حضرة محرر سورية الجديدة المحترم
توقعتُ، وأعتقد أنّ مئات من السوريين المنتشرين في أميركة، الذين يهمهم مصير شعبهم ويتجهون بأنظارهم إلى الحزب السوري القومي، ليكونوا على بيّنة من أمر هذه الحركة التي نبّهت الشعب السوري من رقاده الطويل، توقّعوا أن يطالعوا في رسائل مراسلكم في بوينُس آيرس ملخصاً ولو بسيطاً لأهم النقاط التي عالجها الزعيم في خطبته العظيمة ليل أول مارس/آذار. وكم كانت خيبتي عظيمة عندما مرَّ العدد الأول والثاني والثالث على حفلة أول مارس/آذار دون أن أجد غير وصف المراسل لتأثير الخطبة على الشعب، وغير النعوت التي أُسبغت على الخطبة وهي لا تغني القارىء والرأي العام عن الوقوف على ما فاه به هذا الرجل الخطير الذي لم يلقِ في كل تاريخه السياسي كلاماً جزافاً، ولم يقلْ قولاً ينحصر معناه في مكان أو في مناسبة. فكل ما يقوله سعاده يهم الشعب السوري كله، لأن كلام سعاده أجزاء متصلة تكوّن كلاًّ يظلُّ ناقصاً إذا فُقِد بعض أجزائه.
إني أقدّر صعوبة موقف المراسل، إذ الزعيم يرتجل خطبه ارتجالاً. وهو أحياناً يتدفق في خطبته تدفُّق العرم. ولكن صعوبة تسجيل الخطبة كلها لا يمنع من التقاط أهم نقاطها ليطّلع الشعب السوري على موقف زعيم نهضته القومية. لذلك آليت أن أضع ملخصاً لخطبة الزعيم كما وعيتها منه وأرسله إليكم، لكي لا يُحرم السوريون القوميون والسوريون عموماً من سماع كلمة زعيمهم في مثل هذا الموقف:
كان الوقت قد جاوز الساعة الواحدة بعد نصف ليل أول مارس/آذار حين وقف الزعيم للكلام. وكان الجمهور قد أخذ منه السهر وأصبح في حالة ردّ فعل لحرارة الخطب والقصائد التي حرَّكت شعوره عدة مرات.
نهض الزعيم فعلا هتاف القوميين لسعاده، فرفع الزعيم يده إجابة على تحية القوميين. وكان وجهه هادئاً رصيناً فيه كل معاني الثقة بالنفس وفي نظره قوة أمل النهضة القومية وعزم الأمة السورية الناهضة. ولكن ليس هذا فقط ما يظهر على وجه الزعيم، بل يظهر ظل من ألم شديد يمازج هذه المعاني العظيمة الظاهرة على محياه.
إنّ الصدف ساعدتني على رؤية صور للزعيم وهو يخطب في بعض رحلاته في المناطق القومية في الوطن. فلم أكن أرى في وجهه غير دلائل النشاط والقوة والعزم والثقة بالنفس والاعتزاز. والظاهر أنّ السنين الثلاث الأخيرة قد أضافت إلى مجالي وجه الزعيم ظلاًّ من الألم النفساني والجسدي. والشيء العظيم في وجه الزعيم هو أنّ كل الآلام التي أفاء ظلها على وجهه لم تمحُ دليلاً واحداً من الدلائل التي ذكرتها.
بعد أن رفع الزعيم يده بتحيته هدأت عاصفة الهتاف وشخصت الأبصار وأنصتت الآذان. فبدأ الزعيم الكلام بصورة جازمة.
أشار الزعيم في بدء كلامه إلى هذا الاجتماع في حفلة أول مارس/آذار وعدَّه فتحاً جديداً يضاف إلى فتوحات الحركة التي يقودها. ثم قال: «إنّ الحركة السورية القوميَّة تمثّل إرادة الأمة السورية في الحياة. وإنّ هذا الانتصار الجديد للحركة السورية القومية الممثَّل في هذه الحفلة إنما هو دليل على أنّ قولي إنّ الحركة السورية القومية هي إرادة الأمة السورية التي لا تردّ، لم يكن عبثاً. إنّ انتصارنا هنا لتثبيت لقولي: إنّ في إرادتنا القضاء والقدر.»
وقد أوضح الزعيم كيف يُعدّ هذا الاحتفال بعيد مولده انتصاراً للنهضة السورية القومية في المهجر فقال: إنه لا يتصوّر هذه الحفلة أُعدَّت لشخصه مجرّداً عن التعاليم السورية القومية وعن الحركة السورية القومية، بل هو موقنٌ أنها أُعدَّت لشخصه من أجل تمثيله التعاليم والمبادىء السورية القومية، ومن أجل أنه يقود الحركة السورية القومية.
وزاد الزعيم الموقف وضوحاً من هذا القبيل فأشار إلى أنّ المجتمعين لإكرامه ليسوا أصدقاء خصوصيين له. فهو لم يعرفهم إلا عن طريق رسالته القومية.
«قدمتُ الأرجنتين غير معتمد على معرفة أحد ولا على أعمال تمهيدية. فلما وطئت قدماي مرفأ بوينُس آيرس لم يكن هناك أحد لاستقبالي. لم يأتِ سوري واحد لملاقاتي والاهتمام بأمر القضية التي جئتُ من أجلها. ولكني لم أكن في ذلك الموقف أقلّ ثقة بالنصر منها في هذا الموقف، وقد انتصرتُ.
«إنّ عناصر الرجعة في الجالية السورية في الأرجنتين كانت عالمة بقدومي. وبلغ الأوساط السورية هنا موعد وصولي. فتألبت عناصر الرجعة وقرَّرت الوقوف جبهة واحدة ضدّي، وأقامت من إشاعاتها وتهويلها سدّاً بين الجالية وبيني، وقالت إنّ سعاده لن يعبر. وها قد عبرت.»
عند هذا الحدّ تعالى هتاف القوميين وتصفيقهم، ولا أعتقد أنه بقي أحد لم تأخذه روعة الموقف. وتابع الزعيم كلامه:
«كنتُ حين وصولي، والأرض قفر أمامي، واثقاً من انتصار القضية القومية هنا، كما كنت واثقاً من انتصارها في الوطن وفي كل مكان آخر، على الرغم من جميع الصعوبات والعراقيل التي تعترض سيرها.
«كنتُ واثقاً من الانتصار على ما أقامته الرجعة هنا في وجهي من سدود، لأني لم أعتمد قط على وساطة أحد بيني وبين الشعب. فكل أفكاري وأقوالي وخططي وأعمالي تنشأ على قاعدة صلة ضميري بضمير أُمتي. وبما أنّ اعتمادي هو على وجداني ووجدان شعبي فقد استغنيت عن ذوي الضمائر الميتة!»
هنا اشتدَّ الهتاف «يحيا سعاده» ودام التصفيق مدة حتى قطعه الزعيم بعودته إلى الكلام:
«في الوطن أيضاً وجدت السبل مسدودة في وجهي حين عودتي من المهجر لأضع القواعد الأساسية لنهضة أمتي، ولأجد الطرق العملية لسير شعبي نحو الحياة المجيدة. جميع أراخنة السياسة والاجتماع كانوا مجمعين على أنه لا فائدة من فعل شيء، وأنه لا تقوم للأمة السورية قائمة. في ذلك الوقت وتجاه هذه الصعوبات لم أكن أقل ثقة بنهضة أمتي مني بعد نشوء النهضة السورية القومية بالفعل (هتاف وتصفيق شديدان).
«كما كنت مؤمناً بالانتصار في الوطن، كذلك كنتُ مؤمناً بالانتصار في المهاجر السورية. وكما أنّ انتصاري في الوطن كان بعد معارك شديدة ضد قوات عظيمة، كذلك كان انتصاري في المهجر. فلقد جئت المهجر بالحرب بين مبدأ الحياة القومية ومبدأ الموت القومي، فكان للذين أقبلوا على مبدأ الحياة الحياة وللذين اعتصموا بمبدأ الموت الموت» (هتاف وتصفيق شديدان).
ثم تطرّق الزعيم إلى تلبية الجالية السورية في الأرجنتين مبدأ الحياة القومية وهنأها بالعناصر الفتيّة الصالحة لحمل الرسالة القومية. وأشار إلى الروحية الموحّدة في شعور واحد وفكرة واحدة، والظاهرة في مظاهر الشبيبة وفي كلام الخطباء وقال: «إنّ كل ذلك يجعلنا نشاهد عياناً في هذا الاجتماع المحدود نهضة أمتنا اللامحدودة.»
وتكلّم الزعيم على معنى النهضة القومية قائلا: «إنها ليست حركة سؤال واستجداء لبلوغ حرية فوضوية لا مسؤولية تعميرية فيها، بل نهضة أمة ذات حيوية عظيمة وفاعلية بعيدة المدى. هي أمة طالما عمرت واستعمرت، وأعطت العالم مؤسسات لا تزال قائمة إلى اليوم، نحن إذن لا نقف عند حد طلب شيء نريد نواله. نحن ننهض لنأخذ حقنا ونعطي العالم المفتقر إلى نبوغ أمتنا ومواهب شعبنا. نحن لا نريد الحرية لمجرّد الحرية والتفلت من كل واجب وكل مسؤولية، بل نريد الحرية لننشىء المجتمع المثالي الموضوعة قواعده في مبادئنا. نريدها لنعمل للحياة المثلى لا لمجرّد العيش. ولذلك نتميز نحن السوريين القوميين بالهتاف للحياة لا للعيش، كما كان يفعل المصريون والعراقيون قبل أن تصل إليهم مبادئنا، وكما كانت العادة في سورية اللاقومية. نحن لا نهتف يعيش! يعيش! بل يحيى! يحيى! لأننا نريد الحياة بكل معانيها، لا مجرّد العيش. وفي الحياة من المعاني ما لا وجود له في العيش.
«إنّ نهضتنا القومية ليست لإشباع بعض رغبات مستعجلة أو بعض خصوصيات شعبنا المحدودة، بل لإعادة النبوغ السوري إلى عمله في إصلاح المجتمع الإنساني وترقيته. إنه لا يمكننا أن نقف مكتوفي الأيدي بينما العالم يكاد يهلك في صراع مميت بين مبدأ الترجمة المادية للحياة البشرية ومبدأ الترجمة الروحية للأعمال الإنسانية. إنّ الحركة السورية القومية لم تأتِ سورية فقط بالمبادىء المحيية، بل أتت العالم بالقاعدة التي يمكن عليها استمرار العمران وارتقاء الثقافة. إنّ الحركة السورية القومية ترفض الإقرار باتخاذ قاعدة الصراع بين المبدأ المادي والمبدأ الروحي أساساً للحياة والأعمال الإنسانية. ولا تقف الحركة السورية القومية عند هذا الحد، بل هي تعلن للعالم مبدأ الأساس المادي - الروحي للحياة الإنسانية، ووجوب تحويل الصراع المميت إلى تفاعل متجانس يحيي ويعمر، ويرفع الثقافة ويسيّر الحياة نحو أرفع مستوى. إنّ في المبدأ السوري القومي إنقاذاً لا يقتصر على سورية، بل يتناول وضعية المجتمع الإنساني كله. ونهضتنا لا تعبّر عن حاجاتنا نحن فقط، بل عن حاجات إنسانية عامة» (هتاف شديد وتصفيق متواصل).
من ثم ابتدأ الزعيم حملته الشديدة على السوريين الذين قاموا يناوئون الحركة السورية القومية لا لسبب غير عجزهم عن فهم حقيقتها وطبيعتها ومدى مرماها والنتيجة الأخيرة لعملها. وشدد النكير على طبقة من الأدباء أقامت أدبها الأجوف مقام حياة الأمة ومقام الحقائق الأساسية التي تبني عليها الأمة ثقافتها وعمرانها. وأشار إلى الأدب الذليل الذي أنشأته هذه الطبقة الناعية الناعبة، وصار حملاً ثقيلاً على كواهلنا لا يمكننا التقدم نحو مثلنا العليا بدون طرحه.وانتقل إلى المناوئين الذين يدّعون أنّ سعاده لم يأتِ بجديد وأنهم هم أيضاً قالوا بالاتحاد والنهوض. فقال الزعيم: «لست أول من قال بتوحيد صفوف الأمة السورية. ولكن الذين قالوا قبلي بوحدة الأمة ودعوا إلى الاتحاد لم يتمكنوا من فعل شيء في سبيل الوحدة القومية، لأنهم كانوا يجهلون العوامل الأساسية التي تؤلف هذه الوحدة، ويجهلون طرق التوحيد. إنه لأمر سهل أن يقف إنسان وينادي: اتحدوا ففي الاتحاد قوة وهبّوا لنيل الحرية والاستقلال. ولكنه ليس هيناً إيجاد الأسباب التي تنتج الاتحاد والخطط التي تؤدي إلى الحرية والاستقلال. ولذلك ذهبت صيحات الداعين إلى الاتحاد والحرية والاستقلال مع الريح. أنا لم أقف كهؤلاء المشعوذين داعياً إلى الاتحاد ونيل الحرية والاستقلال، بل درست وفحصت ووضعت قواعد الوحدة القومية وهيأت أسباب الاتحاد ووضعت أمام شعبي المثل العليا التي تبرر طلب الحرية والاستقلال وتحفز الشعب على طلبهما. إنّ القضية السورية قد أصبحت قضية واضحة وحقيقة مفهومة ومعقولة، لأنها أصبحت قائمة على أساس من الحق والعدل يمكّن كل سوري من أن ينال نصيبه من الحقوق والواجبات العامة من غير فارق ديني أو عائلي» (هتاف وتصفيق).
ثم تناول الحجج التي يتخذها المناوئون سلاحاً لهم فنظر في أمر الذين يحاربون الحزب السوري القومي باسم «العروبة» مدّعين أنّ الحزب عدو العرب والعروبة، لمجرّد أنّ اسم الحزب لا يتناول من الأمم العربية غير سورية. فكشف القناع عن نفاقهم قائلاً إنّ موقف الحزب السوري القومي من العالم العربي مفصّل في شرح مبادىء الحزب وغايته ولم يغيّر الحزب موقفه من هذه الناحية.
«إنّ هؤلاء السوريين المنادين «العروبة! العروبة!» لم يفعلوا شيئاً لا في سبيل أمتهم ولا في سبيل العالم العربي. إنهم يدّعون باطلاً أنّ الحزب السوري القومي عدو العرب والعروبة. هم أعداء العرب والعروبة الحقيقيون، بما يثيرونه ضد نهضة الأمة السورية التي هي في مقدمة أمم العالم العربي.
«إننا، نحن السوريين القوميين، نوجّه كل قوانا، فيما يختص بالمسائل القومية إلى أهداف أمتنا نحن. أما فيما يختص بالمسائل المتعلقة بالعالم العربي كله فإني أعلن أنه متى أصبحت المسألة مسألة مكانة العالم العربي كله تجاه غيره من العوالم، فنحن هم العرب قبل غيرنا. نحن جبهة العالم العربي وصدره وسيفه وترسه، ونحن حماة الضاد ومصدر الإشعاع الفكري في العالم العربي كله» (هتاف متكرر ارتجّت له جدران البناء وتصفيق متواصل).
وفي الحال ارتدّ الزعيم على الذين يدّعون زوراً أنّ الحزب السوري القومي «يريد محو لبنان من الخارطة» فأظهر نفاقهم وتأويلهم الحقائق تأويلاً فاسداً. ثم قال:
«إنّ هؤلاء الانفصاليين الذين ينادون بملء أشداقهم «لبنان! لبنان!» هم أعداء لبنان واللبنانيين. فهم يرمون إلى فصل لبنان عن الوطن الكامل المتلاحم الأجزاء وعزله عن العالم ليكون فريسة هينة لغول الاستعمار الأجنبي. إذا كانت المسألة مسألة قتل الشعب اللبناني من أجل فصل لبنان عن الوحدة الجغرافية للوطن السوري، فهم أبطال هذه المجزرة ولذلك أعلنهم أعداء للبنان واللبنانيين. هم الذين يريدون محو الشعب اللبناني من الوجود. أما متى كانت المسألة مسألة الشعب في لبنان وحياته فنحن هم اللبنانيون الحقيقيون ولا لبنانيين غيرنا!» (هتاف داوٍ وتصفيق متواصل وكثيرون نهضوا عن مجالسهم ليحيّوا الزعيم).
كان ختام الخطبة موقفاً رصيناً أشار فيه الزعيم إلى حالة الحرب الحاضرة التي كان يتوقعها، وفعل كل ما في مقدوره لتنبيه الشعب السوري إلى قرب وقوعها ووجوب الاستعداد لها. فقال إنّ الحالة حرجة ولكنها لا تدعو إلى اليأس، لأن سورية اليوم تختلف عن سورية الأمس. سورية الأمس كانت على غير هدى من أمرها، أما سورية اليوم فهي سورية القومية الناهضة الواعية.
«لا نيأس حتى ولو أُكد لنا أنّ الجيوش الأجنبية المحشودة في وطننا قد بلغت مليوناً أو مليونين. فحشد هذه الجيوش لا يمكن أن يكون لإبقائها هناك. فلا بد لهذه الجيوش من ساعة تذهب فيها إلى مصيرها، ولا بد للجيش السوري القومي من ساعة يتحرك فيها ليثبت حق سورية في الحياة. ومتى تحرك الجيش السوري القومي، مشت الأمة السورية نحو مكانها في العالم وحقها في الحياة، وكان في مشيتها القضاء والقدر!» (هتاف طبق الجو وتحية القوميين للزعيم).