بوينُس آيرس في 16 يوليو/تموز 1940 - لمراسل سورية الجديدة.
أرسل إليَّ صديق ورفيق في بوينُس آيرس بعض ما نشر عن الحزب السوري القومي في تلك المدينة، فوجدت بين المواد قطعتين نشرهما السيد زكي قنصل الذي ألقى، في أول مارس/آذار الماضي، قصيدة قومية جيدة الروحية حملت الكثيرين على الاعتقاد أنّ السيد قنصل قد صار قومياً بالفعل، فرأيت أن أكتب شيئاً في هذا الموضوع:
منذ أعلن أمر الحزب السوري القومي في حادث اعتقال الزعيم وأركان إدارته وظهرت خطورته للناس من خلال التحقيق والمحاكمة، حدث تشنج عنيف في نفسية الشعب السوري وفي نطاق واسع من النفسيات الفردية، واتقدت في صدور عدد كبير من الأفراد «المتنورين» نار الغيرة أو نار الحسد، كما جاء في كتاب إلياس فرحات إلى الزعيم، في الوقت عينه الذي اجتاحت فيه عواطف الإعجاب والإكبار نفوس مئات الألوف من الشعب. كل من أمسك مرة قلماً، وكتب مقالة تحمل أفكاره أو أفكار غيره، أو نظم قصيدة لا فرق بين أن تكون روحيتها وأفكارها من عنده أو من عند غيره، وذيّلها بإمضائه وأصبح «أديباً كبيراً» أو «شاعراً من فحول الشعراء»، ولم تكن له مناقب وأخلاق متينة تقيه الغرور صار يحسد سعاده «على خرقه النظم الطبيعية وبزوغ شمسه في منتصف ليل انحطاط أمتنا.» فسارع عدد منهم، في الوطن إلى اقتباس الأنظمة الشكلية للحزب السوري القومي، والادعاء أنـهم هم فكروا في إبداع حركة مثل حركة الحزب السوري القومي، مستندين إلى بعض أفكار أو أمانـي جزئية لاحت لهم في ظرف من الظروف. وقام آخرون يتصدون لمعارضة مبادىء الحزب السوري القومي ليقال إنهم أهل رأي ونظر، وليسوا بحاجة لأن يقودهم أنطون سعاده، مفضلين المكابرة والعناد والمراوغة على التسليم بالحقيقة.
جميع هؤلاء الذين ذكرتهم أخذوا يأتون المحاولة إثر المحاولة، ويهيمون في كل واد لإيهام الناس أنّ أنوار النهضة السورية القومية التي أنشأها سعاده لا تكسف «أنوارهم». وليس هنا المجال لتعداد محاولاتهم ووصف هيامهم وإعجابهم بأنفسهم. ولكن لا بد لي من ذكر بعض السوابق لبعض الحوادث الأخيرة التي حدثت في الأرجنتين.
كان لظهور الحزب السوري القومي وقعٌ عظيم في أوساط الجالية السورية في هذه البلاد، كما كان له وقعٌ عظيم في كل وسط سوري آخر. وكان من نتائج هذا الوقع في الأرجنتين أن اندفع نفر من الشباب، في مقدمتهم إلياس قنصل وزكي قنصل، لإنشاء ما أطلقوا عليه «عصبة الشباب السوري»، جرياً مع التيار الجديد ولو على غير هدى. ولكن «عصبة الشباب السوري» لم تعمر طويلاً فانفرط عقدها وتحوّل بعض أفرادها إلى هدف سياسي آخر.
في الخطاب الذي ألقاه الزعيم في حفلة أول مارس/آذار الماضي أبان كيفية وصوله إلى الأرجنتين، وقد نشر ملخص ذلك الخطاب في العدد الثالث والستين من سورية الجديدة (ص 20 أعلاه). وكانت قد سبقت الزعيم إلى الأرجنتين الإشاعات المغرضة عن توقيفه في البرازيل، وظهرت بعض حركات عدائية من أشخاص هنا يعملون لأغراض فخري البارودي. فكان من وراء ذلك أنّ بعض المتنورين أو «الأدباء الكبار» وقفوا بعيداً يراقبون ما يجري، وفي عداد الذين وقفوا هذا الموقف السيد زكي قنصل الذي مال إلى ممارسة النظم منذ مدة، ونظم عدداً مما يعرف في الاصطلاح بالقصيدة. فهو تهفو نفسه حيناً إلى النهضة السورية القومية، وحيناً يعود فيتشبث بسلوكية المجتمع اللاقومي المبلبل الذي نشأ فيه «أدبه». إنه أحد هؤلاء الذين يرغبون في السير إلى الأمام، ولكنهم يخافون ألا يسير الجمهور معهم. وبعد فزكي قنصل «أديب وشاعر»، فقد كتب مقالات ونظم قصائد، فهو لا يستطيع «المجازفة بمركزه» بهذه السهولة.
لـمّا وجد السيد زكي قنصل أنّ المبادىء السورية القومية تلاقي إقبالاً في أوساط الجالية في الأرجنتين، أراد أن يتثبّت من أنّ هذا الإقبال حقيقي، فكتب إلى الكاتب القومي الرفيق جبران مسوح يسأله: «أصحيح أنّ المتحد السوري في توكومان قد فهم رسالة سعاده؟»
ولـمّا اقترب أول مارس/آذار وشعر بتحرك أوساط الجالية في بوينُس آيرس للاحتفاء بمولد مؤسس سورية الجديدة وواضع قواعد نهضتها، نظم قصيدته التي نشرت في العدد 56 من سورية الجديدة وألقاها في المأدبة التي أقيمت على شرف الزعيم. وقد كانت قصيدة زكي قنصل خروجاً على التردد والغموض إلى الصراحة واليقين، فهو فيها سوري قومي يقول بنهضة سورية وبزعامة سعاده. وفيها هذه الأبيات التي لا تبقي مجالاً للشك:
نــهضت ســـوريا يــقـــود إلى الــمــجـ
د خــــطــــاها زعـــيــمــهـــا الجبــــار
يـا زعــيــمـــاً تــرنــو الــقــلـوب إلــيــه
بــــخــشــوع وتــنــتـــهـــي الأنــــظــــــــــار
عــقـــدت ســـوريــة عــليــك رجــاهـا
واســتــظــلّــــت بـــــــرأيــــــــــك الأحـــــــــــــــــرار
إيـــــــه آذار مــــــا ذكـــــرنـــــــاك إلا
صــفّـــق المجد واشــــــــــرأبّ الــفــخــــار
أنــــــت تــــــــــاريــــــــــخ أمــــــــــة أيــــــقـــــــظــــــتــــــهــــا
من كـهـوف الـونـى خـطـوبٌ كــبــار
أنت فـــجـــر تـــلا مـن الجهـــل لـــيــلا
عـشــيت في ظـــلامــــه الأبــــــصــــار(1)
هذه الأبيات الصريحة حملت بعض القوميين على الاعتقاد أنّ زكي قنصل قد ترك عنعنات البيئة اللاقومية المريضة، وانضم بالفعل إلى صفوف الذين صاروا أمة واعية «يقود إلى المجد خطاها زعيمها الجبار». والظاهر أنّ بعض هؤلاء القوميين اعتقدوا أنّ زكي قنصل مخلص ويعني ما يقول، فإذا بالسيد زكي قنصل يعود أدراجه وينشر في جريدة السلام بتاريخ 4 مايو/أيار الماضي هذا «الإيضاح»:
«كتب إليَّ أديب من إخواننا في البرازيل أنّ صديقاً له في الأرجنتين نبّأه بأنـي قد أصبحت عضواً في الحزب السوري القومي، وبوقاً من
(1) الـخ.
(2) عُدِّل تذييل هذه السلسة استناداً إلى رسالة الزعيم إلى جورج بندقي في 31/7/1941.