة الشركات المشار إليها. ولذلك كان، كل مرة يسمع فيها بالقبض على أركان من إدارة الحزب السوري القومي، أو بانتقال البعض من مكان إلى مكان، أو بأحكام قاسية صادرة على زعيمه وعدد من كبار رجاله، يعتقد أنّ المنظمة القومية قد انحلَّت وانتهى أمرها.
وقد بلغ السوريين في مهاجرهم أنّ المحكمة العسكرية الفرنسية قد حكمت على الزعيم حكماً غيابياً بعشرين سنة سجن وعشرين سنة منع إقامة في الوطن، أي نفي غير مخصص، وأنـها حكمت على عدد من أركان الإدارة، في مقدمتهم رئيس مجلس العمد الأمين نعمة ثابت، أحكاماً قاسية متراوحة بين عشر سنين سجن ومثلها نفي غير مخصص وسنة. وقد بلغهم أنّ رجال التحري قبضوا على عدد آخر من رجال إدارته بينهم العميد الأمين مأمون أياس ووكيل العميد الرفيق جبران جريج. بناءً عليه وبناءً على ما اعتاده الشعب السوري في حركاته السياسية الماضية، كان من البديهي أن يظن معظم المهاجرين أنّ أمر الحزب السوري القومي قد انتهى وأنه يجب عليهم أن ينتظروا قيام حركة جديدة. ويساعدهم على الأخذ بهذا الظن سكوت صحافة الوطن، تبعاً لأوامر الحكومة، عن قضية الحزب السوري القومي، وسكوت معظم الصحف السورية اللاقومية في المهجر على مسألته. أما الحقيقة فتدل على أنه ليس آثم من هذا الظن الصادر عن نفسية مضطربة، ضعيفة الثقة أوجدها في الشعب مشعوذو السياسة.
ومع أنّ صحف الوطن قد امتنعت منذ سنة 1936 عن تناول شؤون الحزب السوري القومي بالبحث وعن الإخبار عن حركاته وأعماله، إلا ما كان من شأنه تشويه سمعته، إرضاءً للسلطة القائمة التي تعيش تلك الصحف في ظلها، مع كل ذلك فالحقيقة لا بد أن تظهر في خبر أُفلِتَ في بعض تلك الصحف. وقد يكون الخبر بسيطاً لا يدل ظاهره على شأن هام ولكن تحقيقاً سريعاً في نوعه لا يلبث أن يُظهر خطورته.
من ذلك الخبر التالي الذي نقلته الرصيفة السمير في بروكلن عن صحف الوطن وهو:
«نشرات الحزب القومي»
«إعتُقل أحمد عبدالله شيخ بينما كان يوزع نشرات الحزب السوري القومي.»
هذا هو كل الخبر وهو وارد في جريدة السمير في عددها الصادر في 15 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. وظاهر هذا الخبر لا يدل على حقيقة شأنه. ولكن بعد إمعان النظر فيه تظهر خطورته.
إنّ هذا الخبر البسيط يعني أنّ الحزب السوري القومي لم ينهد كيانه ولم تضعف معنوياته بعد الأحكام العسكرية القاسية الغريبة، التي صدرت بحق الزعيم وعدد من أركان الحزب، وبعد الاعتقالات الأخيرة لعدد آخر من رجال إدارته العليا، بل بالعكس فإن الحزب يتابع جهاده في الوطن ضد الفساد الداخلي والطغيان الخارجي، كما يجاهد في المهجر لفوز القضية القومية في جواليه عبر الحدود فتكون دعامة مادية ومعنوية للنهضة في الوطن.
إنّ مسألة توزيع مناشير حزب ليست مسألة فردية تتعلق بالموزّع الذي ألقي عليه القبض، بل مسألة عمل منظمة قائمة بحركة عامة. إنّ هذه المسألة تعني أنّ جهاد الحزب السوري القومي مستمر وسيظل مستمراً في كل الظروف إلى أن يتم النصر.
وبهذه المناسبة نرى أن نكون أوفياء لضميرنا بِحَثّ الجوالي السورية في المهجر على القيام بجزء من واجبها نحو الحركة القومية، التي تصون بتضحياتها شرف الأمة السورية وتعمل بجهادها لإنالة الشعب السوري حقه.