ظلت مسألة القبض على بعض أركان الحزب السوري القومي وعدد من رجاله في بيروت ودمشق وطرابلس وحمص، وغيرها من مدن سورية الشمالية الواقعة تحت الانتداب الفرنسي، من المسائل التي لا يطمئن عقل المفكر إلى ما نشر عنها حتى الآن، وهو قليل جداً، والتي يظل متتبع مجرى السياسة في سورية يشعر أنها محاطة بغموض مقصود لكي لا يتنبه الرأي العام إلى خطورتها وما وراءها من الخطط والتدابير العدائية للأمة السورية وحقها في الحياة، المجرمة تجاه الحق والعدل، ولكي لا يشعر الشعب السوري أنه يطعن في صميمه بإتيان الظلم ضد من وقفوا أنفسهم على الثبات في المراكز التي عيّنها لهم الزعيم ليؤدوا واجب صيانة شرف أمتهم وجنسهم.
وقد نشرت سورية الجديدة ما اتصل بها في هذا الصدد من مصادر عامة وخاصة. وكان آخر ما نشرته من أخبار هذه المسألة الخطيرة في حياة الأمة السورية الناهضة ما نقلته عن الرصيفة فتى لبنان لمراسلها في بيروت، وهو خبر الإفراج عن أكثر الموقوفين في قضية الحزب السوري القومي، والاحتفاظ ببعض الأركان ذوي الشأن الخطير في الحركة السورية القومية. ثم ساد سكوت شامل فيما يتعلق بالمسألة المذكورة. وهذا السكوت لم يكن مدعاة لاطمئنان القوميين ولا لركوننا إلى أنّ المسألة انتهت.
وأخيراً اتصل بنا ما يبرر القلق الذي كنا نشعر به من هذه الناحية، وشعرنا براحة ضمير لحصولنا على الرسالة الوارد نصها فيما يلي، وتمكّنّا من نشرها لكي يعلم الشعب السوري ماذا يصنع برجال نهضته، وماذا تقصد به بعض السياسة الأجنبية.
هذه الرسالة واردة إلى أحد المهتمين في هذا المهجر لمصير وطنهم وأمتهم من أحد ثقاة المطلعين في الوطن على ظواهر الأمور وبواطنها، وسر المهنة وخطورة الظروف الحاضرة تمنعنا من إفشاء إسميْ المرسِل والمرسَل إليه والنص كما يأتي:
أخي وعزيزي ...
كان لرغبتك الشديدة في الوقوف على تفاصيل أعظم حادث سياسي تاريخي جرى في بلادنا بعد نشوب الحرب الحاضرة، أعني حادث توقيف بعض أركان الحزب السوري القومي وإبقائهم موقوفين طوال هذه الشهور تحت ستار تُهم تقليدية متوارثة في الحوادث السياسية التي لها علاقة بمصير أمتنا وسلالتنا، صدى قوي في نفسي لم يبرح يهزني حتى جزمت في أمر ركوب هذا المركب الخشن والإقدام على هذه المجازفة الخطرة، التي لم أعد أجد راحة لضميري إلا بالإقدام عليها، لأني أنا أيضاً أصبحت في عداد هذه الجماعة الجديدة التي لا ترى الحياة في ترك الحق والعدل ولا تراوغ في المبدأ ستراً لجبن متأصل في النفوس! وما كان تأخري عليك حتى الآن قعوداً عن هذا الواجب المقدس، بل تروياً في كيفية حصول الفائدة من المجازفة في الكتابة في هذا الموضوع، أي فائدة وصول هذا الكتاب إليك. والمجازفة حلوة متى كانت مدعومة بالانصباب على تأمين النتيجة. وقد علّمنا زعيمنا أن نطلب الموت متى كان الموت طريقاً إلى الحياة. وما يعنيه الزعيم هو طريق الحياة القومية للأمة كلها لا طريق الحياة الفردية المعدمة الوجود الاجتماعي، ومع علمي بأني أجازف فإني أشعر أنّ رسالتي ستصل إليك.
قد يخطر لك أني قد أصبحت غريباً جداً، وقد تجد صعوبة كلية في فهمي حين أقول «زعيمنا»، وأعني بذلك زعيمي أنا أيضاً، لأني كنت فيما مضى أعتقد، وكنت توافقني على اعتقادي، أني أفهم محيطي وعالمي فهماً كلياً وأعرف جيداً مبدأ الأمور ومعادها، وأجد نفسي جديراً بالحكم في كل مسألة وأمر، وأنه لا غيري ولا غيرك يقدر أن يصل إلى هذا العلو الذي نصعد إليه بمخيلتينا. قد أكون أصبحت غريباً، ولكني مسرور جداً بهذه الغرابة، ومرتاح جداً إلى حالتي الجديدة، إذ صار لي وللشعب الذي أنا منه زعيم بحق أطمئن إلى زعامته التعميرية التي أعطت شعبنا المعجزة التي كان يائساً من حصولها.
إننا كنّا، قبل الزعيم، أمماً متباينة الأخلاق متنافرة المذاهب. كل واحد منا كان أمة لنفسه غير متجانسة مع ما حولها من هذه الأمم الفردية المتلاشية في حقارة تبجحها ومكابرتها. وأنا نفسي كنت إحدى هذه الأمم الحقيرة. وإني الآن أشعر بحقارة حالتي الأولى وأقشعر. أما وقد وهبت لنا العناية الزعيم فقد اختفت ألوف من تلك الأمم، وظهرت في مكانها أمة واحدة ناشئة يشترك في عظمتها كل فرد من أفرادها.
لم أجد بداً من قول هذه الكلمة الآن، لأني لا أدري ماذا سيحدث ولا متى تسنح فرصة أخرى لأخاطبك في هذا الشأن. وقد اقتصرت على هذا المقدار لأعود إلى تحقيق رغبتك:
إذا كنت تتبعت بعض الشيء حركات الحزب السوري القومي، فقد تكون علمت أنّ الزعيم نبّه السوريين القوميين والشعب السوري عموماً إلى اقتراب الأزمة الخطرة في أوروبة وتنبأ بوقوع الحرب قبل وقوعها بأشهر، وطلب من السوريين القوميين أن يكونوا مستعدين للقيام بالعمل العظيم وانتهاز الفرصة متى سنحت. وقد قرأت في جريدة سورية الجديدة الصادرة عندكم نص النداء الذي وجّهه الزعيم في 31 مايو/أيار 1939 إلى السوريين القوميين والشعب السوري، ولا بد أن تكون قرأته.
وصورة من هذا النداء وزعتها أجهزة الحزب السوري القومي الإذاعية وأحدث توزيعها قلقاً، وأي قلق، في الأوساط العليا للسلطة الاحتلالية. وعلى أثر انتشار النداء كثرت الحسابات في الأوساط الشعبية لما يمكن أن يقوم به الحزب السوري القومي الساهر المدرك الأمور قبل وقوعها. ولا أبالغ إذا قلت إنّ خشية السلطة الأجنبية من نداء الزعيم وموقف الحزب السوري القومي بلغت حد الخوف الشديد الظاهر في تدابير كثيرة لجأت إليها السلطة المشار إليها من باب التحوط.
يستنتج من كل ذلك أنّ الحزب كان متيقظاً للأمور والحوادث، مقدراً الموقف على حقيقته. وهذا يعني أنه لا بد أن يكون الحزب السوري القومي قد اتخذ تدابيره أيضاً. فكيف يمكن تفسير إلقاء القبض على أبرز شخصية سياسية في الحزب بعد الزعيم، أعني نعمة ثابت، وعدد من أكبر الأركان أمثال جورج عبدالمسيح وعبدالله قبرصي وغيرهما. هذه النقطة لا تزال غامضة لك وللرأي العام لمنع نشر الحقائق المتعلقة بهذه القضية، ولنشر أشياء كثيرة مقصود منها تضليل الرأي العام وطمس الحقيقة. وهذه الخطة هي التي لجأت إليها «الحكومة» منذ سنة 1937 . ومما لا شك فيه أنها أفضل خطة في شعب لا يزال معظمه غافلاً عن القومية منصرفاً إلى الشواغل اللاقومية والمنافية للقومية.
الحقيقة هي أنّ الحزب السوري القومي كان قد شرع في اتخاذ تدابير واسعة النطاق، وفاقاً للخطة التي رسمها الزعيم قبيل سفره إلى أميركة. وقد علمت أنّ الزعيم أرسل من أميركة تعليمات مشددة باتخاذ تدابير كافلة بحماية أركان الحركة القومية. وتدابير الحماية كانت قد اتخذت بالفعل. وكل ما تمكنت السلطة من فعله تجاه رجال الحركة هو أنها وضعت الأمين جورج عبدالمسيح تحت «إقامة معيّنة إجبارية» في بيروت. فأقام الأمين عبدالمسيح في بيروت تحت حماية مزدوجة: حماية السلطة الانتدابية، وحماية تدابير المنظمة القومية.
عبثاً حاولت السلطة الوصول إلى أكثر من هذه النتيجة، فازداد قلقها مع تقدم حالة الحرب، وشعرت بضعف قبضتها على سورية بوجود المنظمة السورية القومية، وأدركت أنّ تقديم الخضوع من قبل رجال العهد الكتلي البائد لا يعني شيئاً حقيقياً، لأن القوة السورية الوحيدة التي لها وزن في إقرار الحالة هي قوة الحزب السوري القومي الذي أظهرت إدارته رباطة جأش وشجاعة نادرتين، وثبتت تجاه زعازع السياسة وتابعت عملها المنظم، مما يدل على أنه لم يكن شيء في الحوادث الجارية أخذها على حين غرّة.
أخيراً وجدت السلطة أنّ الحجز على الأمين عبدالمسيح في بيروت لم يعطِ نتيجة يمكن الركون إليها، وأخذ خطر الحزب السوري القومي يستفحل بعدما ألقى المتزعمون من العهد البائد سلاحهم وتنازلوا عن كل حق لأمتهم في السيادة، بحجة أنّ الظروف الحاضرة خطرة على كل من لا يتنازل عن سيادة أمته. فعمدت السلطة إلى تجربة تجعلنا نظن أننا نعيش في عصور البربرية. فأظهرت أنها تريد التفاهم مع إدارة الحزب السوري القومي على مسائل القضية السورية، وأرسلت من يبلّغ الحزب رغبتها في فتح مخابرات جديدة في هذا الصدد، وفي أن تجري المخابرة من قبل الحزب على يد الأمين نعمة ثابت نفسه منعاً لضياع الوقت. فأبلغت بعض الدوائر الحزبية التي تلقت رسالة السلطة الانتدابية الأمين ثابت رغبة تلك السلطة، فعقد أركان الحركة القومية اجتماعاً للبتّ في هذه المسألة. وحدث في هذا الاجتماع أنّ بعض الأركان أبدوا توجسهم ألا تكون دعوة السلطة للمخابرة سوى فخ ينصبونه للأمين ثابت وغيره من الأركان. ولكن الأمين ثابت فضّل ألا يبني خطته على هذا الاعتبار قائلاً: «إذا كان في هذه المسألة احتيال كان دليلاً على فساد الدولة التي تأتيه وضعف دعائم سلطتها وعلى أنّ نجاح قضيتنا السريع أمر مرجح.»
أراد الأمين نعمة ثابت، رئيس مجلس العمد السابق، أن يظهر للسلطة الانتدابية أنه مستعد لمعاملتها معاملة الشريف للشريف، وأنّ الشرف السوري يريد أن يرى الشرف الفرنسي. وكان قد تقرر في اجتماع أركان الحركة القومية قبول المخابرة. فقرر الأمين ثابت القيام بنفسه بهذا الأمر من قبل الحزب السوري القومي، ولـمّا وفد إلى المكان المعيّن لإجراء المقابلة مع مندوب السلطة الانتدابية وجد أنّ الشرف السوري وحده هو الذي أثبت وجوده. فالمكان لم يكن سوى كمين لإلقاء القبض عليه. فلما تمكنوا منه عمدوا إلى إلقاء القبض على بقية الأركان الذين اتصلت بهم أسماؤههم، فقبضوا على الأمين عبدالمسيح والأمين قبرصي والأمين أنيس فاخوري والأمين بشير فاخوري، ولكنهم لم يتمكنوا من القبض على الأمين مأمون أياس ولا على الرفيق جبران جريج وهو من كبار الموظفين، مع أنهم طلبوهما بشدة، وهم إلى الآن يقومون بالمحاولة بعد المحاولة للوصول إلى هذين البطلين على غير طائل.
كثرت الاعتقالات ولكنها لم تعطِ النتيجة المطلوبة ولم يتمكن رجال التحري من الوصول إلى التشكيلات العسكرية التي نظمها الحزب تنظيماً متيناً، فبقيت في مأمن من رجال السلطة. وبعد وقت غير طويل اضطرت السلطة لإطلاق سراح معظم الموقوفين، ما عدا كبار الأركان منهم، ولم تدم حملتها التهويلية طويلاً لأن الأمين مأمون أياس أذاع بلاغاً، بصفته الناموس العام للحزب السوري القومي، تحدى فيه السلطة أن تثبت بالأدلة ما توجهه إلى الحزب من تُهمٍ باطلة، فأحرج هذا البلاغ موقف السلطة واضطرت لإطلاق سراح معظم الموقوفين واستبقت من أشرت إليهم من الأركان.
لا تزال السلطة تدّعي أنها لم تفرغ من التحقيق مع هؤلاء الأركان الموقوفين. وهذا يعني أنها قررت إبقاءهم قيد «التحقيق» لأسباب غير تحقيقية.
هذا العمل هو أفظع أنواع الظلم. فنفوس سورية عظيمة تُعذَّب اليوم بدون أن يكون في وسع السلطة، أو غيرها، إعطاء دليل حقوقي واحد يبرر هذا التدبير الإجرامي ضد من لم يفعلوا شيئاً غير تعهد نهضة أمتهم القومية، وإظهار الاستعداد للتفاهم مع الفرنسيين في كل ما لا يعطل شيئاً من مبدأ السيادة السورية القومية.
إنّ الفرنسيين كانوا يعالجون المسألة السورية معالجة هي أقرب إلى الشعوذة منها إلى معالجة حقيقية. فخطتهم كانت دائماً التلاعب بالفئات والشركات السياسية تلاعباً يعللها تارة بقرب نجاح أعمالها الصبيانية، ويحطها طوراً إلى أحط دركات اليأس ويضربها بالشلل. أما الحزب السوري القومي فقد وجدوا أنه يختلف بطبيعته ونظامه عن كل ما عالجوا. إنّ المسألة مع الحزب السوري القومي ليست مسألة مع بضعة أشخاص لهم نفوذ شخصي يمتد حيناً ويتقلص حيناً آخر، بل هي مسألة من نوع آخر.
هي مسألة مع منظمة عظيمة مجهزة بمؤسسات تجمع ضمنها جميع شعب الفكرة الواحدة وتحفر مجاري عميقة للإرادة الواحدة المستمرة، التي لا يعود في الإمكان تعطيلها أو تحويل مجراها بتعطيل عمل عدد من الأشخاص.
هنا تظهر لك وللعالم عظمة الزعيم الذي أبدع ونظم وأسس وجهز وشرّع وربّى. ومن هذه الحقيقة يمكنك أن تدرك الأساس المتين لعملنا القومي الذي يوّلد فينا إيماناً بالنصر لا يتزعزع مهما أحاق بنا من المكاره والصعوبات. وهذا هو السر في عدم جزعنا لتوقيف نفر من أكبر رجالنا بعد الزعيم. إنّ جزعنا لما يمكن أن تتعرض له هذه النفوس العظيمة الثابتة في إيمانها القومي تحت ضغط هذه الشدائد الأليمة هو عظيم. ولكننا لا نجزع لمصير قضيتنا القومية، بل نحن نزداد ثقة، لأننا صرنا نرى نتيجة عمل الزعيم العظيم ونشعر أنّ روحه قد أصبحت في كل روح قومية. فعلى طريق الشجاعة والإقدام والتضحية في سبيل الشرف القومي وحق أمتنا في الحياة، على هذه الطريق التي شقها الزعيم بنفسه وجسده يسير كبار أركان الحركة القومية، ووراءهم جسم القوميين كله. وقد تكون اطلعت على بلاغ ناموس الحزب العام، الأمين مأمون أياس وقرأت قوله: إنّ القوميين وزعيمهم وحدة لا تتجزأ ولا تتفرق.
إنك قد تظن الحزب السوري القومي قد صُرع. وقد يظن المهاجرون المضطرون لتكوين آرائهم بناءً على المعلومات الصحفية التي تصل إليهم، وكلها تلفيق لا يتفق مع ظل من الحقيقة، أنّ الحزب السوري القومي قد انهدّ، وأنّ توقيف بعض كبار أركانه قد شلَّ حركته وعمله. فأقول لك إنه ليس أبعد عن الحقيقة والواقع من هذا الظن.
فمعنويات الحزب السوري القومي قد زادت بدلاً من الهبوط. وأسباب زيادة المعنويات واضحة لكل قومي وهي: أولاً - إنّ السلطة المحتلة قد تجردت من كل شرف في المعاملة، وتدلت إلى أحط دركات المخاتلة والخداع في موقف رسمي شريف، حتى تمكنت من إلقاء القبض على رئيس مجلس العمد السابق؛ ثانياً - إنّ الرئيس الأمين نعمة ثابت ذهب من تلقاء نفسه لمقابلة رجال السلطة الذين أوقعوا به غدراً، والسلطة ما كانت تستطيع مد يدها إليه لولا هذه الحيلة الشائنة؛ ثالثاً - إنّ بقية أركان الحزب الذين اتخذوا الحيطة ضد غدر السلطة ظلوا في مأمن من غدرها؛ رابعاً - إنّ ما أرادت السلطة العسكرية الحصول عليه من المعلومات عن التشكيلات العسكرية للحزب السوري القومي ظل ممتنعاً عليها. ومنذ مدة والسلطة تبحث عن خائن جديد بدون جدوى.