قلنا في المقالة الأولى من هذه السلسلة إنه لم يكن بأس، حين كان رشيد سليم الخوري ناظماً يحبّذ، على طريقته، كل حركة أو مظهر وطني، بسماع منظوماته مع الإغضاء عن عواهنها. وهكذا أخذ الخوري يُكثر من النظم، وكان النظامون في البرازيل قليلين. وكانت كل جمعية، خيرية كانت أم أدبية أو سياسية، تدعوه لإلقاء قصيدة في حفلة تقيمها، وذلك جرياً على القاعدة المدرسية القديمة التي تقول بوجوب تخلل القصائد الخطب لكي تأتي الحفلة أنيقة متنوعة فكان لا بد من الالتجاء إلى ناظم يلبّي الطلب. وكان رشيد الخوري أكثر تلبية، لأن الشهرة غرارة مغرية. فصار يقف على المنابر في الحفلات التأبينية والإكرامية وفي الولائم والأعراس. والصحف كانت تنشر في أخبارها المحلية حوادث الحفلات والخطب والقصائد التي قيلت. وبالتدرج صار رشيد الخوري معروفاً في جميع أوساط البرازيل. ثم صار يتصل ببعض الجرائد والمجلات في مصر ويرسل إليها قصائد فكانت تنشرها له كما تنشر مقالات لأي شخص يقدر أن يدبّر لها مشتركين ويقوم بالإذاعة لها. وكم من قصيدة أرسلها رشيد الخوري إلى أكثر من صحيفة عارضاً عليها أن تنشرها «إذا راقت لها».
والظاهر أنّ رشيد الخوري نسي هذه الحقائق حين كتب إلى العلم العربي في هذه المدينة (بوينُس آيرس) مقالته التي نشرتها له الجريدة المذكورة في عددها الصادر في 5 مارس/آذار الماضي، خصوصاً حين قال هذه العبارة عن نفسه، إنه لا يجوز لأحد أن يظهر عيوب أدبه، لأن ذلك يكون «استخفافاً بعقول عشرات فحول الأدب الذين شهدوا له بالشاعرية وبمئات وألوف غيرهم من الأدباء والمتأدبين الذين يتناسخون قصائده ويحفظونها عن ظهر قلب. وبشتى الجرائد والمجلات في الشرق والغرب التي تتناقل شعره ونثره.»
أما «عشرات فحول الأدب» الذين يعنيهم فهم أمثال شكيب أرسلان وأمين الريحاني من سياسيي الأدب، وأمثال حسن كامل الصيرفي المطلوب منه تقريظ الكتب التي ترد إلى بعض المجلات المصرية بقصد اكتساب مودة أصحابها، وبعض أدباء الطراز العتيق الذين لم يكونوا يرون الشعر غير أوزان متناسقة وألفاظ جزلة وقوافٍ سهلة ونسيب جميل وغزل ممتع وهجو شديد، وغير ذلك من الأدب اللفظي الذي لا علاقة له بقوة التصور وابتداع الفكرة. وقد عرضنا لهؤلاء «الفحول» في الحلقة الثالثة فليراجعها من يهمّه الأمر هناك.
وأما «شتى الجرائد والمجلات» فقد ذكرنا حقيقة أمرها في ما تقدم من هذا المقال وفيه كفاية لمن لم يكن قصده الجدل الممل بقصد المماحكة.
بقي أن نقول إنه وردت في مقالة الخوري المذكورة عبارات أرسلها اعتباطاً كعادته. فخرج من دائرة البحث الأدبي إلى دائرة أخرى يلذّ له الدوران فيها. فتكلم على «ناهشي أعراض كأرذل الغوغاء» وهو يريد كاتب هذا البحث. والسبب في التجائه إلى هذا السبّ، على ما يظهر، هو تناولنا بالبحث قصيدته التي يروي فيها حادثة وقعت له مع فتاة أو تصوّر جمال وقوعها له وهي التي يقول فيها «من ذاق شهدك لم يخف من سمّك.» والتجاؤه إلى هذه الطريقة لتبرير سبّه ليس سوى دليل جديد على اضطراب شعوره واختلال منطقه. فنحن لم نَقْفِ أثراً من آثار حياته الخاصة ولم نرمه، لا سراً ولا جهراً، بشيء من أشيائه الخصوصية كما حاول أن يفعل هو ضد زعيم الحركة السورية القومية باختلاقه أشياء عن خصوصياته اختلاقاً. ولكننا تناولنا فقط ما أبداه هو من قول أو كتابة مما له علاقة وثيقة بالأمور العمومية.
نحن لم نتناول سيرة رشيد الخوري الداخلية، مع أنه عندنا منها بعض الخبر مما وصل إلينا اتفاقاً. وإذا كانت طبيعة رشيد الخوري قد انكشفت بواسطة هذه المقالات، وإذا كانت حيوانية تصوراته قد ظهرت بهذا المظهر الباهر، فذلك لأنه هو الذي هتك ستره بيده وخرق عرضه بقلمه. إنه هو الذي نظم تلك القصيدة الحيوانية المعيبة التي صوَّر بها شهواته وإحساساته أبدع تصوير. ونحن لم نتناول الحادثة بالذات، بل تناولنا القصيدة التي نظمها هو نفسه في الحادثة، لأن هذه القصيدة هي جزء من منظوماته التي نعالجها. فإذا كان هنالك نهش أعراض (وهذه العبارة قد نقلها نقلاً، على عادته، عن بعض مقالات قومية كتبت في بعض المطرودين الذين أخذوا ينتقمون بنهش الأعراض) فهو هو الناهش لا غيره.
وقد حاول أن يستر «الشاعر الشهير» فضيحته بنسبته تلك القصيدة إلى «أوائل العقد الثاني» من عمره، إلى سن تتراوح بين الحادية عشرة والثالثة عشرة. ونحن قد لطّفنا هذا المقدار في المقال السابق فجعلنا العقد الثالث في مكان الثاني، وتكلمنا عن ابن اثنتين وعشرين سنة من الجهل. فإذا شاء أن نعود عن هذا التلطيف كان ذلك شراً له، لأنه إذا كان صحيحاً أنّ القصيدة المذكورة نظمت في سنيِّ العقد الثاني الأولى وهي بعد سنيِّ الطهارة والمحبة الساذجة، فيا بئس ناظم شب على هذه الشهوات والتصورات القبيحة!
وحاول أن يجد «القروي» مبرراً لنشر تلك القصيدة التي تكشف ناحية عميقة من نفسيته المادية بالقول إنه «حرص على إثباتها مع ذكريات تلك السن.» ولو كان هذا هو الصحيح لكان المنطق يقضي عليه بتخبئتها بين محفوظاته الخصوصية، كما أشرنا منذ البدء، في المقالة الثانية التي ذكرنا فيها هذه القصيدة لأول مرة. فنحن كنا غيورين على عرضه أكثر من غيرته هو عليه حين قلنا في هذا الصدد في المقالة الثانية المنشورة في العدد السابع من الزوبعة هذه العبارة: «والقصيدة كلها تصور شخصي لحالة خصوصية تتعلق بالناظم وحده. وكان يجب أن تبقى من خصوصياته الداخلية التي لا لزوم لإطلاع غيره عليها.» (ص 13 أعلاه)
ولا نتناول باقي مقال الخوري إلى العلم العربي بكثير أو قليل، لأنه لا يمثل غير ادعاء سخيف هو مزيج من مكابرة الصغار وحنق القاصرين. وفيه محاولة هزيلة لتقليد كتابة كاتب هذا البحث وانتحال عباراته كقوله «حين أرى وأسمع عرباً يسبّون جنسهم وقومهم أقبح السبّ» الذي ليس سوى تقليد لما أظهرناه في المقالات السابقة من التجاء رشيد الخوري، في كل مناسبة، إلى تحقير السوريين ورميهم بطبيعة العبودية ليظهر هو بمظهر الأبي الأوحد. ولا حاجة للعودة بالقراء إلى جميع الشواهد التي تقدمت.
ويجب إضافة هذا التعليق على مقال الخوري وهو أنه يرى الأبحاث الأدبية نوعاً من الترامي الشخصي بالمهاترة. فهو يتكلم عن «رشق الناس من وراء جدران الأسماء» أي خيفة من أن يتعرض الراشقون للرشق. فالمسألة عنده هي مسألة تراشق شخصي. وهذا يعني أنه، لعجزه عن الدفاع عن منظوماته ومنثوراته في نفسها، يريد أن يرشق الذي أبان عيبها للناس كما يثبت ذلك في قوله «ولقد يروقني أحياناً أن أتسلى بهجو بعض هذه الغيالم التي يزعجني نقيقها ليل نهار - والهجو باب من أبواب الشعر العربي (ومن أبواب النثر أيضاً يا ناسي) ينفتح لي على مصراعيه عندما أريد، الخ.» فالتطاحن الشخصي بالهجو هو كل ما فهمه ويفهمه الخوري من غرض النقد الأدبي. ولقد قلنا في المقالة السابقة إننا لا نكلف الخوري ما هو فوق طاقته فليهجُ سراً وعلناً ما طاب له الهجو وما وجد لتفريج كربه به سبيلاً فليس ذلك بمانعنا عن متابعة بحثنا لإيضاح الحقائق وإرجاع القيم الأدبية إلى منزلتها السامية التي حطها عنها «علاّكو» الأوزان الذين يمثلهم رشيد الخوري أحسن تمثيل، وهو ما يجعلنا نسهب في هذا البحث، لأن المسألة ليست مسألة «علاّك» أوزان واحد يتهم غيره «بعلك» الأوزان ليدفع الأنظار عنه، بل مسألة «علاّكين».
نعود الآن إلى متابعة البحث في غرض هذه المقالات الأساسي الذي هو تبيان الأدب الانحطاطي وأضراره على نفسية الشعب وتبيان عوامل النفسية المخربة التي تدفع أصحاب هذا الأدب إلى العيث فساداً في الشعب، والعبث بمثُله العليا وإرجاعه إلى الفتنة والأحقاد الدينية التي أتلفت الزرع وأهلكت الضرع.
وبعد أن فرغنا من إيضاح حقيقة «شاعرية» رشيد الخوري وإعطاء منظوماته الوطنية واللاوطنية قيمتها، نمدّ هذا الدرس في الأدب إلى «محاضرته» التي نشرها في جريدة الرابطة التي تصدر في سان باولو، البرازيل، في سلسلة أعداد ابتداءً من العدد 527 الصادر في 8 يونيو/حزيران الماضي وانتهاءً في العدد 541 الصادر في 14 سبتمبر/أيلول الماضي وعدد أقسامها ستة. وموضوع «المحاضرة» المذكورة «المسيحية والإسلام» وغرضها تفضيل الدين الإسلامي على الدين المسيحي.
إنّ هذه «المحاضرة» التي تعيد تفكيرنا إلى العهود الأولية المشؤومة لجديرة بالنقد الدراسي، لأنها من أفضل الأمثلة على قحة «الواغلين» على الأدب الذين يذكرهم رشيد الخوري ولا يذكر نفسه بينهم، كما أغفل ذكر نفسه مع «علاّكي» الأوزان الذين أشار إليهم في مقدمة «أعاصيره»، وعلى سفسطة القافزين فوق سياجات العلم والفلسفة.
إنّ البحث في طبيعة دينين جليلين كالمسيحية والإسلام يجب أن تستتب له شروط سابقة من التضلع في العلم والفلسفة. ففي هذا البحث لا يكفي الغوص على المفردات اللغوية والتدقيق في أشكال العروض، ولا يفي به الاستعارات من كبار الكتّاب ولا تجدي أساليب البيان والبلاغة في صوغ العبارة.
وقد عرفنا رشيد سليم الخوري ناظماً وناثراً ولكننا لم نعرفه من أهل الفكر والبحث. فهو أبعد ما يكون عن التفكير والبحث والدراسة والاستقصاء. وقد رأينا من الدراسة المتقدمة لمنظوماته أنه ليست لها فكرة أساسية وأنّ مواضيعها مستمدة من الفِكَر الشائعة في بيئته. ولكنه أبى إلا أن يغل على المباحث الفلسفية والعلمية ظاناً أنّ الكلام فيها كالكلام في غيرها، «وكله عند العرب صابون».
قرأنا «محاضرة» الخوري في المسيحية والإسلام فوجدناها أبعد ما يكون عن أصول المحاضرات وشروطها وأجدر أن تسمى بالحارضة من أن تسمى محاضرة. وما أقدم رشيد الخوري على حسبان كلامه محاضرة إلا لجهله مفاد لفظة المحاضرة العلمي وأصولها وشروطها. فالمحاضرة اصطلاح علمي يقابل اصطلاح الفرنج على لفظة «كنفرنسيا» وهي عند العلماء وفي دوائرهم إسم نوع للأبحاث الجليلة التي يقوم بها علماء وأهل الدرس والبحث والتنقيب، بقصد الوصول إلى حقيقة أساسية أو نتيجة علمية بالاستقراء والتحليل والتعليل في جو من العلم والفلسفة هادىء، بعيد عن النعرات، منزّه عن التعصب. ومن أهم شروط المحاضرة وامتيازها على الخطاب أنها تكون درساً هادئاً لا التجاء فيه إلى استفزاز الشعور والضرب على الوتر الحساس من حزبية أو عصبية عند الجمهور أو ميول جامحة. ومن شروط المحاضر أن يتجنب كل ما من شأنه إثارة الشعور والتحريض والتهوس. فإذا خلت هذه الشروط لم تكن هنالك محاضرة. ولـمّا كان رشيد الخوري يجهل هذه الأغراض العلمية السامية ويجهل أصول المحاضرة وشروطها والفرق بينها وبين الخطاب فقد ظن أنّ الفرق بين المحاضرة والخطاب هو في الطول والقصر وعدد الكلمات. فإذا كان الخطاب طويلاً صار، في عرفه، محاضرة. وإذا كانت المحاضرة قصيرة كانت، في عرفه، خطاباً.
والحقيقة التي نستخرجها من دراستنا لشخصية رشيد الخوري الأدبية هي أنه لا يميّز في كل ما يقال ويكتب إلا بين شيئين: النظم والنثر. فما كان مرتباً في أوزان وقوافٍ فهو نظم وما كان مرسلاً عبارات وجملاً تامة بالمعنى والمبنى من غير ترتيب أوزان ولا تنسيق قوافٍ فهو نثر. فكل كلام غير موزون ليس له عنده غير صفة النثر. وهكذا الأدب والعلم والفلسفة والفن ليست عنده سوى أشكال من النظم والنثر. ولذلك سمى نثره في المسيحية والإسلام محاضرة، أي نثراً طويلاً!
يقول رشيد الخوري إنّ الهجو ينفتح له على مصراعيه عندما يريد، وهذا هو الواقع. والواقع أيضاً أنه ميال إلى الهجو وأنه يتردد كثيراً بين الهجو والمدح. وكلامه على المسيحية والإسلام ليس سوى هجو للمسيحية ومدح للإسلام في شكل نثري. فهو لا يصح أن يسمى خطاباً يثير الشعور الحي لقضية حقة، فضلاً عن أنه لا يصح أن يسمى محاضرة.
وفيما رشيد الخوري يظن أنه يمدح الإسلام صدقاً ويهجو المسيحية حقاً، إذا به يطعن الإسلام في صميم عقيدته من حيث لا يدري، لأنه يعتقد أنّ التدجيل والرياء يستران القبائح. ونحن لا نصدق أنّ مسلماً واحداً مدركاً لحقيقة رسالة النبي العربي يقبل كلام الخوري الذي ظاهره تأييد للإسلام وباطنه هدم للعقائد الإسلامية الصحيحة. وسيجيء تبيان ذلك.
هاني بعل
للبحث استئناف