رأينا في المقالة السابقة أنّ رشيد الخوري وصف نفسه والنظّامين الذين على شاكلته وصفاً صحيحاً حين نسب إلى من يتهكم عليهم هذا القول: «إن هم إلا صبية أغرار يحرضونكم (أي النظّامون) على المطالبة بالحرية.» وقلنا في التعليق على هذا الوصف الذي استسخفه الخوري من غير نظر في انطباقه على الواقع:
«فالتحريض على المطالبة بالحرية مع جهل بالعوامل والأسباب والمقتضيات هو الصفة الثابتة في قصائد الناظمين «الوطنيين» الذين ظنوا الوطنية مجرّد قصائد تحريضية يطعنون بها كرامة الشعب النبيل الذي لم يمنعه من مجد الجهاد غير الانشقاق الداخلي وفساد النظام الاجتماعي - الاقتصادي.»
إنّ اللوم والتحريض ورمي الشعب بطبيعة العبودية هي أبعد الأسباب عن توليد نهضة أو إضرام نار ثورة في شعب عملت فيه أيدي التفرقة الدينية، وسحقه الطغيان الاقتصادي - الاجتماعي الداخلي. فعدم قيام الشعب دفعة واحدة لرفع نير الاستعباد الأجنبي عنه ليس سببه عدم وجود محرض بالقصائد والخطب والمقالات الخطابية، بل كان سببه، قبل نشوء النهضة السورية القومية، عدم وجود قاعدة قومية اجتماعية - اقتصادية - فكرية - حقوقية تقيم العدل على أساس الحق ليطمئن كل ذي حق في الأمة إلى حقه بعد جهاده، ويكون من وراء ذلك غسل القلوب من الضغائن والأحقاد وتوحيد الشعور والإرادة.
النهضة القومية لا يمكن أن تكون مسبّبة عن بلبلة فكرية وعدم اطمئنان نفسي. ولكن ذوي التفكير الأولي السطحي، أمثال رشيد سليم الخوري، العاجزين عن طلب الحقائق الأساسية، لم يتعلموا شيئاً غير الصخب والضجيج والاستفزاز اعتباطاً. ولا مغالاة في القول إنّ كثرة الذين اندفعوا يحرضون الشعب ويستنفرونه على غير هدى قد زادت البلبلة وصمَّت آذان قسم كبير من الشعب، كان من نكد طالعه أن يقع تحت تأثيرهم عن سماع صوت الهداية القومية الصحيحة.
ولو كانت النهضة أو الثورة تقوم بالصخب والتحريض لكانت أطنان المقالات والقصائد والخطب التحريضية التي صبها المحرّضون على الشعب السوري وجواليه الموزعة في الأقطار الأميركية كفتنا، من زمان، مؤونة سماع قصائد رشيد الخوري وخطبه التحريضية التقليدية. لو كان التحريض على المطالبة بالاستقلال يولد الاستقلال لكنا استقللنا من زمان!
إنّ رشيد الخوري ليس أول محرّض ظن أنّ التحريض وطنية وأنه وقع على اكتشاف خطير كان مجهولاً من قبل. ولكنه قد يكون أول محرّض أو في عداد أول المحرّضين الضاجّين الصاخبين الذين وهموا أنّ التحريض يقيمهم قادة على الشعب وممثلين لقضيته! وبناءً على هذا الوهم الفاسد قال في قصيدته على غلاف الأعاصير:
أهــيــب بهـــم فــلا ألقــى سميعـــاً
كـــأنـــنــــيَ المنـــــادي والمنـــــادى
ومع أنّ هذا القول هو اعتراف صريح بأن الشعب لا يصيخ السمع لكل محرّض صخّاب ولا ينقاد لكل دعيّ مغرور يظن أنّ الشعوب المتمدّنة التي تتطلب حكمة وفهماً وحنكة في معالجة قضاياها وسياسة أمورها، هي كالقبائل البربرية التي تجمعها الرابطة الدموية فقط، يستنفرها كل صائح ويدفعها كل محرّض، فإن رشيد الخوري عدّ إعراض الناس عن مناداته عيباً فيهم لا فيه هو، وصوّرهم خالين من الشعور في البيت التالي الذي قال فيه:
ألا ذوّقـــتـــهــــم ألمي فـــثــــــاروا
فـــيـــا ربّــــاه لست أنـــا البــــلادا
وقد وهم أخيراً «القروي» أنّ ما لم يتسنَّ له بالنظم يناله بالنثر. فوضع مقدمته لـ الأعاصير.ولما لم يكن الخوري من أهل الفكر وكان في هذا الباب كالطفيليات أو كالحلميّات يمتص مادة إنتاجه من غيره فإنه سلك في نثره المسلك عينه الذي سلكه في نظمه فعدا على أفكار غيره، خصوصاً على الأفكار التي كان يستوثق من شدة قبولها عند الشعب وتأثيرها فيه، كأفكار الدكتور خليل سعاده فلم يمهله حتى وفاته وأخذ من أفكاره وأقواله ما شاء معتمداً على سخاء ذلك المفكر الكبير وتساهله في حقوقه مع المستأدبين من مواطنيه، فحشا ببعضها بعض قصائده وحشا بالبعض الآخر بعض نثره ولم يقتصر على أفكار الدكتور خليل سعاده كما سيجيء.
الإقتباس لا يغيّر طبيعة المقتبس. وكما أنّ أشجاراً معيّنة ليست صالحة لإنبات وإنتاج «طعم» من أشجار أخرى معيّنة كذلك بعض الكتّاب والشعراء ليسوا صالحين لتنمية الأفكار التي يقتبسونها من بعض الكتّاب الآخرين فيبقون على طبيعتهم التي تطل من ثنايا الكلام المقصود تغطيتها باقتباسه وانتحاله.
هكذا نرى عيّ رشيد الخوري يطل من ثنايا الأفكار والصور التي أخذها عن الدكتور خليل سعاده ليوهم الناس أنه كاتب مفكر فضلاً عن كونه «شاعراً مفلِقاً».
إلى أية نتيجة ينتهي رشيد الخوري من انتحاله تهكم الوطني الكبير، الدكتور سعاده، على الذين طلبوا من الشعب أن يثق «بالأم الحنون»؟
إذا كانت مجموعة كتابات العلاّمة الدكتور خليل سعاده ليست أمامنا الآن فقريباً يكون قسم كبير منها بين أيدينا وحينئذٍ ندلُّ القرّاء على صور الأفكار والمعاني كما رسمها قلم ذلك الوطني الكبير الذي يسميه رشيد الخوري نفسه، في قصيدته التأبينية له «أبا الأحرار». ولكن يحضرنا الآن بيتان من قصيدته الثورية التي نظمها وهو بعد في بوينُس آيرس قبل انتقاله إلى البرازيل وهما هذان:
يــقــول لــكم قوم: نريد حماية
وأمــاً حنــونــاً تحضـن الطـفـل مــرضعا
شـبـبنـا عن الأطــواق إنّا لأمـــةٌ
لـهـا سـاعــد يـفــري الحديــد المدرعـا
ونحن نعلم علم اليقين أنّ رشيد الخوري قرأ هذه القصيدة، كما قرأ كل ما كتبه الدكتور سعاده في البرازيل وكثيراً مما كتبه في الأرجنتين.
ومع أنّ الخوري اقتبس هذا المعنى وغيره من المعاني الروحية الجليلة للدكتور سعاده وانتحلها لنفسه، فإن النتيجة التي انتهى إليها هي نتيجة زرية. هي هذه النتيجة: «ذودوا عن بيوت آبائكم وأجدادكم! وإذا كان يشق على أيديكم الحريرية الناعمة أن تجلد بالسياط وتضرب بالسيوف فحاربوا بسعف النخل وأغصان الزيتون! حاربوا بالسلام! حاربوا بالغندية»! وهذا القول يقوله الخوري في معرض الكتابة النثرية! والنثر ليس كالنظم فلا أوزان ولا قوافي ولا رويّ تحول دون إفصاح الكاتب عن كيفية المحاربة بسعف النخل وأغصان الزيتون والمحاربة بالسلام، وعن النتيجة العملية التي تؤدي إليها هذه المحاربة!
لقد حارب السوريون حروباً غير قليلة بالبنادق التي هي أفعل كثيراً من سعف النخل وأغصان الزيتون. فكيف ينكر عليهم «القروي» حروبهم ويجهل أو يتجاهل نتيجة تلك الحروب!
نحن لا نطلب منه أكثر من الاعتراف بهذه الحقيقة، ولا نطلب منه تبيان الأسباب التي انتهت بتلك الحروب إلى الفشل والخسران. إننا لا نطلب من الخوري ما هو فوق طاقته العقلية التي قام الدليل تلو الدليل على أنها محدودة جداً ولا يمكن توسيعها.
طبيعة الصخب والزحير والتحريض العاجزة تعود فتظهر من تحت ما جمع رشيد الخوري فوقها من أقوال عظماء المفكرين. وهو، ليستر عجزه، لا ينفك يرمي غيره بالعجز، بل هو يرمي الشعب كله بالحقارة. فهو الذي نادى الله أن يذوق أبناء وطنه ألمه ليثوروا، أما كان الأحرى به أن يلطم وجهه ويندب حظه بدلاً من تعيير الآخرين. أنظر إليه يقول:
«فالبلاد ماخضٌ بالحوادث الجسام تنتابها الخطوب عدد أنفاسها وأبناؤها بين متهافت على وظيفة يخسر نفسه ليربحها وعابد بغيّاً يسفح شبابه على أقدامها و«علاّك» أوزان... واقف وقفة الغرّ الأبله.»
فأين هو وأين كان هو؟
إنه يقول في مقالة أرسلها مؤخراً إلى العلم العربي وهي الجريدة الوحيدة التي بقيت لتعزيته، إنّ قصيدته المعيبة «من ذاق شهدك لم يخف من سمّك» هي من منظومات سنيِّ العقد الثاني الأولى من حياته. فإذا كان ذلك صحيحاً فلا يكون هو إلا في مقدمة من ينعي عليهم إضاعة زهرة شبابهم في الرذائل.
إنّ ابن اثنتين وعشرين سنة إذا كانت له نفس سامية فهي ترتدع عن إتيان المنكر وتتجه نحو المثل العليا الجميلة.
أخيراً لنصغِ إلى الزحير والندب ولنرَ كيف يقدر «الشاعر القروي» على رمي القيم العالية إلى الحضيض. فهو يقول في ختام مقدمته:
«ألا لبيك أيتها الأم الشاكية في وحدتها، الباكية في وحشتها، إننا على ما بيننا من شاسع البعد نتلقى روحك الذائبة بميازيب أجفاننا، ونرافق أنّاتك المذيبة بوجيب صدورنا، نحن بين غربة تدمي قلوبنا، وجهاد يدمي أقدامنا، وحرمان يدمي عيوننا، الخ.»
إنّ العاجز لا يقدر على مساعدة وطنه بغير النحيب ووجيب الصدر. وهذا أمر مقرر عند علماء النفس. أما تسمية الكدح وراء الرزق والأرباح التجارية «جهاداً» فابتكار في تحقير القيم الروحية العالية يجب أن نسجله لمن قد كوى حب الخلود قلبه.
وإنّ من الوقاحة المتناهية أن يرمي هذا العاجز عن إنجاد وطنه بغير دموعه زعيم الحركة السورية القومية الذي أجاب استغاثة وطنه بالعودة إليه بعد قضاء واجب عائلي والقيام بأعظم نهضة في تاريخ سورية والشرق الأدنى!
هاني بعل
للبحث استئناف