بعد أن يعطينا من بلغ به جهله المطبق أن يُعدَّ نفسه عالماً ويقيمها قاضياً وحكماً بين الحزب السوري القومي وأعدائه، ويحسبها مرجع الفكر الثاقب والرأي الصائب، هذا «الدرس السيكولوجي» في أسباب «البغض الشديد الذي يضمره الكثيرون منّا للحزب» يبدأ درسه الثمين الذي يجعله حكماً بين الحزب وأعدائه، فيفاجئنا مفاجأة لا نستبعد وقوعها من الخابطين في ما لا ناقة لهم فيه ولا جمل، وهي أنه عرض لفكرة الحزب السوري القومي السياسية أولاً فأيدها كل التأييد، في حين أنه في «إيضاحه» المنشور آنفاً يبتعد عن الموافقة على فكرة الحزب السياسية ويقصرها على «الكثير من آرائه ومبادئه الاجتماعية»!
يوافق السيد زكي قنصل كل الموافقة على خطة الحزب السوري القومي لخير العالم العربي، ثم ينتقل إلى معالجة قضية وحدتنا القومية فيعترف بصواب نظرة الحزب السوري القومي في أنّ عدم حصولها ناشىء عن تفسّخنا الاجتماعي، ويوافق على أنّ هذه الوحدة لا تتم بمجرّد الصياح: يجب أن نتحد، حتى أنه يستعمل في هذا الباب كلام الزعيم نفسه في خطبة أول مارس/آذار الماضي التي سمعها زكي قنصل، بل تتم بالسير على القواعد التي وضعها الحزب. وهنا أيضاً نرى زكي قنصل عامياً في العلم إلى درجة أنه لا يرى من القضايا الاجتماعية غير قضية تعدد الأديان فقط لا غير.
قد يقول زكي قنصل: «أنا لـم أكتب غير عجالة اقتصرت فيها على الأهم»، ولكن عندما يبحث قاض من كبار قضاة المسائل الاجتماعية والسياسية، نظير زكي قنصل، قضية حركة كالحركة السورية القومية، خصوصاً في عجالة، فالطريقة تكون بالنظر في الأساس وبإجراء استعراض عام غير مسهب. خصوصاً وأنّ مسألة الأديان والمذاهب ليست المسألة الاجتماعية الوحيدة في هذه الدرجة من الأهـمية. ومع ذلك فهو يعترف أنّ الحل الذي يقدمه الحزب السوري القومي لمسألة تفسّخنا الاجتماعي ـــ الروحي هو الحل الوحيد الذي به نتمكن من أن نكون أمة حرة.
بيد أنّ زكي قنصل لا يقف عند هذا الحد ويقول: إنّ إكمال بحث هذا الموضوع الخطير يجب أن يكون من شأن عالِم يصح الركون إلى علمه، أو من شأن من هو أوسع مني اطّلاعاً. كلا، لا شيء من ذلك. فهو يندفع إلى التسليم بأن «هذه الطريق تقودنا حتماً إلى الانحلال الدين»»، وبأن المسألة هي بين أن «يكون لنا وطن وليس لنا دين، وأن يكون لنا دين وليس لنا وطن»، وهو هذر في معرض البحث الجدي. فطريق القومية الذي يشقه الحزب السوري القومي لا يقود «حتماً» إلى الانحلال الديني ولا إلى التفكير في مثل هذا الأمر، ولكنه يقود حتماً إلى انحلال التعصب الديني وقيام التعصب القومي مقامه.
بعد هذا وذاك، يعلن زكي قنصل أنه يوافق على آراء الحزب السوري القومي ومبادئه الاجتماعية، وعلى نظرته السياسية أيضاً، ناقضاً ما قاله قبل ذلك مَن يؤيد «الكثير من مبادئه الاجتماعية» فقط. وجميع هذه «النقط» الاجتماعية والسياسية في الحزب السوري القومي «تعجبه». أما ما لا يعجبه فهو:
«1 ــ إنكاره الإخلاص والوطنية والفهم على كل من يعمل خارج نطاقه.»
هذه «النقطة» نحن مدينون باكتشافها إلى فهم السيد زكي قنصل وحده، وقد يكون اشترك معه في هذا الاكتشاف «أديب من إخواننا في البرازيل.» ولا بد لنا من الاعتراف بأن أفهامنا تعجز عن إدراك علاقة مادية أو منطقية بين هذا الاكتشاف الاستنتاجي وبين حقيقة موقف الحزب من «كل من يعمل خارج نطاقه.»
إنّ هذه التهمة التي يرمي بها زكي قنصل الحزب السوري القومي تحتاج إلى أدلة وثيقة، وبدون هذه الأدلة تكون هذه التهمة تحاملاً بحتاً. وهي ليست سوى تحامل بحت.
فالحزب السوري القومي قد حمل على فئات وشركات سياسية عديدة، مبيناً في كل موقفه الأسباب التي تدعوه إلى الحملة عليها. والحقيقة هي أنّ الحزب السوري القومي قد حمل على أكبر هذه الشركات والفئات السياسية، لأنـها أنكرت العمل القومي على غيرها، وتصريحات رجال «الكتلة الوطنية» الرسمية شاهد لا يقبل الجدل على صحة موقف الحزب، ونحن نتحدى زكي قنصل وغيره من المتحاملين على الحزب أن يأتونا بتصريح رسمي صادر عن الحزب «بإنكاره الإخلاص والوطنية والفهم على كل من يعمل خارجه.»
أما استشهاده بما يكتب في سورية الجديدة فلا يمكن أن يقوم لأسباب هي: أولاً ــ إنّ سورية الجديدة ليست الجريدة الرسمية للحزب السوري القومي. ثانياً ــ إنّ ما ينشر في هذه الجريدة ليس مسؤولاً عنه الحزب السوري القومي. ثالثاً ــ إنّ مقالات هذه الجريدة ليست مكتوبة، في الغـالب، بأقـلام مسؤولين في الحزب السوري القومي.
رابعاً ــ نطلب من زكي قنصل وغيره ألا يخدعوا الرأي العام بمثل هذه العبارات الإجمالية التي لا تعيّن شيئاً حقيقياً، والتي تجرف في طريقها كل الحقائق الراهنة.
«فأنت لا تجد في كل عدد منها أكثر من مقالة واحدة خالية من التحامل والتهجم، الخ.»
صحيح أنّ الحزب السوري القومي يهاجم (ولا يتهجم) عقلية عتيقة بكاملها وبجميع أساليبها التي لا تصلح لحاجات الحياة الجديدة، وهو يقول بأنه لا يمكن ولا يفيد التوفيق بين نفسيتين متناقضتين تناقضاً جوهرياً. وفي كل مرة أنكر الحزب السوري القومي «الإخلاص والوطنية والفهم» على أحد من العاملين خارجه كان يعيّنه ويذكر اسمه، ويبين الأسباب التي تدعوه إلى هذا الإنكار. ويعجز زكي قنصل، وكل من شدَّ معه، أن يأتينا بمقال حزبي واحد يعلن أنّ الحزب ينكر «الإخلاص والوطنية والفهم على كل من يعمل خارج نطاقه.»
أما أنّ الحزب السوري القومي قد كوّن قضية قومية كاملة كلية تشمل حياة أمة بأسرها فحقيقة تدعو إلى استنكار تحامل المكابرين من أصحاب العقلية الجامدة، وتهجمهم على الحزب السوري القومي غير متورعين، أحياناً كثيرة، عن استعمال نظريات الحزب السوري القومي نفسه بعد صبغها بألفاظ تقليدية للتهجم على الحزب، لا إلى استنكار حملة الحزب السوري القومي على الذين استنزفوا دماء الأمة وقواها بأساليبهم الفاسدة ونفسيتهم المريضة.
«2 ــ تضخيم أعمال الحزب وأخباره على الطريقة الإنكليزية المضحكة.»
وهو يستند في إيراد هذه «الحقيقة» التي يدّعيها إلى ما قد يكون سمعه من عضوين غير مسؤولين من أعضائه، كخالد أديب ويوسف بهنا. فخالد أديب الذي كان يحمل رتبة الأمانة، وكان ناموساً من درجة ثانية في مكتب الزعيم لمدة نحو ثلاثة أشهر عملياً فقط، ولشؤون رحلة الزعيم إلى المهجر لا غير، ليس واقفاً على إحصاءات الحزب الرسمية ولا يعرف شيئاً ثابتاً عنها. ويوسف بهنا ليس سوى رفيق جديد. وإذا أراد شابان متحمسان لحزبهما أن يقدّراه على ما يحبان أن يكون، فهل مسؤول عن أقوالـهما الحزب؟
إنّ عقلية كعقلية زكي قنصل فقط يمكنها اٴن تقبل أن يكون الحزب السوري القومي مسؤولاً عن أقوال أعضائه غير المسؤولين.
قد بقي عدد أعضاء الحزب سراً، حتى على الأعضاء أنفسهم، لسبب هو من خصائص إدارة الحزب العليا. وقد يكون أعضاؤه، وقد يكون بينهم بعض المسؤولين، بالغوا في عدده مرة، وقد يكونون أنقصوا عدده مرات لأسباب سياسية. وهذا ما يجوز لكل دولة في حالة حرب. ولكننا لا يمكننا اعتبار هذه التصريحات الإحصائية شيئاً مسؤولاً عنه الحزب، إلا إذا صدرت عن دائرة إحصاءاته أو عن مرجع جائز له إعطاء تصريحات رسمية في هذا الصدد. وهكذا يجوز لبعض الأرجنتينيين أن يقولوا إنّ جيشهم يبلغ عدده ثلاثة ملايين، مسلحة من أحدث طراز، من غير أن يكون هذا سبباً لأخذ الأرجنتين نفسها بـهذه الأقوال.
«3 ــ نظر الحزب إلى الأدب، فهو يرى أنّ الأدب الذي لا يماشي دعوته ولا يتفق مع فلسفته ليس أهلاً بالخلود (يريد جديراً به)، بل هو أدب فاسد عقيم يجب طمسه ودرسه، مهما سما من الناحية الفنية.»
إنّ هذا الاستنتاج هو محض افتراء ودعوى باطلة. فالحزب السوري القومي لـمّا يعالج مسألة الأدب من الوجهة الفنية البحتة. ولكن الحزب يحارب نوعاً من الأدب القومي، هو الأدب الذليل النائح الناعب الباكي القاتل ثقة الشعب السوري بنفسه. وليس خفياً أنّ زكي قنصل زار الزعيم، بعيد حفلة أول مارس/آذار برفقة الكاتب القومي جبران مسوح فسمح له الزعيم بمحادثته على حدة، فسأل الزعيم كيف ينظر الحزب إلى الأدب والأدباء؟ فأجابه الزعيم: «إنّ الحزب السوري القومي لا يريد إلغاء أنواع الفن الأدبـي ولا يريد أن يصب الأدب في قالب فني واحد. ولكنه يهتم بالدرجة الأولـى بالأفكار التي يتناولـها الأدب وتكون ذات صفة أساسية أو فلسفية عامة تؤثر في نفسية المجتمع. فهذه يريد الحزب ضبطها ضمن نطاق فلسفته لحرصه على إنشاء الروحية الموحدة»، وضرب الزعيم مثلاً على ذلك بعض الأفكار الواردة في شعر أحد الشعراء، ولعله هو ذلك «الأديب من إخواننا في البرازيل» الذي يشير إليه زكي قنصل في «إيضاحه» الوارد آنفاً.
ومجمل ما يريد أن يقوله زكي قنصل في باب «ما لا يعجبه»، هو أنه لا تعجبه لهجة بعض مقالات سورية الجديدة، ولا تعجبه مبالغات بعض أعضاء الحزب السوري القومي، ولا يعجبه ما أساء فهمه عن نظر الحزب إلى الأدب. وكل هذا شيء شكلي، أما الشيء الأساسي الذي هو مبادىء الحزب وغايته فهو يوافق عليه كل الموافقة، ولكنه لا ثقة كافية له بنفسه ليثبت على ما أعلنه في قصيدته القومية، ولذلك هو يخبط على غير هدى في محاولته التوفيق بين إقراره بصحة رسالة الحزب وبين التمسك ببعض العلاقات والأغراض الخصوصية.
ولو كان زكي قنصل خبيراً بالمواضيع الاجتماعية أو النفسية، لوجد أنّ كثيراً من أسباب «البغض الشديد» عند بعض الناس للحزب السوري القومي كائن في الحالات النفسية الخصوصية، كالحسد وحب الأثرة، أو فـي أغراض خصوصية كالإبقاء على بعض المصالح المادية، أو الوصول إلى بعض هذه المصالح. أما الذين يبغضون الحزب على أساس «الخيالات» التي يشير إليها قنصل، فيبغضونه بتحريض ذوي المآرب والغايات الخصوصية الذين يثيرون في الغوغاء نعرات رجعية، ويؤولون له الحقائق تأويلاً لئيماً. وهذا ما حدث لرسالة الأنبياء من قبل فاضطهد أتباعها اضطهاداً شديداً في البدء. هكذا اضطهد الكتبة والفريسيون المسيح وأتباعه، وهكذا اضطهد حماة الكتبة القرشيون محمداً وأتباعه.