رأينا، في ما تقدم، أنّ وجه الخلاف الوحيد من جهة الرسالة الإسلامية انحصر في نفي مذهب المسيحيين أنّ المسيح هو إبن الله الوحيد الجالس عن يمين الآب، بإعطاء أقنوم الإبن شكلاً قائماً بذاته، ولكن من غير نفي ولادة المسيح من مريم العذراء ومن روح الله حسب الروايات المسيحية ومن غير نفي لألوهية كلامه. فتكون مخالفة الإسلام للمسيحية مقتصرة على تأويل صفة المسيح الحقيقية وليس على صحة تعاليمه. ورأينا أيضاً أنه بما أنّ تأويل المسيحيين ولادة المسيح، بناءً على بعض «النبوءات» اليهودية، لا يجعل المسيح إلهاً ثانياً والروح القدس إلهاً ثالثاً فقيمة الخلاف الأساسي تصغر وتقرب كثيراً شقته بإعلان القرآن ولادة المسيح من روح الله.
والنتيجة الأخيرة من تحقيقنا في هذه الناحية هي أنه لا يوجد خلاف بين المسيحية والإسلام على غرض التوحيد الأساسي في هذين الدينين على السواء. وما يظهر من اعتقادات المسيحيين أنه مخالف أو معارض لهذا الغرض ليس في الحقيقة سوى مذاهب في كيفية فهم الله ومظاهره وصفاته. وكل ذلك من المسائل اللاهوتية والكلامية البحتة ولا يمسّ مطلقاً التعاليم المسيحية وصحتها، وهي تعاليم يعدّها القرآن إلهية ويوجب الإيمان بها على المسلمين أيضاً، كما رأيت في ما تقدم. وقد ورد حديث نبوي في هذه الاختلافات والتشيّعات يحسن أن نثبته في هذا المحل ليتبصر أصحاب مبدأ سلامة «الدين الصحيح» في كيفية فهم محمد لهذه الأمور قال:
«إفترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة. وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة. وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة.»
ونحن نؤكد أنه لا يدخل في هذه الفرقة الأخيرة أصحاب مبدأ «أنّ الركن الأعظم لدين المسلمين هو في منازعة كل ذي شوكة في شوكته.»(1)
وتقلّ أكثر قيمة الخلاف من هذا الوجه متى علمنا أنّ التأويلات المسيحية في العُربة لأمر المسيح وولادته كانت غير واضحة والاعتقادات في هذا الصدد اتخذت هناك أشكالاً يجب درسها على حدة، نظراً لخصائص البيئة العربية. وفي اعتقادنا أنّ هذا الخلاف كان يجب أن يدرس درساً كلياً في أسباب منشأه من قبل المسلمين والمسيحيين وأن تعيّن قيمته الصحيحة للملّتين، لتريا أنه ليس خلافاً دينياً جوهرياً يقتضي استحكام العداوة بينهما. ولو أنّ المجتهدين المسلمين اتخذوا هذه الزاوية مبتدأ لاجتهاداتهم لكان ذلك خيراً للملّتين. ولكن أكثر المجتهدين المسلمين خلطوا بين كلام الرسالة الإسلامية الديني وبين كلامها الدولي وفضلوا جعل الكلام الدولي منهاجاً لكل خطاب يوجهونه إلى المسلمين، ليحثوهم على إقامة الدولة الدينية قبل كل شيء متوهمين وموهمين أنّ هذا هو الدين. ويوافقهم في هذا المذهب المجتهدون من المسيحيين في تبيان أنّ هداية الله لا تتم إلا باسم المسيح وأنّ رسالة محمد، في مذهبهم، باطلة أو أنها بدعة تخرب الدين، مع أنها رسالة دينية صحيحة جاءت مصدّقة لرسالة المسيح.
لم نقف على بحث جديد لكاتب مسيحي يحمل فيه على الإسلام ويطعن في حقيقته أو في حقيقة جميع الأديان الأخرى، ويقول بمغالبة المسلمين وأهل الأديان غير المسيحيين، كما يقول أتباع مدرسة الدولة الدينية في الإسلام وتلامذة مدرسة السيد [جمال الدين] الأفغاني في الدين والسياسة والاجتماع. ولذلك يصعب علينا أن نناقش جميع أغلاط المسيحيين في هذا الباب التي يأتونها ضد الإسلام والمسلمين، ويولّدون بها الانقسام القومي، كما نناقش كتابات أصحاب مبدأ الجنسية الدينية والدولة الدينية من المسلمين وأتباعهم. ولكن ذلك لا يعني أنه لا يوجد هوس ديني بين المسيحيين ولا يعني أنه لا نصيب للمسيحيين في المنازعات الدينية التي تجعل نشوء القومية الصحيحة في حكم المستحيل. وأهم ما يمكن ذكره في هذا الباب هو ما يسمع بين مسيحيي سورية وأمم الشرق المتجاورين مع المسلمين. أما المسيحيون الأوروبيون فقد تغلبوا، إلى حد بعيد، على هوس الدين ولم يبقَ ما يدفعهم إلى التألب باسم الدين.
كثيـراً ما تسمـع مسيحيَّيْن أو أكثـر من اثنين يتحدثـون في شـؤون الـوطن أو الاجتماع أو الدين فتطرق أذنك هذه العبارة: «لا يمكن أن يصير اتحاد قومي أو إصلاح اجتماعي إلا إذا زال القرآن». وقد يكون أكثر الذين يرددون هذه العبارة من الذين ذاقوا مرارة الطغيان الديني السابق وعوملوا معاملة قاسية أو مجحفة ولكن هذه الحقيقة لا تبرر القول الذي يقولونه ولا تجعل له صحة على الإطلاق.
الحقيقة أنّ هذا القول هو أبعد الأقوال عن الصواب وأكثرها دلالة على الجهل. فالقرآن كتاب ديني جليل وأغراضه الدينية الأخيرة لا تختلف ولا تتضارب مع الأغراض الدينية المسيحية، من حيث الإقرار بالله الواحد وترك عبادة الأصنام وفعل الخير وتجنب الشر وتقرير خلود النفس والثواب والعقاب فكيف وبأي حق يجب أن يزول كتاب يدعو إلى هذه الأغراض الأساسية التي يدعو إليها دينهم عينه؟
الجواب على هذا السؤال هو في الإيمان الضيق الذي لا يقبل الخلاص إلا على يد مخلص معيّن. وفي هذا نقض لتعاليم دينهم عينه الذي يقول: «وإذا واحد من علماء الناموس قام وقال مجرّباً له (للمسيح) يا معلم ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية. فقال له ماذا كتب في الناموس كيف تقرأ. فأجاب وقال أحبب الرب إلهك بكل قلبك وكل نفسك وكل قدرتك وكل ذهنك وقريبك كنفسك. فقال له أجبت بالصواب إعمل ذلك فتحيا. فأراد أن يزكي نفسه فقال ليسوع ومن قريبي. فعاد يسوع وقال: كان رجلاً منحدراً من أورشليم إلى أريحا فوقع بين لصوص فعرّوه وجرّحوه ثم مضوا وقد تركوه بين حي وميّت. فاتفق أنّ كاهناً كان منحدراً في ذلك الطريق فأبصره وجاز.
وكذلك لاوي وافى المكان فأبصره وجاز. ثم إنّ سامرياً مرَّ به فلما رآه تحنن فدنا إليه وضمد جراحاته وصبّ عليها زيتاً وخمراً وحمله على دابته وأتى به إلى فندق واعتنى بأمره. وفي الغد أخرج دينارين وأعطاهما لصاحب الفندق وقال إعتن بأمره ومهما تنفق فوق هذا فأنا أدفعه لك عند عودتي. فأي هؤلاء الثلاثة تحسبه صار قريباً للذي وقع بين اللصوص. قال: الذي صنع إليه الرحمة. فقال له يسوع إمضِ فاصنع أنت كذلك»(2)، فإذا كان السامري المحتقر فضل اللاوي والكاهن المقدس لله، لأنه صنع الرحمة للذي وقع بين اللصوص وكان ذلك جائزاً وحقاً عند المسيح نفسه أفلا يكون محمد الذي أنقذ خلقاً كثيراً من حالة التوحش والهمجية وهداهم إلى دين الحق ولم يجحـد الإنجيـل، بل صدّقه وأيّـده، أفضـل عند المسلمين الذين هداهم إلى الحق من كل كاهن وكل بطريرك وكل بابا لم يبلغهم منه شيء من الرحمة؟ وإذا كان المسيح قد خلّص المسيحيين فإن النبي محمد قد خلّص المسلمين. فكيف تريدون أيها المجدفون أن ينكر المسلمون محمداً وأن لا يعدّوه رسولاً من الله إليهم وهو الذي هداهم إلى الله؟
لقد وُجد في العُربة يهود ووُجد مسيحيون فهل تمكنوا من هداية العرب وجمع كلمتهم وإخضاعهم للشرع وإقامة النظام فيهم وتحسين شؤون حياتهم الاجتماعية. فلماذا يجب أن تكون اليهودية أو المسيحية أقرب إلى المسلمين من محمد قريبهم وحبيبهم وقريب كل منصف غير متعنّت وغير متكبر وحبيبه؟
يوجد من متعنّتي المسيحيين من يلعنون محمداً لأنه اتخذ زينب زوجة زيد امرأة له. فلماذا لا يلعنون داود النبي ويبطلون نبوءاته ومزاميره وهو قد سلب أوريا الحثي زوجته سلباً بحيلة سافلة وكيف يستندون إلى نبوءته لإثبات ألوهية المسيح؟ وبعد فإن النبي محمداً لم يسلب زيداً زوجه، بل تزوجها من بعد أن طلقها زيد وأصبحت حلالاً له.
ومنهم من يزعم أنّ محمداً ليس هادياً إلى الله لأنه لم يفعل العجائب التي قيل إنّ الأنبياء الذين تقدموه فعلوها وهذه حجة باطلة لأنه لا لزوم للعجائب من بعد ما تبيّنت كلمة الهداية أنها إلى الله الذي عرفه الأنبياء السابقون، كما جاء في القرآن:
«قولوا آمنّا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون»(3). وفي هذه الآية تأمين على جميع المعتقدات المسيحية وعلى جميع النبوءات التي يستند إليها المسيحيون لإقامة ربوبية المسيح.
ومنهم من ينحي على محمد باللائمة لاتخاذه سبيل الغزو والضرب بالسيف والسوط والسبي، كما فعل عبدالمسيح الكندي [كتاب المناظرات] في مناظرة أحد كبار المسلمين فنسب إلى محمد مجرّد محبة نفع نفسه وأصحابه وإقامة دولته. وهذا كلام بعيد عن الصواب. فقد كان محمد يكسب من تجاراته وقد جلبت عليه دعوته إلى الله الأتعاب والأوصاب فأهين وتعرّض للخطر وسقط جريحاً في معركة أُحُد وكاد يُقضى عليه.
أما إنه أراد إقامة الدولة فهو صواب ولكنه أنشأ الدولة لغرض الدين كما جعل الدين عماد الدولة في بيئة لا أسباب لإقامة الدولة فيها غير سبب الدين. وإقامة الدولة ليست فريـة ولا إثمـاً. ومن قبل محمد أنشـأ مـوسى دولتـه بالدين ثم كانت دولة داود بالدين ودولة سليمان. ويحتج عبدالمسيح بن إسحق الكندي في تبرير حروب العبرانيين وغزواتهم بعجائب فلق البحر ليمرّ الإسرائيليون ويهلك المصريون، وغير ذلك من العجائب التي لم يثبتها تاريخ وإن يكن صدّقها القرآن. وحصول العجائب يجب أن لا يبرر فظائع تخريب بيوت شعب آمن كما أنّ عدم حصول العجائب لا يجرح قصد رسول لإقامة دين الله. فإذا كان موسى نبياً ويشوع بن نون نبياً وقد جاءا يهاجمان شعباً آمناً عاكفاً على التعمير والتمدين ويقتلان حتى الأطفال والبهائم فمحمد نبيّ أعظم منهما ومن جميع أنبياء اليهود لأنه جاء إلى جماعة وحشية لا تعمّر ولا تمدن بل شأنها الغزو والسلب والسبي والتقتيل فخاطبها بلغتها وحاربها بسلاحها وأخضعها للحق والشرع والنظام، وهذا شيء أعظم من شق البحر بإذن الله وإقامة الكسيح بإذن الله.
وأما أنّ لغة العنف والقوة في بث الرسالة يجب أن تبقى في حدود بيئتها وأن لا تستعمل في غير مواضعها فهذا بحث آخر تناولناه في هذه السلسلة ونحن نبيّن كيف يجب أن يُفهم ذلك منعاً لاصطدامات عقيمة لا تنفع الأمة ولا تجدي الدين.
لا وجه في هذه الأسباب للطعن في محمد ورسالته ولتجريده من حق النبوة أو الرسالة ولا للطعن على المسلمين والقول إنه لا رجاء بهم حتى يتركوا الذي هداهم ويَدَعوا القرآن فهذا قول كبير فيه ظلم كثير وهوس شديد.
إنّ المسيح لم يشترط على عالم الناموس أن يعترف بأنه هو الكلمة المتجسدة ليرث الحياة الأبدية، بل اكتفى بتوصيته أن يحب الله ويحب قريبه كنفسه. والنبي محمد قد أوجب ذكر المسيح وجاءت آياته تشهد للمسيح بأنه كلمة الله. فماذا يريد المتعنّتون فوق ذلك. وجاء محمد يؤمن المسيحيين على دينهم ويقول إنهم لا يحتاجون إلى تغيير «صلاتهم» وتعاليم دينهم ويأبى المتعنّتون إلا أن يقولوا إنّ محمداً مبطل ضال، حتى أنّ عبدالمسيح بن إسحق الكندي عدّه صاحب شريعة الشيطان!
إنّ محمداً والقرآن باقيان ويبقيان في قلوب المسلمين لأن محمداً كان رسولهم. فإذا كان الروح القدس قد علّم تلاميذ المسيح ورسله لغات الأقوام الذين توجهوا للبشارة والكرازة بينها، فليس الذنب ذنب العرب إذا لم يكن بين هؤلاء الرسل رسول علّمه الروح القدس لغتهم وتوجه إليهم وأقام الدين بينهم. فكيف لا يكون محمد أقرب إليهم من رسل المسيحية؟
وقد بلغنا أنّ كثيراً من المسيحيين يفرحون بإظهارنا فساد هوس المتعنّتين من المسلمين أصحاب مدرسة محاربة أهل جميع «الأديان» غير المسلمين، أي محاربة المسيحيين الذين يعترف القرآن بصحة دينهم، ويظنون أننا نقصد من ذلك نكاية المسلمين وإظهار فساد دينهم وبطلانه وتحقير شخصية نبيّهم. وبلغنا أيضاً أنّ متهوسي المسلمين ظنوا هذا الظن وتوهموا هذا الوهم. فما آثم هذا الظن وما أبعده عن الصواب!
إنّ ما نقصده في هذا البحث هو الوصول إلى إفهام أهل الدينين وجوب نزع التعنّت والهوس ومنافسة بعضهم البعض، وأنه يجب عليهم إدراك أغراض دينهم بالعقل وليس بالزيغ والمنافسة التي تعدم الصلاح وتخرب البيوت وتفيد العدو فقط. فنحن ما أظهرنا بطلان حجج أصحاب المدرسة الرجعية من المسلمين إلا لنجلبهم إلى الحق وليعلموا أنّ الغلوّ في الدين من المعائب التي أصابتهم كما أصابت الرجعيين المسيحيين وليس لجعل المسيحيين يبالغون في الغلوّ في مذهبهم ويزدرون الدين الإسلامي.
والنقطة الأساسية التي كانت نصب أعيننا منذ بداءة هذا البحث هي هذه: أنّ المسيحية والإسلام دينان إلهيان يتفقان في أغراض الدين الأخيرة ويثبت كل منهما الآخر، فيجب أن لا يكون بينهما اصطدام ولا نزاع، بل محبة واتحاد. والمحبة والاتحاد لا يكونان برذل كل فريق دين الآخر وإدانته وتفضيل دينه عليه، بل باتخاذ القاعدة العامة التي وضعناها وهي: أنّ المسيحية والإسلام يتممان أغراضهما الأخيرة بدون حروب ومنازعات، بل بالتساند والانتشار كل منهما في البيئات الأكثر موافقة لتعاليمه وقبولاً لها. فمن قَبِلَ الإسلام ديناً فقد اهتدى إلى الله، إذا كان الله هو غرض الدين الأخير، ومن قبل المسيحية فهو مؤمن مهتد إلى الله، «وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله»(4). «فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب»(5). «لا تدينوا لئلا تدانوا، فإنكم بالدينونة التي بها تدينون تدانون وبالكيل الذي به تكيلون يكال لكم. ما بالك تنظر القذى في عين أخيك ولا تفطن للخشبة التي في عينك. أم كيف تقول لأخيك دعني أخرج القذى من عينك وها أنّ الخشبة في عينك. يا مرائي أخرِج أولاً الخشبة من عينك وحينئذٍ تنظر كيف تخرج القذى من عين أخيك»(6).
ما تقدم هو خلاصة وجهة الخلاف المسيحية وقد فندناها وبسطنا رأينا فيها وأوضحنـا فسـادها ومبلـغ التعنّت فيها، فـإذا كان قد بقي شيء جوهري من هذه الوجهة لم نتناوله فذلك لأنه لم يبلغنا ونكون شاكرين لكل من يوصل إلينا قولاً مسيحياً يضاد وجود الدين الإسلامي ويعدّ العمل على زواله عملاً بنصوص الدين ليكون الدين كله مسيحياً لله.
ومن جميع ما تقـدم يتضح أنّ وجهـة المسيحييـن من الخلاف تنحصـر في عدم الاعتراف بصحة كون محمد رسولاً. وذلك استناداً إلى تحذير المسيح من الأنبياء الكذبة وقوله: «إحذروا أن يضلكم أحد لأن كثيرين سيأتون باسمي قائلين إني أنا هو ويضلون كثيرين»(7)، هذا في ما يختص بالنص من جهة المسيحية وأما من جهة الإسلام فالنص ما ورد في سورة الأعراف في وصف غضب موسى على بني إسرائيل لاتخاذهم العجل إلهاً. فبعد أن سكن غضب موسى أخذ الألواح «واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت
وليّنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين، واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنّا هُدْنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون. الذين يتبعون الرسول النبي الأمّي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحلّ لهم الطيبات ويحرّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتّبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون. قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتّبعوه لعلكم تهتدون»(8).
بناءً على هذا النص الإسلامي يعتقد أكثر المسلمين غير المحققين أنّ التوراة والإنجيل اللذين في أيدي الناس اليوم هما غير التوراة والإنجيل الصحيحين، لأنه لا ذكر لأحمد أو محمد فيهما. وقد سلّمنا في ما تقدم من هذا البحث بأن اليهود عبثوا بالتوراة، خصوصاً يهود العرب. وهناك أدلة ترجّح أنهم عبثوا بالقرآن أيضاً قبل إكمال جمعه. أما الإنجيل فلم يجرِ به أي عبث. ولكن وجد إنجيليون دوّنوا سيرة المسيح وأقواله تدويناً مخالفاً لتدوين الإنجيليين الأربعة المعوّل عليهم، واثنان منهم كانا تلميذين للمسيح وعايناه كمتّى ويوحنا وثالث كان من أكبر المحققين هو الطبيب لوقا والرابع هو مرقس وكان تلميذاً للقديس بطرس. وكانت الأناجيل قد توزعت بين أيدي الناس في أكثر من لغة إذ كتب متّى بالسريانية وكتب لوقا باليونانية. ولم يعد من الممكن، بعد مرور ستمئة سنة ونيف على الميلاد المسيحي، أن تجمع جميع النسخ الموجودة في مختلف اللغات والأقطار وتتلف إلا نسخة واحدة تحذف منها الإشارة إلى محمد. ولو كان صحيحاً أنه وجد ذكر محمد في الإنجيل لكان حذفه دعا إلى شك كثيرين وصياحهم كما شكّوا وصاحوا لأمور أقل من حذف شيء من نص الإنجيل، ولكان وجب أن يقف المسلمون ومحققوهم على نسخة فيها ذكر محمد ويحفظوها للدلالة ويشيروا إلى موضع ذكر محمد فيها وفي أية آية وفي أي حادث ورد ذكره. ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث. وقد اكتشفت النسخة السينائية التي هي أقدم نسخ الإنجيل وحقق فيها رجال علم بعيدون عن الهوس الديني والنسخة موجودة إلى اليوم وليس فيها أي ما يدل على ذكر محمد. ولكن يبقى هنالك وجه وهو أنّ نعت الروح القدس «بالمعزّي» في إنجيلي مرقس ويوحنا قد يكون ورد منفصلاً في بعض القراءات في المواضع الموجود بها منفصلاً عن الإسم فأدّى ذلك إلى التباس أو إلى اختلاط كقوله: «إلا أني أقول لكم الحق إنّ في انطلاقي خيراً لكم لأني إن لم انطلق لم يأتكم المعزّي ولكن إذا مضيت أرسلته إليكم. ومتى جاء يبكت العالم على الخطيئة وعلى البرّ وعلى الدينونة. أما على الخطيئة فلأنهم لم يؤمنوا بي وأما على البرّ فلأني منطلق إلى الأب ولا تروني بعد. وأما على الدينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دين. وإنّ عندي كثيراً أقوله لكم ولكنكم لا تطيقون حمله الآن. ولكن متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من عنده بل يتكلم بكل ما يسمع ويخبركم بما يأتي»(9). فكل من يقرأ أو يسمع هذه الآيات ولم يكن قد سمع الآية 26 من الفصل الرابع عشر القائلة «وأما المعزّي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم كل ما قلته لكم»(10) فإنه لا يشك بأنه وعد برسول آخر يجيء، بل حتى الآية الأخيرة لا تمنع كل اجتهاد وكل تأويل في هذا الباب.
وإننا نـرى أنّ هذه النصـوص والخـلاف فيها هي من ذيول الخلاف على صفـة المسيح وعلى صفة محمد. ولا نجد خلافاً أساسياً جوهرياً فيما يختص بأغراض الدين الأخيرة. ولا يؤثر على أهل كل دين في اتّباع دينهم. فما على أهل الدينين المسيحية والإسلام إلا أن يتركوا الحكم لله عملاً بقول الدينين «لا تدينوا لكي لا تدانوا»(11) «وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله»(12).
ولقد اتخذ هذا الخلاف، منذ القديم، مظهراً حزبياً. فقد قرأنا في بعض المصادر أنّ المسلمين «وأهل الكتاب» افتخروا فقال أهل الكتاب «نبيّنا قبل نبيّكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن أولى بالله منكم» وقال المسلمون «نحن أولى منكم نبيّنا خاتم النبييّن وكتابنا يقضي على الكتب المتقدمة» فنزلت في هذا الخلاف الآية «ليس بأمانيّكم ولا أمانيّ أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً. ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً»(13).
وجميع هذه الأقوال من الدينين يقبلها كل ذي عقل سليم ووجدان حي ولا يرفضها إلا المنافقون في الدين من المسلمين والنصارى فالأولون يقولون لا يتم الدين إلا بمغالبة أهل «الأديان» الأخرى وتنمية ملّة الإسلام بالقوة والإكراه والآخرون يقولون لا يتم الدين إلا بمحو القرآن من الوجود. وهذا منتهى الضلال، لأن كل فريق يقيم نفسه مقام الله نفسه ليدين الفريق الآخر، مع أنّ نصوص الدين تقول بترك الحكم لله وحده.
هاني بعل
للبحث استئناف
(1) وضع الرقم «27» سهواً كما تمّ التنبيه عليه. الزوبعة، العدد 32، 15/11/1941.
(2) العروة الوثقى، ص 149.
(3) لوقا 25:10-37.
(4) سورة البقرة رقم 2 الآية 136.
(5) سورة الشورى رقم 42 الآية 10.
(6) سورة الرعد رقم 13 الآية 40.
(7) متى 7: 1-5 .
(8) مرقس 13: 5 - 6.
(9) سورة الأعراف رقم 7 الآية 155-158.
(10) يوحنا 16: 7 - 13.
(11) يوحنا 14 : 26.
(12) متى 7 : 1.
(13) سورة الشورى رقم 42 الآية 10.
(14) سورة النساء رقم 4 الآية 123 - 124.