إنّ نصوص الإسلام كدين تقول إنّ الدين لم يبتدىء بمحمد، بل بإبراهيم، جرياً على تقاليد اليهود، وإنّ الوحي نزّل على محمد لتأييد الكتب السابقة (التوراة والإنجيل) ولتذكير الناس الذين جاءتهم الكتب ولإنذار الذين لم يأتهم قبل محمد من نذير. فكشْف الدين للمرة الأولى مقصود به الآخرون، أي الذين لم يأتهم نذير قبل محمد. أمّا أهل الكتاب فقد نزل القرآن مصدقاً لما معهم، فلا خلاف في أنه الدين أو أنه والقرآن دين واحد ورسالة واحدة.
ليس ما قررناه في الفقرة المتقدمة مجرّد تأويل لبعض آيات قرآنية التقطت التقاطاً، كما جرى ويجري لكتّاب كثيرين مسلمين ومسيحيين يكتفون بسماع قول أو آية واحدة أو بضع آيات من القرآن أو الإنجيل ليؤوّلوا الدين الإسلامي أو المسيحي كله على ما يستنتجون منها، من غير معرفة بحقيقتها، بل هو نتيجة درس علمي استقرائي لنشأة الرسالة الإسلامية وتطورها وتدبّر لما ورد من الآي في هذا الباب في جميع سور القرآن من أول سورة إلى آخر سورة.
ولا بد من الإشارة، في هذا الصدد، إلى أنّ درس القرآن ليس بالشيء الهيّن. وكثير من المقبلين على قراءته يضلون فيه لسبب عدم وجود أي تنظيم موضوعي أو حادثي في ترتيب سوره وآياته، فقد ذكرنا في حلقة متقدمة أنّ الذين جمعوا القرآن رتبوا السوَر المدنية أولاً نظراً لأهميتها الشرعية، على أنّ ذلك ليس كاملاً في الصحة، أي أنه إذا كانت العناية وجهت إلى أحكام الشرع، قبل كل شيء، فإنه لم تجرِ أية محافظة على هذه القاعدة، فالسور التشريعية لا تأتي متعاقبة. هذا والسوَر عينها لا محافظة
في كل منها على موضوع واحد، بل تأتي في السورة الواحدة عدة مواضيع فمنها الذكر ومنها القصص ومنها التشريع المقتضب. وينقطع التشريع في الموضوع الواحد أو يتم في إحدى السوَر فيظن القارىء أنّ الموضوع قد كمل وأنّ الغاية قد تمّت فإذا في سورة أخرى عودة إلى معالجة الموضوع عينه وإذا هنالك تعديل أو زيادة لما ورد قبل.
وقد تبيّن أنّ الطريقة التي اتبعت في جمع سوَر القرآن وترتيبها هي طريقة اختيار الطول والقصر فالسوَر الطوال تأتي أولاً وتليها الأقل طولاً ثم الأقصر، إلى الغاية في القصر من غير محافظة على الدقة الكلية في ذلك فإذا كان الفرق آيات قليلة فلا لزوم للتقديم والتأخير. وقد وضعت سورة الفاتحة في أول القرآن لأن النبي عدّها فاتحة الكتاب فسمّيت «أم القرآن». وتأتي بعد الفاتحة التي هي نوع من الصلاة والتسبيح سورة البقرة وآيها 286 وتليها سورة آل عمران وآيها 200 ثم تليها سورة النساء وآيها 176 وهكذا دواليك. ومن أراد أن يدرس القرآن درساً علمياً على هذه الطريقة لا يصل إلى نتيجة صحيحة. فيحتاج إلى درس التواريخ وكتب السيرة ويضطر لترتيب القرآن ترتيباً جديداً على النسق الحادثي أو التعاقبي الذي يُعرف به أية سورة هي السابقة في الوحي، وأية هي اللاحقة. فيعرف كيف نزل القرآن والحالات التي نزلت فيها كل سورة. فيتتبع تطور الرسالة بتطور حالاتها ويفهم علاقة استنزال الآيات بالحالات والحوادث الجارية، وينتهي إلى فهم حقيقة المقصود من آيات إذا جُرّدت عن الحالات والحوادث ظهرت متضاربة أو غير منطقية، كما ظهر من تجريد السيد [جمال الدين] الأفغاني والشيخ محمد عبده آية «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله»(1) الإنجيلية من الحالة والحادث اللذين قيلت فيهما، فبدت غير منطقية ولكن حين درسنا هذه الآية ووضعناها في محلها ظهر لنا بجلاء أنها على العكس تماماً مما فهمه منها الكاتبان المذكوران اللذان لم يكلّفا أنفسهما مشقة مراجعة الإنجيل وفحص حقيقة أمر هذه الآية وفي أي موقف قيلت. وكما جرى لهذين الكاتبين وغيرهما من إساءة فهم الآي الإنجيلية بسبب عدم درس علاقة الحوادث والحالات بالآيات، كذلك جرى ويجري لهما ولغيرهما في الكلام على الآي القرآنية من غير قرن كل آية بالحادث أو الحالة الذي استنزلت فيه.
قد رأينا كيف أسيء فهم بعض الآيات المسيحية، فلنرَ كيف أسيء ويمكن إساءة فهم بعض الآيات الإسلامية فنأخذ مثلاً هذه الآية: «وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسـك عليك زوجـك واتق الله وتخفي في نفسـك ما الله مبديه وتخشـى الناس والله أحق أن تخشاه. فلما قضى زيد منها وَطَراً زوجناكها لكي لا يكون على
المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً وكان أمر الله مفعولاً»(2). فإن من يقرأها لأول مرة ومن غير علم بما دار عليه كلامها يكاد لا يفهم لها محصّلاً ثابتاً لنفسه. والقسم الأخير الشرعي منها إذا قصد منه جواز الاقتران بمطلقة مسلمة فالحكم وارد بصورة واضحة في سورة البقرة وغيرها من السوَر ولكن المسألة تصبح واضحة تماماً بعد معرفة الحادث المختصة به الآية، وهو أنّ محمداً كان قد عتق زيد بن حارثة وكان زيد قد تزوج امرأة اسمها زينب «فأبصرها، محمد، بعد ما أنكحها إياه فوقعت في نفسه فقال: «سبحان الله مقلّب القلوب» وسمعت زينب بالتسبيحة فذكرت لزيد ففطن لذلك ووقع في نفسه كراهة صحبتها»(3) فطلقها لكي لا يكون حاجزاً بينها وبين ولي نعمته فاتخذها محمد زوجة من غير واسطة عقد بسبب أنّ الآية نزلت فيها. فكان ذلك حادثاً يقتضي نظرة خاصة نظراً للعلاقة وصلة المنزلة بين السيد والمولى أو الدعيّ وكان حدوثه وسيلة لنزول الآية التي أباحت للمؤمنين اتخاذ نساء أدعيائهم «إذا قضوا منهن وطراً»(4). هذا مثل في التشريع والأمثلة في الإرشاد والوعظ والوعد والوعيد كثيرة وكلها تؤيد أنّ الاستدلال على معنى الآيات، مسيحية كانت أم إسلامية، بصورة استبدادية ومن غير رجوع إلى موضع الآية وموضوعها والحالة أو الحادث الذي نزلت فيه هو أمر كثيراً ما يفضي إلى غير أو عكس المقصود من الآيات الدينية التي منها ما هو مطلق ومنها ما هو مقيّد فيجب فهم كل ذلك بدقة لإصابة المعنى الحقيقي والغرض المقصود من الآيات.
ولذلك نعود فنقول إنّ فهم كون النص القرآني على نوعين: في الدين وفي الدولة، يقتضي تدبراً لا يمكن أن يحصل من الابتداء بدرس القرآن حسب ترتيبه، أي بالابتداء بالفاتحة ثم بالبقرة فبآل عمران فبالنساء فبالمائدة، الخ. فإن هذا الترتيب بعيد عن إعطاء القارىء صورة صحيحة للرسالة الإسلامية والمواضيع المحلية والعامة التي عالجتها. والصواب أن يُبتدأ بسورة العلق فبالقلم فبالمزمل فبالمدثر، الخ. حسب تعاقب السـور كما أعلنها النبي وليس حسـب تـرتيب السـور الاستبـدادي في القرآن. فإن أول سورة نزلت هي العلق وليست الفاتحة وثاني سورة نزلت هي القلم وليست البقرة وهكذا على التوالي.
والآن نعود إلى متابعة ما بدأناه في هذه الحلقة في ما يثبته النص القرآني لما هو الدين. فإن بداءة الرسالة الإسلامية لم ترمِ في الأصل إلى غير الأغراض الدينية الثلاثة التي عددناها في الحلقة السابقة ولم يكن فيها شيء يشتمّ منه رائحة التفريق أو التمييز بين رسالة محمد ورسالات الأنبياء السابقين، من عهد نوح وإبراهيم، الذي ظهر في أواخر الرسالة بقوله: «هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون»(5). وهو من شؤون الإسلام كدولة أكثر كثيراً مما هو من شؤون الإسلام كدين أو هو من الشؤون الدينية المقصود بها معالجة الحالة السياسية الداخلية في العُربة، وليس مقصوداً بها إقامة الأغراض الدينية الصافية أو الأغراض الدينية - الاجتماعية الصحيحة التي عددناها في الحلقة السابقة، لأن الأغراض الدينية الصحيحة هي عينها في الإسلام وفي المسيحية وفي اليهودية، إلا أنّ هذه الأخيرة خرجت من مبدأ الخير العام فقط.
قلنا آنفا إنّ نصوص الإسلام كدين تقول إنّ الدين (أي الدين الصحيح) لم يبتدىء بمحمد، بل بإبراهيم، وقد ذهبت هذه النصوص إلى أكثر من ذلك فقالت إنّ الإسلام نفسه لم يبتدىء بمحمد، بل بإبراهيم «قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قِيَماً ملّة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين»(6). «ملّة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل»(7). وهذا الكلام هو نهج السوَر المكية التي فيها أساس الدين وجوهر أغراضه وإن تكن الأخيرة مدنية. ومن نهج السوَر المكية قوله «إنما أُمرت أن أعبد رب هذه البلدة (البلد الحرام) الذي حرمها وله كل شيء وأُمرت أن أكون من المسلمين»(8).
مما لا شك فيه أنه يهمّ كل دارس عالم محقق معرفة أول كلام فاه به محمد في تأدية رسالته، لأن الكلام الأول هو إعلان الرسالة وعنوانها ومبدأها، وما يأتي بعد يكون تابعاً له ومؤيداً إياه ومكملاً لغرضه. فهو الأساس وما يأتي بعد هو البناء الذي لا يحيد ولا ينحرف لئلا يسقط. فماذا كان أول شيء أعلنه محمد للذين اقتربوا منه؟ ما هو الإلهام الذي حلّ عليه والنور الذي أبصره؟ ما هي الدعوة وإلى أي شيء هي؟
هذه الأسئلة وغيرها تدغدغ مخيلة كل مفكر عميق يريد أن يعرف بداءة الفكرة ومنتهاها ويحيط بتطوراتها وتفاصيلها ليحصل له الفهم الكامل لها. وبدون هذه المعرفة وهذه الإحاطة يكون فهم الرسالة جزئياً مبعثراً أو متضارباً وهو ما يوقع في الهوس المنحرف الذي لا يفتأ يصطدم بما حوله. فماذا كان أول ما أعلنه محمد من الوحي؟
كان سورة العلق وهي تسع عشرة آية قصيرة وهذا نصها: «بسم الله الرحمن الرحيم. إقرأ بسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. إقرأ وربك الأكرم. الذي علّم بالقلم. علّم الإنسان ما لم يعلم. كلا إنّ الإنسان ليطغى. أن رآه استغنى. إنّ إلى ربك الرجعى. أرأيت الذي ينهى. عبداً إذا صلى. أرأيت إن كان على الهدى. أو أمر بالتقوى. أرأيت إن كذّب وتولى. ألم يعلم بأن الله يرى. كلا لئن لم ينتهِ لنسفعاً بالناصية. ناصية كاذبة خاطئة. فَلْيدْعُ ناديه. سَنَدْعُ الزبانية. كلا لا تُطِعْهُ واسجد واقترب»(9).
ومن درسنا هذه السورة نرى أنها اشتملت على الأمور الآتية: 1 - ذكر إسم الله ونعوت له. 2 - القول بالمعاد أو الحشر. 3 - إنذار المكذّب الناهي عن الصلاة بسوء العاقبة.
ويجد الدارس في هذه السورة طابع القرآن الذي لازمه حتى آخر سورة. ومن مقابلته على التوراة والإنجيل يتضح أنه أشبه شيء بالمزامير في التوراة منه بأي قسم آخر. فهو شعري ترتيلي أكثر مما هو تعليمي أو إخباري. والقصص فيه، كما في المزامير، أخبار قليلة مقتصرة على ما يفيد عبرة أو مغزى ولا تتناول فلسفة الخليقة وتعليلها، ذلك أنّ القرآن يعدّ هذه الفلسفة موجودة في الكتب السابقة التي جاء مصدّقاً لها. ولذلك اتصف القرآن بالحضّ والتهويل. وإذا ذكر كيفية الخلق ذكرها بصور شعرية مقصود منها التأثير على السامع أكثر من تعيين كيفية الخلق أو كيفية حدوثه بصورة ثابتة من باب سرد الواقع. وهذا الأسلوب واضح في السورة الأولى بقوله:
«إقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. إقرأ وربك الأكرم. الذي علّم بالقلم. علّم الإنسان ما لم يعلم»(10)) فقوله «خلق الإنسان من علق وعلّم بالقلم» مقصود منه تصوير عظمة الخالق وقدرته تصويراً شعرياً يؤثّر في الشعور أكثر مما هو مقصود منه إعطاء تعليل فلسفي لكيفية الخلق أو كيفية التعليم. فالله، من الوجهة الدينية، علّم بالقلم وبغير القلم وخلق من علق ومن غير علق، كما يعود القرآن فيذكر في السورة التالية. ولكن قوله: «من علق وبالقلم» هو من لوازم السجع والتصور الشعري أكثر مما هو من باب التبيان الفلسفي المنطقي. وكذلك قوله: «لنسفعاً بالناصية. ناصية كاذبة خاطئة»(11) فهو من باب التصور الشعري لحالة المذنب وذلّه إذ يُجرّ من ناصيته إلى العذاب وليس تقريراً لكيفية سوق المذنب إلى جهنم على وجه التحقيق، أيكون ذلك بالقبض على الناصية أو بربط اليدين أو بطريقة أخرى.
والسورة الثانية (القلم) لا تشتمل على سوى تحذير من المكذبين ووعيد العذاب ووعد الأجر. والثالثة (المزمل) فيها أول تعظيم لله وقدرته بصورة بارزة وأول إنذار «والمكذبين أولي النعمة»(12) بالعذاب وأول ذكر «للجحيم»(13) وفيها تعيين صفة القرآن بقوله في الآية الرابعة «ورتِّل القرآن ترتيلاً»(14) وفي هذه السورة تعيين أنّ محمداً مرسل إلى «المكذبين أولي النعمة» وهم صناديد قريش المهيمنون على القبائل العربية كما كان موسى مرسلاً إلى فرعون. والآية تقول «إنّا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم. كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً»(15). وذكر موسى وفرعون في هذه السورة قبل ذكر الأخبار التاريخية المتعلقة بالحادث الذي ترويه التوراة يفترض أنّ الأخبار معروفة مما جاء في التوراة. وفي هذه السورة أول ذكر لاحتمال وجود «آخرون يقاتلون في سبيل الله»(16) من غير دعوة إلى القتال أو تحريض عليه. فيختفي ذكر القتال من السوَر في المدة المكية. وهي ثـلاث عشـرة سنة. وقال البعض إنّ المدة المكية عشـر سنـوات فقط. والمرجح الأول. وتأتي بعد المزمل سور كثيرة كلها ترتيل وتسبيح كالفاتحة أو المدّثّر التي تأتي قبلها وفيها «يا أيها المدّثّر. قم فأنذر. وربك فكبّر... فإذا نقر في الناقور. فذلك يومئذٍ يوم عسير...»(17).
وقد رأينا في السورة الثانية ذِكْرَ موسى وفرعون. وإننا نرى في السورة الثامنة (الأعلى) ذكر «الصحف الأولى. صحف إبراهيم وموسى»(18) وهو يدل على الاتصال بالتوراة أولاً قبل الاتصال بالإنجيل. فذِكْرُ المسيح يأتي في سورة متأخرة. وأول إشارة إلى أخذ العلم به هي في (الجن) بقوله «وأنه تعالى جَدُّ ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولداً»(19) ولا ذكر غير ذلك للمسيح ورسالته. ومحصّل الآية استنكار أنّ الله اتخذ امرأة ولدت له ولداً كسنّة الرجال المخلوقين وعدم إمكان اعتبار بنوية المسيح لله، التي يقول بها المسيحيون، إلا حادثاً من تزاوج بيولوجي. وبعد اتصال القرآن بالإنجيل أكثر يتعدل هذا الحكم نوعاً بالقول إنّ المسيح ولد «من روح الله»(20) رأساً.
بعد مرور ثلاث وثلاثين سورة على ابتداء الرسالة المحمدية وكلها سوَر ترتيلية تسبيحية تدعو إلى الإقرار بالله وتنذر «المكذبين»، تبتدىء الرسالة تتخذ شكلاً من الدعوة الواضحة في سورة ق بقوله: «ق والقرآن المجيد. بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب. أإذا متنا وكنا تراباً ذلك رجع بعيد»(21). فواضح أنّ الكلام موجّه إلى جماعة الرسول التي لا تؤمن بالبعث. وهو مؤيد بآيات كثيرة تأتي بعد قوله «لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم فهم غافلون»(22). وقوله قبل ذلك: «ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر»(23). وتتكرر هذه الآية في سورة القمر. وفي سورة الحجر إنّ القرآن هو الذكر بقوله: «وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون»(24). ويزداد غرض الدعوة وضوحاً بقوله في (يونس): «أكان للناس عَجَباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشّر الذين آمنوا أنّ لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إنّ هذا لساحر مبين»(25). وقوله: «الذين آمنوا» لا يقتصر على الذين اتبعوا محمد، بل يتناول الذين آمنوا بالكتب السابقة. وهذا التأكيد مؤيد بآيات من السورة عينها كقوله: «وما كان هذا القرآن أن يُفترى من دون الله ولكنْ تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين»(26). وقوله: «ولكل أمة رسول» وقد أثبتناه سابقاً وقوله: «فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين»(27). وهذه الآية تقول بالرجوع إلى الكتب المنزلة من قبل (التوراة والإنجيل) للاستشهاد وتأييد صحة كلام القرآن ودعوته إلى الله الحي، وترك عبادة الأصنام والإيمان بالبعث. ويتلو التأييد التأييد كما في سورة الأنعام بقوله: «وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون»(28). وهذا يعني أنّ الذين آمنوا بالآخرة من قبل في التوراة والإنجيل يؤمنون بالقرآن أيضاً لأنه مصدق لما معهم، ولا يتوجب عليهم تغيير «صلاتهم» أو طرق دينهم لأن القرآن لا ينقضها. وهو يخاطب الأنبياء قائلاً: «إنّ هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون»(29). وجميع هذه الآيات وطائفة كبيرة غيرها، منها ما ذكرناه في الحلقات السابقة ومنها ما لم نذكره، يؤيد قولنا إنّ أغراض الدين الأصلية، وهي التي عددناها في الحلقة السابقة (ص 161 أعلاه)، ليست مما لم يوجد إلا بالقرآن وإنّ القرآن بالذات يعترف بأن غرض الدين وُجِدَ من قبل بما نزل من الكتب السابقة التي تقدمت القرآن والتي يجب أن يكون القرآن مطابقاً لها ليصح أن يشهد «الذين يقرأون الكتاب»(30) بأنه «الحق من ربك»(31)، أي مطابقاً لها في أساس الدعوة إلى الله وفعل الخير وترك الشر والإيمان بالآخرة وليس في ما اختلف فيه الناس في صفات الرسل ومنازلهم.
(1) لوقا 25:20.
(2) سورة الأحزاب رقم 33 الآية 37.
(3) البيضاوي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، ج 4 ص163.
(4) سورة الأحزاب رقم 33 الآية 37.
(5) سورة الصف رقم 61 الآية 9.
(6) سورة الأنعام رقم 6 الآية 161.
(7) سورة الحج رقم 22 الآية 78.
(8) سورة النمل رقم 27 الآية 91.
(9) سورة العلق رقم 96 الآية 1 - 19.
(10) سورة العلق رقم 96 الآية 1-5.
(11) سورة العلق رقم 96 الآية 15-16.
(12) سورة المزمل رقم 73 الآية 11.
(13) سورة المزمل رقم 73 الآية 12.
(14) سورة المزمل رقم 73 الآية 4.
(15) سورة المزمل رقم 73 الآية 15.
(16) سورة المزمل رقم 73 الآية 20.
(17) سورة المدّثّر رقم 74 الآية 1-8:3-9
(18) سورة الأعلى رقم 87 الآية 18-19.
(19) سورة الجن رقم 72 الآية 3.
(20) سورة يوسف رقم 12 الآية 87.
(21) سورة ق رقم 50 الآية1-3.
(22) سورة يس رقم 36 الآية 6.
(23) سورة القمر رقم 54 الآية 17.
(24) سورة الحجر رقم 15 الآية 6.
(25) سورة يونس رقم 10 الآية 2.
(26) سورة يونس رقم 10 الآية 37.
(27) سورة يونس رقم 10 الآية 94.
(28) سورة الأنعام رقم 6 الآية 92.»أم القرى» : مكة.
(29) سورة الأنبياء رقم 21 الآية 92.
(30) سورة يونس رقم 10 الآية 94.
(31) سورة يونس رقم 10 الآية 94.
(32) سورة الأنفال رقم 8 الآية 39.
(33) سورة البقرة رقم 2 الآية 85.