يظهر من تتبُّع ما نشره السيد زكي قنصل في عاصمة الجمهورية الفضية، أنّ هذا «الأديب الكبير» شعر بالمأزق الذي زجَّ نفسه به على غير هدى، فحاول التخلص إلى نتيجة تحول دون القطيعة بينه وبين زملائه «الأدباء الكبار» هنا في البرازيل، وفي غير مكان، وتظهره بمظهر الـمُجاري للنهضة القومية بعض المجاراة عن تفكير وإدراك واسع، فرأى أن يجيب على سؤال وجّهه إليه محرر جريدة الفطرة الإسلامية الصادرة في العاصمة المذكورة الخواجه سيف الدين رحال، الذي يريد إدخال الدين في كل أمر وفي جميع الشؤون القومية. وقد نشرت الجريدة الدينية المشار إليها جواب السيد زكي قنصل في عددها الصادر في 31 مايو/أيار 1940. وهو كما يلي:
«لا أخفي عليك، يا سيدي، أنّ الكتابة في موضوع (الحزب السوري القومي) من أصعب الأمور وأحرجها. ذلك لأن أعداء هذا الحزب - ولا استثنيك منهم - يريدون أن يقضوا عليه القضاء المبرم، ولو ذهب بين سنابك خيلهم من لا ناقة لهم في هذا الشأن ولا جمل. فإذا نحن لم نحمل على الحزب ونجرّده من كل حسنة، رُمينا بالخيانة والمروق واتُّهمنا في عقيدتنا القومية وأدمـجنا في سلك الذين يستخدمهم الأجنبي مطايا لأغراضه ومقاصده.
«فما علة هذا البغض الشديد الذي يضمره الكثيرون منّا للحزب؟
«الذي أراه أنه عائد إلى أسباب نفسية (سيكولوجية): نحن يا سيدي قوم عاطفتنا أقوى من عقلنا وأرهف سمعاً وأسلس قياداً. والدليل أنّ الأنبياء لم يروضوا جماحنا ويظفروا بحبنا واحترامنا إلا عندما خاطبونا بلغة القلب وسلكوا إلى نفوسنا سبيل العاطفة. وهل تعتقد أنك كنت تجد فينا من يذكر الله لو لم يغرنا بأطايب النعم، ويبهر أنظارنا بمحاسن الخلود وملذاته؟ والحزب السوري القومي لم يشأ أن يخاطبنا إلا بلغة العقل والمنطق. أفكثير إذا رميناه بكل شنيعة واتهمناه بالتآمر على سورية؟
«نحن، يا سيدي، نريد أن تكون الأقطار العربية كلها بلاداً واحدة، من حدود إيران شرقاً، إلى البحر الأبيض والقاموس الأطلسي (الأوقيانوس الأتلنتيكي) غرباً، ومن جبال الطور (طوروس) شمالاً، إلى القاموس (الأوقيانوس) العربي وجبال الحبشة والصحراء الكبرى جنوباً. هذه هي بلاد العرب كما نريدها. ولكن هل من الممكن تحقيق هذا الحلم الجميل في الوقت الحاضر؟
«الحزب السوري القومي يقول إنّ أفضل السبل هي أن ينظّم كل قطر من هذه الأقطار شؤونه الداخلية، ثم يهتم بعقد محالفات مع غيره تكون نواة اتحاد عربي قد يصير مع الزمن، إذا تآلفت الثقافات، وتقاربت العقليات، وتشابكت المصالح، وحدة شاملة أو قيلية (إمبراطورية) بالمعنى الذي نريد. وهذا الرأي يشترك فيه كثير من رجالات مصر وسورية والعراق وغيرها من الأقطار العربية. ولكن نحن لا نريد أن نفهم هذه الحقيقة الثابتة لأننا قوم خياليون.
«لقد بُلينا بنكبة الحكم الأجنبي. ونحن نعرف أنّ هذه النكبة هي نتيجة تفسّخنا الاجتماعي، وتفكك وحدتنا القومية، وتنافر معتقداتنا الدينية، أو ما نسميه معتقدات دينية، فكيف نعالج هذا الداء؟ لم نجد حتى الآن غير طريق واحدة: طريق الخيال، فنصيح: يجب أن نتحد، يجب أن نتحد، يجب أن نصبح كتلة واحـدة، يجـب أن يزول التعصب الطائفي، يجب أن يمحى، يجب أن تصير الاٴمـة صفاً واحداً تصد مطامع الغريب وتقف في وجه الفاتحين. وقد بحّت حناجرنا من الصياح، والأعجوبة لـمّا تحدث، وهذا شيء طبيعي، فعصر العجائب قد انقضى.
«أما (الحزب السوري القومي) فله في هذا الباب نظرة أعتقد أنـها الحل الوحيد لهذا المشكل الذي طال عليه الزمن، فهو يرى أنّ «تعلق المؤسسات الدينية بالسلطة الزمنية، وتشبث المراجع الطائفية بوجوب كونها مراجع السيادة في الدولة» هما أصل هذا الداء. إذن لا يجب أن يفصل الدين عن الدولة فقط، بل يجب أن يصير بين مختلف الطوائف والمذاهب صلات دم ورحم، فيتزوج المسلم بالمسيحية، والمسيحي بالمسلمة. عندئذٍ تزول أسباب الخلاف وتموت العصبيات الطائفية وتدرس النعرات المذهبية وتتقارب العقليات والنفسيات والثقافات، ولا يبقى للغريب حجة يبرر بها سيطرته وتحكّمه، ومدخل يتسرب منه لتمزيق صفوفنا وتحطيم قوانا.
«ولا أنكر عليك، يا سيدي، وإن كنت أعلم أنـي سأتعرض لصولاتك وجولاتك، أنّ هذا الرأي يدور في خلدي منذ سنين، وقد أعلنته في اجتماع صغير عقدناه من أكثر من سنة في بيت الصديق بديع الشيخ، وكان في المجلس الأخوان إبراهيم هاجر وقاسم عبدالله وسعيد مراد أو حمد مراد، وغيرهم ممن لم تحضرني أسـماؤهم في هذه الساعة.
«والحق أنّ هذه الفكرة قد توغر صدور الكثيرين من جميع الملل والنِحَل، وتجد جيوشاً جرارة من المقاومين والمحاربين. ولكن ما العمل وليس لنا غير هذا السبيل إن كنا نريد أن يكون لنا وطن حر مستقل يسنده شعب حر مستقل «وإرادة تملي فإذا هي القضاء والقدر» كما يقول رئيس الحزب السوري القومي؟
«قد تقول إنّ هذه الطريق تقودنا حتماً إلى الانحلال الديني. ولكن أليس أفضل أن يكون لنا وطن وليس لنا دين، من أن يكون لنا دين وليس لنا وطن؟ وأيهما أعز جانباً وأكرم عند الله والناس؟ الشعب الألماني الذي لا تربط بين أبنائه غير الرابطة القومية، أم الشعب اليهودي الذي لا يعرف غير الدين جامعة؟
«هذه هي النقط التي تعجبني في الحزب السوري القومي، أما ما لا أستحسنه فأمور أبسطها بالصراحة التي تحدثت فيها عن الأفكار التي أؤيدها:
1 - إنكاره الإخلاص والوطنية والفهم على كل من يعمل خارج نطاقه، كأن الإخلاص والوطنية والفهم وقفٌ على رجاله دون سائر الناس. وتبدو هذه الظاهرة بوضوح تام في جريدة سورية الجديدة التي يصدرها الحزب في البرازيل، فأنت لا تجد في كل عدد منها أكثر من مقالة واحدة خالية من التحامل والتهجم على الذين يجاهدون في الميدان الوطني خارج حظيرتهم.
2 - تضخيم أعمال الحزب وأخباره على الطريقة الإنكليزية المضحكة، فأعضاؤه حسب إحصاء السيد خالد أديب يبلغون الستين ألفاً، ثم يرتفع هذا العدد حتى يبلغ ثلاثمائة ألف، حسب إحصاء الأخ يوسف بهنا.
ولا مشاحة في أنّ زكي قنصل، الذي يطلب الشهرة عن هذه الطريق، يسجل على نفسه عدم فهمه شيئاً من السيكولوجية أو من حالة شعبنا النفسية الحاضرة. فنحن لسنا كما يقول: عاطفتنا أقوى من عقلنا. بل نحن، خصوصاً في أميركة، عقلنا المادي قد قتل كل عاطفة فينا. والسيد قنصل يبدي جهلاً فاضحاً للفرق بين النعرات والعاطفة وبين الشعور والعاطفة، وجهلاً فاضحاً للغة التي خاطبنا بها الأنبياء وجهلاً فاضحاً للغة التي يخاطبنا بها الحزب السوري القومي، لأن هذا الحزب لم يقتصر خطابه لنا على العقل والمنطق بل تناول الشعور والضمير أيضاً، وكذلك الأنبياء لم يقتصروا على «لغة القلب» والعاطفة بل استعملوا لغة العقل والمنطق أيضاً، وكما اصطدمت العقلية التي جاء بها الأنبياء بعقليات أوساطهم العتيقة كذلك اصطدمت العقلية الجديدة التي جاء بها سعاده بالعقلية العتيقة السائدة في سورية التي يظنها السيد زكي قنصل من طبيعة نفسيتنا، وليست هي كذلك.