بوينُس آيرس في 21 يوليو/تموز 1940 - لمراسل سورية الجديدة
كان لاهتمام الزعيم برفع مستوى الجوالي السورية الثقافي، وتوليد نهضة سورية ثقافية في المهجر، نتائجه المثمرة. فقد تـهيأت الأوساط القومية لتأسيس «الجمعية السورية الثقافية» كما ورد مكرراً في رسائل ماضية. وأخيراً تمَّ تأسيس هذه الجمعية التي هي الأولـى من نوعها في المهجر، في الثامن عشر من شهر يونيو/حزيران الماضي. وإني أضم النشرة التي أذاعتها إدارة الجمعية إلى هذه الرسالة ليصير نشرها )إنّ النشرة المذكورة قد نشرت في العدد الماضي من سورية الجديدة).
ما إن ذاع خبر تأسيس هذه الجمعية حتى سرت في أوساط الجالية السورية موجة ارتياح. وسمعت كثيرين يقولون «الحمد لله. قد ابتدأ مجموعنا هنا ينظر إلى الأمور الكلية ويحوّل نظره عن الشؤون الجزئية المفككة. وقد بدأ عندنا الشعور بالاتحاد الشعبي. إنّ هذه الجمعية ليست مارونية ولا أرثوذكسية ولا سنية ولا شيعية ولا علوية ولا درزية ولا لبنانية ولا شامية ولا فلسطينية، ولا شيء من هذه الجزئيات المبعثرة التي فسّخت حياتنا وبلبلت أفكارنا ومعتقداتنا، بل هي جمعية سورية، وغرضها توليد نهضة ثقافية نفسية وبدنية، أي هي جمعية لجميع السوريين من جميع البقاع السورية ومن جميع المدن ومن جميع النِحَل. فأهلاً بهذه النهضة الموحدة المباركة.»
الحقيقة أنّ تأسيس الجمعية السورية الثقافية هو أعظم حادث اجتماعي جرى منذ بدء الهجرة السورية حتى اليوم. ولا بد من القول إنّ الجمعية لا تزال في طورها التأسيسي، وهي الآن ساعية لاستئجار مكان صالح لإنشاء مكتبة وغرفة قراءة وغرفة لعب الشطرنج، ويكون فيه بهو واسع للاجتماعات والمحاضرات وإقامة الحفلات.
والجمعية تعلم أنـها في بادىء الأمر لا تستطيع أخذ بناء فخم، وأنّ فخامة البناء ليست أمراً هاماً لها، بل الهامّ مكان صالح لممارسة الأعمال الثقافية. ويُقدَّر أنـها بعد بضعة أيام ستستأجر مكاناً مناسباً. وحالما ترتب الجمعية شؤون المكان والتنظيمات الأولية، يشرع الزعيم في إلقاء سلسلة محاضرات في تاريخ سورية وموقعها ومزيجها الإتني ووضعيتها السياسية.
خيانة خالد أديب وطرده
لم أرسل إلى سورية الجديدة في الأسبوع الماضي غير نسخة من بلاغي مكتب الزعيم، المتعلق أحدهـما بخالد أديب وتجريده من رتبة الأمانة. وكنت قد حاولت الوصول إلى جميع الحقائق التي أدت إلى تجريده من رتبته، إذ لا بد أن تكون أخطاؤه خطيرة. فالزعيم معروف بطول أناته وصبره واجتهاده في إصلاح كل من ينضم إلى الحركة القومية، باعتراف خالد أديب نفسه الذي صرّح في حفلة الجامعة الطرابلسية في يوليو/تموز سنة 1939، أنّ كل ما فيه الآن من نور وكل أفكاره القومية التي بها صار رجلاً، إنما هي قبس من روح الزعيم وفكرته.
لم يشأ الزعيم، ولا أحد من المقربين إليه، الإدلاء إليَّ بمعلومات عن مسألة خالد أديب، لأن الزعيم أراد إبقاءها مسألة حزبية داخلية. ولكن خالد أديب لم يكن ذا أخلاق كافية تحمله على السلوك مسلك الرجال. فقد دفعه فشله التام في الحزب إلى الالتجاء إلى خداع الرأي العام الذي لا اطّلاع له على أمور الحزب الرسمية والداخلية، فاتفق مع المطرود المدعو حسني عبدالمالك المستخدم بصفة كاتب في جريدة السلام على إظهار مثالب عقليتهما، ونشر في عدد الجريدة المذكورة الصادر في 18 يوليو/تموز الجاري كتابة فضحت مراميه الأثيمة المستترة. فادعى أنه ذو رأي سياسي، وأنه كان «على خلاف سياسي مع الزعيم»، مع أنّ جميع دوائر الحزب وجميع الذين اتفق لخالد أديب الاتصال بهم يعلمون أنّ الرجل عديم الفهم والاطّلاع السياسيين، وأنّ كل ما يتحدث به هو ترديد لما قاله الزعيم مئات المرات في أحاديثه وخطبه.
وقد أدى ما نشره خالد أديب إلى إصدار الزعيم مرسوماً بطرده من الحزب وعدّه خائناً، مع عدم تعطيل حقوق المحكمة الحزبية في ملاحقة قضيته وإصدار الأحكام التي تراها واجبة بحقه.
وقد أرسل الزعيم إلى جريدة السلام بياناً هذا نصه:
«حضرة محرر السلام المحترم
«نشرت جريدتكم في الصفحة الأولـى من عددها 3689 الصادر في 18 يوليو/تموز 1940 كتابة للسيد خالد أديب تحت عنوان «للحقيقة والتاريخ». ولـمّا كنتم قد أعلنتم في مقدمتكم للكتابة المذكورة أنكم تنشرونها عملاً بواجبكم تجاه القرّاء، ولـمّا كان ما ورد في هذه الكتابة يتعلق بي وبالحركة القومية، فأسألكم إجابة نداء الواجب المذكور ونشر هذا التصحيح والإيضاح في الصفحة الأولـى من أول عدد يصدر من جريدتكم، خدمة للحقيقة وتنويراً للقرّاء.
«جاء في المقدمة لكتابة السيد أديب (وهي من قلم التحرير) أمور رأيت أنـها غير مضبوطة وهذا ضبطها:
«إنّ السيد خالد أديب دخل الحزب السوري القومي في طرابلس بعد أن مرَّ على تأسيس الحزب لا أقل من سنتين، وبعد أن كانت تأسست في طرابلس إدارة مركزية على رأسها الدكتور سميح علم الدين. وحين اكتشاف أمر الحزب وإلقاء القبض على الزعيم والأركان أولاً، ثم على عدد كبير من الأعضاء، أوقف خالد أديب في طرابلس بضعة أيام فقط. ولم يكن له أي اتصال بالزعيم مباشرة إلا مؤخراً في بعض مهمات ثانوية تتعلق ببعض الأشخاص. ولم يكن من الذين حملوا مسؤوليات سياسية إلا في بعض المديريات وفي منفذية طرابلس لمدة قصيرة. ومنفذية طرابلس لم تكن مسندة إليه بل إلى مصطفى خالد المقدم المشهورة مواقفه. وليس خالد أديب ناموساً خاصاً بالزعامة ولا مكلفاً من قبل المجلس الأعلى كمعتمد ولا كشيء آخر. وكنت قد ألحقته بمكتبي في بدء الرحلة بوظيفة ناموس من درجة ثانية، ثم عزلته لتقصيره ولمسؤوليته في حادث التوقيف في البرازيل ولإساءته التصرف، وهو الآن ليست له أية وظيفة، وقد خسر رتبة الأمانة التي مُنحها لأسباب مدونة في سجلات مجلس العمد والمجلس الأعلى ثم خسرها بناءً على ظهور قصوره ومسؤوليته.
«أما ما كتبه السيد خالد أديب نفسه، الذي أصبح مطروداً من الحزب، ليستر فشله، فهو كلام مقصود منه تأويل الحقيقة وتحريف النصوص وتشويش الحوادث لمصحلته. فهو لم يكن مرة من الرجال الذين لهم دخلٌ في سياسة الحزب أو إدارته العليا، وليست له في الحزب أو في أية دائرة من دوائره آراء سياسية. وهو لم يكن له معي أي حديث سياسي، ولا يسمح له شأنه ومركزه أن يكون له معي تبادل أحاديث وآراء سياسية.
«وأما ادعاؤه أنـي كتبت إليه بعد خروجي من الوطن، وأنه هو سعى وعمل وأرسل مالاً، فهو كلام ملفق. إني خابرت المنفّذ العام للشاطىء الذهبي الذي كان أسد الأشقر، والمال الذي تسلمته لنفقات الرحلة من منفذية الشاطىء الذهبي كان من المنفذ العام، أو من ناموس المنفذية رفيق الحلبي. وفي سجلات مكتبي الوثائق المتعلقة بهذه الحقيقة وهي تنفي كل ادعاءات خالد أديب الباطلة.
«إنّ الوثائق التي في حوزة الإدارة بخط خالد أديب وإمضائه تثبت ما يلي:
1 - إعتراف خالد أديب بأنه كان يغش الزعيم ويكذب عليه.
2 - إثبات بخط يده لمسؤوليته في حادث توقيف الزعيم في البرازيل.
3 - تبلّغُه، تحت توقيعه، فصله عن مكتب الزعيم في 13 يونيو/حزيران 1939.
4 - إفادة بتوقيعه تثبت عدم فهمه مهمة الرحلة والعمل المطلوب.
5 - وثائق أخرى مالية وغيرها تثبت سوء أمانته.
«وجميع هذه الوثائق يمكن لأيّة هيئة صحافية أو غيرها أو لأيّة شخصية لها وزنها طلب الاطّلاع عليها.
«هذه الحقائق البسيطة تعطي البيان الكافي عما يكتبه السيد خالد أديب.
«وتفضلوا بقبول سلامي واحترامي.»
في 19 يوليو/تموز 1940 «التوقيع»
وبما أنّ خالد أديب لجأ إلى المطرودين وإلى الإعلان والتأويل، فقد أجاز لي المقربون إلى الزعيم الاطّلاع على الحقائق التي أعلنها الزعيم في السابع من يوليو/تموز الجاري، حين شرح رحلته وأعلن تجريد خالد أديب من رتبته وغيرها من الحقائق المتعلقة بخالد.
والظاهر أنّ خالد أديب كان يخبىء في صدره فكرة خصوصية يحاول تحقيقها بصحبته للزعيم. ومتى علمنا أنه خالف سنة 1937 تعليمات الزعيم، وسافر إلى أفريقية لكي يتجنب عاصفة الانتخابات النيابية في لبنان، وما قد تجرّه من ذيول يصيب الحزب السوري القومي شيء من مساوئها ونتائجها، وأنه لم يعد إلى وضع نفسه ضمن النظام إلا بعد أن خسر الرأسمال الذي كان أبوه قد أعطاه إياه ليشتغل مع أخيه في أفريقية الغربية. والمنفّذ العام السابق للشاطىء الذهبي الرفيق أسد الأشقر كان قد كتب إلى الزعيم يقول: «إنّ خالد أديب قد خسر في تجارته ويقصد الرجوع إلى الوطن»، وعلمنا أنه هو أرسل يعرض على الزعيم أن يرافقه وأسد الأشقر في رحلته، بدلاً من رئيس مجلس العمد وعضو المجلس الأعلى الأمين نعمة ثابت وعضو المجلس الأعلى الأمين معروف صعب، مغرياً أسد الأشقر بالجاه الذي يمكن اكتسابه من مرافقة الزعيم ليحمله على القيام بنفقته أثناء الرحلة - متى وقفنا على كل ذلك ابتدأنا نتصور أنّ خالد أديب رمى إلى غاية خفية من وراء مرافقة الزعيم. ومتى علمنا أنّ الزعيم لم يسلّم باصطحاب الرفيق أسد الأشقر وخالد أديب إلا بعد أن وجد أنّ معاملات الأمينين نعمة ثابت ومعروف صعب تلاقي صعوبات من قبل السلطة، وتقتضي بعض الوقت لترتيب الوضعية أثناء غياب رئيس مجلس العمد، أدركنا أنّ الزعيم، وإن كان يميل إلى تقريب الرفيق أسد الأشقر إليه ليدرس مواهبه ويعطيه التوجيهات المفيدة له، فهو لم يكن يعوّل على خالد أديب قط. ويعلم الجميع أنّ الزعيم وصل إلى البرازيل وحده، مريضاً مُعياً، وأنه ما كاد يصل الرفيق أسد الأشقر وخالد أديب إلى البرازيل حتى أصدر الزعيم قراراً بإلحاقهما بمكتب الزعيم بصفة ناموسين لشؤون الرحلة فقط. فعيّن أسد الأشقر ناموساً أولاً ومتسلماً مكتب الزعيم، وعيّن خالد أديب ناموساً ثانياً، وكلاهما من درجة ثانية. ثم انتقل الزعيم من الفندق إلى بيت أخته في ضاحية «ايبرنغا» بعد أن أفهم الناموسين وضعية البلاد ووجوب الحذر، متى نشطت الأفكار من سعاية السعاة.
لم يكن الزعيم يستطيع الإشراف على الأعمال التي يقوم بها مرافقاه بسبب مرضه، وجميع الذين زاروه في بيت أخته كانوا يرون دلائل الضيق والإعياء اللذين كان يتألم منهما، فسار الناموسان الجديدان على هواهما وسلّما قيادهما إلى شخص يدعى جميل صفدي كان يُظهر إلحاحاً غريباً في الاقتراب من مكتب الزعيم، وحذّرهما الزعيم من فضوله.
وكان خالد أديب ينتهز الفرص ليروي للزعيم وللرفيق أسد الأشقر حكايات «ملاحظاته»، ويتظاهر بأنه يفوق جون سنكلر وشرلوك هلمز بدقة ملاحظاته. أما الزعيم فكان مرضه يمنعه من القبض على زمام الأمور، وأما أسد الأشقر فكان يصدق الشيء الكثير من فصول خالد أديب «الدنكيخوطية». ولكن الزعيم لاحظ من سؤالاته للناموسين، أنّ العمل لا يسير كما يرغب، فطلب من متسلم مكتبه وضع تقرير بالاشتراك مع الناموس الثاني بجميع الأشخاص الذين يتصلون بهما، وتعيين ما يقدّران أنّ كل واحد منهم يقدر على القيام به في الحركة القومية. فلم يفهما ما قصد الزعيم فوضعا تقريراً أخطآ به القصد وأساءا إلى بعض أصدقاء الزعيم من وجهاء الجالية وكبار أدبائها، وقدَّما إلى الزعيم القسم الأول منه وأبقيا القسم الثاني معهما. ولم يتمكن الزعيم من النظر في هذا التقرير لأن حالته كانت شديدة.
أخيراً وجد الزعيم نفسه مضطراً لأن يكون تحت معالجة دقيقة بالأشعة فوق البنفسجية لتهدئة حالته العصبية. وفي هذه الحالة أوقف بوشاية بعض السوريين الذين زيّنوا لإدارة الشرطة في سان باولو أنّ الزعيم يعمل لحساب ألمانية وإيطالية. وقد عرف الزعيم، بعد أيام على توقيفه، باعتراف أسد الأشقر، أنه وخالد عرفا أنّ أحد رجال التحري جاء يبحث عن الزعيم، وأنـهم أوقفوا رجلاً سورياً يدعى أنطون سعد لتشابه اسمه واسم الزعيم، وكان ذلك قبل حصول التوقيف ببضع ساعات. واعترف خالد أديب بأن هذا الأمر صحيح. حينئذٍ رأى الزعيم أنّ الأمر ليس بسيطاً، وأنّ هنالك تبعة عظيمة الخطورة تقع على الناموسين ولكنها تقع بالأكثر على خالد أديب، الذي منحه الزعيم رتبة الأمانة وهو في أفريقية بناءً على طلب رئيس مجلس العمد الأمين نعمة ثابت، لأسباب موجودة في سجلات الدوائر العليا، والذي اختبر في الوطن شؤون التحري، وكان يتبجح بأنه أقدر من مدير «اسكطلند يارد». وللحال أوضح الزعيم في سجن التوقيف للناموسين خطورة التبعة الملقاة عليهما، وأخبرهـما أنّ قضيتهما تستحق أن يحالا على المحاكمة أمام محكمة حزبية عليا. فحالاً امتقع لون خالد أديب وأخذ يحلف أنه أمين للزعيم حتى الموت، وشرع يبكي والدموع تهطل من عينيه، ولا بكاء امرأة أسقط في يدها.
ومما لا شك فيه أنّ خطورة أمر توقيف الزعيم عظيمة، خصوصاً والزعيم كان في حالة مرض فتعرضت صحته لخطر عظيم. وقد خرج من التوقيف في حالة تدعو إلى عناية دقيقة. هذا فضلاً عن خطورة ترك أوراق مكتب الزعيم للوقوع في أيد غريبة.
حين وصل الزعيم إلى الأرجنتين كان لا يزال في حالة صحية دقيقة ولكنه لم يشأ تعريض نفسه مرة أخرى، وتعريض الرحلة للفشل، فأصدر في 13 يونيو/حزيران 1939، أي قبل مرور شهر على قدومه إلى الأرجنتين مرسوماً بفصل الرفيق أسد الأشقر وخالد أديب عن مكتبه وإقالتهما من وظيفتهما فتبلغاه ووقعاه. والمرسوم محفوظ في سجلات مكتب الزعيم وعليه توقيع خالد أديب وأسد الأشقر. ثـم إنّ الزعيم عيّن الرفيق أسد وكيلاً عاماً لمكتب عبر الحدود في الخارج، فسافر ليقوم بمهام وظيفته الجديدة وأصدر قراراً بإلحاق خالد أديب به بصفة «معاون» ريثما يتمكن من العودة إلى الوطن ووضع نفسه تحت النظام هناك. وهذه الوظيفة ذات صفة وقتية، أو هي ليست وظيفة ثابتة في الحزب، وقد أصدر الزعيم إلى خالد أديب تعليماته أن يسافر «حالما يستحصل على الإمكانيات اللازمة.»
ولم يشأ الزعيم أن يكون قاسياً مع من عرّض حياته للخطر مع سابق علمه به، فأبقاه معه في غرفته يقاسمه المسكن والطعام فبقي خالد أديب برفقة الزعيم وظل يتظاهر بأنه ناموسه، ولكنه لم يأتِ عملاً غير التحدث إلى من يتفق أن يلتقي بهم في بوينُس آيرس عن فكرة الحزب، وغير قصّ الأقاصيص المختلقة عن بطولته.
تساهل الزعيم مع خالد أديب ما أمكن التساهل، ولكنه لم يغفل الحصول على الوثائق المتعلقة بحادث التوقيف، فأمر أسد الأشقر وخالد أديب برفع تقريرهما عن الحادث المذكور، وبأن يشرح كل منهما كيف بلغه الخبر الأول عن سعي التحري، وماذا عمل بعد علمه بذلك. فرفع خالد أديب تقريره إلى الزعيم في 24 مايو/أيار 1939 وهو بخط يده وبصفته ناموساً ثانياً في مكتب الزعيم وبتوقيعه، ورفع أسد الأشقر تقريره بخط يده وتوقيعه في 29 مايو/أيار 1939، فأضافهما الزعيم إلى التقارير التي طلبها من القوميين الذين شهدوا الحادث في سان باولو، وربط الجميع في إضبارة واحدة.
لم يشأ الزعيم أن يحيل الرفيق أسد الأشقر وخالد أديب في الحال على المحاكمة، لأنه أراد أن يعطيهما فرصة للتفكير. اٴما أسد الأشقر فقد كان ظاهراً أنّ خطأه كان لعدم خبرته، إذ هو دخل الحزب في أفريقية الغربية بواسطة الرفيق رفيق الحلبي، ولم يتسنَّ له الاطلاع عن كثب واختبار معارك الحزب والتمرن على دقة النظام والمسؤولية. وقد أظهر استعداداً للتعويض بالعمل كوكيل لمكتب عبر الحدود. وأما خالد أديب فقد رأى، تنفيذاً لخطته المرسومة، أن يلازم الزعيم ما أمكن طمعاً بالشهرة وبالوصول إلى تنفيذ أمر ستنظر فيه محكمة الحزب العليا.
منذ مدة ابتدأت تظهر أدلة جديدة على ما يمنّي نفسه به خالد أديب، إذ صار يجتمع كثيراً ببعض الرجعيين المتعصبين الذين قالوا له: «إنّ الحكم في بلادنا كان دائماً لنا نحن المسلمين السنيين، فلماذا لا تكون أنت الزعيم؟» وقد خدعت بساطة هؤلاء الأشخاص خالد إلى درجة أنه أخذ يجرّب تقليد الزعيم في جلسته، حتى روى شاهد أنه صار يقف ساعات أمام المرآة يتمرن على تقليد الزعيم بتقطيب حاجبيه ونظراته!!!
ومما لا شك فيه أنّ المرء يحتاج إلى مقدار كبير من السخافة ليصدق أنه بمثل هذه الوسائل الصبيانية أو القردية يصير ذا شأن في حركة قومية تحتاج إلى رجال أفكار وأعمال لا خاملين مقلدين.
وقد شهد شهودٌ أنّ خالد أديب كان يسبب للزعيم، أثناء مرضه، عذاباً أليماً بتصرفه، خصوصاً حين أهـمل تنفيذ تعليمات الزعيم المتعلقة بالسعي للاستحصال على شهادة من السلطة الأرجنتينية بمدة الإقامة التي مضت لترسل إلى المحكمة العسكرية في بيروت لتبرئة أركان الحركة الموقوفين هناك، فهو كان كل يوم يخدع الزعيم بقوله ذهبت إلى محل كذا ويجب انتظار كيت، حتى قام الزعيم واتصل بنفسه بالسيد يعقوب غطاس فوجد أنّ خالد أديب كان يخدعه ويغشه في ما يقول. وهذا الأمر أضاف دليلاً جديداً على مقاصد خالد أديب الخفيّة!
الآن قد اتضح لكل بصير أنه لو كان خالد أديب مخلصاً وصادقاً في ما يدعي، لكان لجأ إلى الطرق الحزبية القانونية، إما إلى المحكمة الحزبية وإما إلى بعض المراجع العليا، ولـمّا كان لجأ إلى مخاطبة من لا يعرفون شيئاً من دخائل الأمور، فإذا كان على حق فدوائر الحزب تنظر في الأمر وتنصفه. ولكن خالد لم يسعه إلا الاعتراف بكل ما ذكره الزعيم أمام نـحو أربعين أو خمسين من القوميات والقوميين عن تصرفه، وبأنه كان ينتحل أقوال الزعيم وأفكاره ليظهر بـمظهر المفكرين أصحاب الآراء.
قد ذهب خالد أديب في طريق الخائن جورج حداد مقتفياً خطواته خطوة خطوة، ومستعملاً الطرق والوسائل عينها التي استعملها جورج حداد الذي انتهى به الأمر إلى الإجرام، واقتلع أذن العميد الأمين جورج عبدالمسيح حين انتزع منه هذا الأخير المسدس الذي شهره عليه وخبر هذه الحادثة مشهور. وقد انضم خالد أديب الآن إلى المطرودين هنا حسني عبدالمالك وجبران سابا فليهنأ بهما. وليتعزَّ بأنه ليس أول خائن ولا آخر خائن نال رتبة أو كلّف بوظيفة. ولم يكن يوضاس آخر من ينزل التاريخ ملعوناً لأنه خان معلمه وزعيمه!
كان المنتظر أن يصدر إيضاح الزعيم في جريدة السلام يوم أمس ولكنه لم يصدر، وقد بلغني أنّ حسني عبدالمالك وجبران سابا قد اتفقا مع صاحب الجريدة على فائدة، لأن صاحب الجريدة قال للذي جاءه برسالة الزعيم إنه «لا يجوز له» أن ينشر شيئاً قبل أن يفرغ من نشر ما يطلب نشره خالد أديب وحسني عبدالمالك الذي يساعد خالد أديب على لغته.
بقي أن أشير إلى أنّ التقرير الذي طلبه الزعيم من الناموسين وقع مع أوراق مكتبه في أيدي التحري، وحمله التراجمة إلى الذين يمسّهم كلامه،
فسبّب ذلك استياء شديداً، لم يبدده فيما بعد سوى وجود مذكرات الزعيم التي تشير إلى بعض الشخصيات التي يمسّها التقرير بكلام فيه التقدير لهذه الشخصيات. أما عبارات التقرير فمستقاة من معلومات جميل صفدي، يؤيدها غرور خالد أديب الذي كان يقلّد الزعيم في وقاره علناً، ويسخر بكل شخص وكل شيء عندما يخلو بمن يثق بكتمانهم. وقد كان قصد جميل صفدي ومن هو وراءه إيقاع العداوة بين الزعيم وعدد من الشخصيات، وكان خالد أديب يبذل جهده لتحقيق غرض جميل صفدي لينال هو مآربه. وفي مكتب الزعيم كتب من جميل صفدي يقول فيها إنّ أخاه أصبح على يقين من أنّ السيد باسيل يافث هو الذي أرسل الوشاة إلى دوائر التحري السياسي ليقدموا لها تلك الوشاية الدنيئة، ولكن الزعيم لم يُجِب على هذه الكتب وأبقاها لتدل على مآرب صاحبها.
رواية «في سبيل التاج»
كان القوميون الذين عزموا على إنشاء «الجمعية السورية الثقافية» قد باشروا منذ بضعة أشهر التمرن على رواية «في سبيل التاج» ليدشنوا بتمثيلها أعمال الجمعية الفنية. فما إن درى بالأمر بعض الناس وبلغ الخبر صاحب الاتحاد اللبناني و«الجامعة المارونية اللبنانية» حتى ابتدأت هذه الجماعة تسعى للحصول على نسخة من هذه الرواية لتزاحم عليها الشباب القومي وتفسد مشروعهم. ويقال إنهم دفعوا لزكي قنصل مبلغاً ليحصل على نسخة، فانضم إلى الشباب القوميين وأخذ دوراً في الرواية، وتظاهر بأنه يريد نسخ أدوارها لكل مـمثل، فلما أتـمّ نسخ الرواية إنسحب من التمثيل!