عندمـا وقف سعاده في اجتماع الـحزب السـوري القـومي العام يـوم أول يونيو/حزيران سنة 1935 (أنظر ج 2 ص 2) وأعلن لمجموع القوميين الممثلين جميع مناطق الحزب: أنّ في مقدمة المسائل السياسية الخارجية التي ستعالجها الحركة السورية القومية مسألة نقض المبدأ العام السائد في التاريخ القائل: «إنّ مصير سورية يقرَّر دائماً بالمساومات الأجنبية من غير حسبان إرادة الأمة السورية»، وإقامة مبدأ آخر في مكانه يقول: «إنّ إرادتنا نحن هي التي تقرر كل شيء متعلق بنا. فنحن نقف على أرجلنا وندافع عن حقنا في الحياة بقوّتنا، ومن الآن فصاعداً تدير إرادتنا نحن دفة الأمور، وإنّ قوّتنا القومية النظامية ستغير وجه التاريخ في الشرق الأدنى»، لم يعنِ أنّ تلك القوة الصغيرة، نحو ثلاث مئة، المجموعة في قصر عائلة ثابت في بير حسن، ضاحية بيروت، أو أنّ قوة الحزب السوري القومي في ذلك العهد، وهي لا تتجاوز ألفين أو ثلاثة آلاف، تكفي في ذاتها لتحقيق هذا المبدأ المرتفع بينما قوى الأمة السورية العظيمة باقية في شللها.
إنّ كلامه لم يكن إلا «تعبيراً عن إرادة الشعب السوري العامة»، يخرجها من الغموض إلى الوضوح ومن القوة إلى الفعل، ويكسبها شكلاً بعد أن كانت سديماً. وهذا يعني أنّ تحقيق المبدأ السياسي الجديد الذي أعلنه سعاده منوط بتنبه الشعب السوري وسرعته إلى إدراك حقيقته. فإذا اضطلعت به فئة من الشعب ولم تنجح فلا تكون هذه الفئة قد خابت وحدها، بل يكون الشعب السوري كله قد خاب، باعتبار أنّ هذا المبدأ يعبّر عن إرادته العامة ويمثل قضيته الجوهرية. لأنه إذا نجحت هذه الفئة لم تعد نتيجة نجاحها إليها وحدها، بل إلى الشعب كله الذي يصبح صاحب السيادة، فيتمكن بها من مضاعفة مصالحه وصيانة حقوقه وزيادة ثروته. وإذا لم تنجح بقيت مصالح الشعب كله ومنافعه في يد غيره تعود إليه المكاسب والمغانم والــمُتَع الهيولية واللاهوتية، وضاعت حقوق الشعب وتبدَّدت ثروته.
بناءً عليه تكون القضية السورية القومية، التي أوجدها الحزب السوري القومي وقام على تحقيقها، قضية مصالح الشعب السوري كله، أي مصالح الزراع والصنّاع والتجار وأهل الفنون السوريين، لا قضية فئة من الشعب قامت على أساس الأغراض السياسية التقليدية من نشوء الأحزاب. وهذه الحقيقة تعني أنّ الحزب السوري القومي لم ينشأ على القاعدة المعروفة في مبادىء العلم السياسي والعلم الاجتماعي، التي تعرّف الأحزاب بأنـها تنظيم جماعات ذات مصالح معيّنة ضمن الدولة، وتكون هذه المصالح أحياناً مصالح الحكم. فهو حزب من حيث دلالاته على تحزُّب معتنقي مبادئه وانتظامهم لتحقيق هذه المبادىء ولكنه في طبيعته حركة ترمي إلى تناول الشعب السوري كله بالتنظيم الفكري والعملي، لأن مبادئه هي مبادىء حياة الأمة السورية بأسرها.
ومنذ نشأ الحزب السوري القومي وضع مؤسسه وزعيمه في صدر الأغراض الهيولية الواضحة هذا الغرض: إيجاد إرادة الأمة السورية فعلياً في التاريخ.
ومن درسنا تاريخ نشأة الحزب السوري القومي وانتشاره نخرج بهذه الحقيقة: إنّ الزعيم بذل كل جهده واستخدم كل وسيلة عرضت له ليجعل الإرادة السورية القومية شيئاً محسوساً وقوة فاعلة، ولتهيئة الأسباب لإظهار هذه القوة وفاعليتها عندما تحين الفرصة.
وجاءت الحرب الحاضرة وسعاده في بدء رحلته في المهاجر السورية التي يشكل القيام بها جزءاً هاماً من مساق الزعيم لتهيئة الأسباب المذكورة. وغني عن البيان أنّ تـهيئة أمر ضروري لكل خطة هو شرط أساسي لنجاحها. والحركة السورية القومية تمتاز بأنـها حركة غير اعتباطية لا تنشىء قيادتها بطولة وهمية بسفك الدماء من غير خطة تبررها. وقيادة الحركة القومية ترى أنّ انتصار القضية النهائي يتأمن بتعميم الوعي القومي، وتأليب أعظم مقدار ممكن من أسباب القوة، وبلوغ أعلى مستوى ممكن من الشدة.
يتضح من هذه المقدمات أنّ البحث يتعلق بسورية باعتبارها شخصية حية، لا باعتبارها جسماً بلا عظم ولا روح، فالكائنات التي من هذا النوع لا يبحث مصيرها، لأنه مصير حتمي لا اختيار ولا احتمال فيه. ومن هذه الوجهة نبعد كثيراً عن طريقة البحث الشائعة في صحفنا وبين كتّابنا اللاقوميين الذين، حين يبحثون مصير أمتهم، يصوّرونها تصويراً خالياً من كل شعور بالشخصية والحياة، ويقدّرون ما يحتمل أن يحدث لها، لا ما يحتمل أن تُحدثه هي، مساعدين على استمرار الغفلة والعجز والتسليم لما تقضي به العوامل الخارجية والإرادات الأجنبية، حتى أنّ الواحد منهم ليحسب نفسه فيلسوفاً في التكهنات فيما سيحدث لسورية في نهاية الحرب الحاضرة، ويصلي لربه ليل نهار، إن كان مؤمناً، لتصح تكهناته فيقول عنه الناس إنه بصير بمصائر الشعوب ولو جاءت تكهناته بعد فوات فرصة التكهن!
يتوقع كثير من السوريين أن تحلّ إيطالية وتركية في سورية محل فرنسة وبريطانية. وقد يحدث هذا الأمر أو ذاك لسورية، إذ نهضتها القومية لا تزال في بدئها. ولكن هل يعني ذلك أنّ مصير سورية قد تقرَّر إلى الأبد؟
إنّ مصير سورية لا يتوقف على نتيجة الحرب أو العوامل الخارجية والإرادات الأجنبية إلا لفاقدي الشعور بشخصية سورية وإرادتها، الذين لا يساوون أنفسهم بها وإن كانوا من أبنائها. أما أصحاب الوجدان القومي فيرون أنّ مصيرها لا يتوقف على شيء من ذلك، بل على الصراع الداخلي بين إحياء الوجدان القومي في الشعب وإماتته، بين إيجاد إرادة الأمة السورية فعلياً في التاريخ وإعدامها منه، بين نفسية النهضة السورية القومية الواعية المؤمنة المنشئة تاريخ سورية الحديث المستقل، ونفسية الخمول القومي والتفسخ الروحي والانحلال الوجداني والتعويل على التواريخ الغريبة التي أنشأتـها إرادة غير سورية.
على هذا الصراع الداخلي العنيف بين الحياة القومية والموت القومي، على هذا الصراع بين الحركة السورية القومية والمؤسسات التقليدية الفاسدة، يتوقف مصير سورية، لا على حرب أوروبية أو عالمية، لأنه إذا انتصرت إرادة الأمة السورية بانتصار الحركة السورية القومية فكل ما تقرّره العوامل الخارجية والإرادات الأجنبية يكون عارضاً ويزول.
وقد جارى بعض القوميين الحديثين كتّاب النفسية اللاقومية في طريقة التفكير القومي، ووهموا أنّ في انتصار بعض الدول وانكسار بعضها حصول ما يتمناه السوريون، وهذا غلط فاحش. فمصير سورية لا يتوقف على انتصار دول وانكسار دول، بل على الصراع الداخلي بين المبدأ القومي القائل: «إنّ إرادتنا نحن هي التي تقرر كل شيء متعلق بنا»، والمبدأ اللاقومي القائل: «إنّ مصير سورية يقرّر دائماً بالعوامل الخارجية والإرادات الأجنبية.»
أيها السوريون،
إنّ مصير سورية يتوقف على ما تختارونه أنتم. إنه يتوقف على انتصار مبدأ العمل بإرادتنا أو انتصار مبدأ التسليم لإرادة غيرنا.
إنّ القضية قضية مبدأ، لا قضية فرصة، فالفرصة قيمتها وقتية، أما المبدأ فقيمته ثابتة دائمة. لا تقولوا ماذا يفعل الحزب السوري القومي، فالحزب السوري القومي يفعل ما تمكنونه من فعله.
الحزب السوري القومي هو أن تنصروه فينصركم لأنه منكم ولكم.