رأينا في المقالة السابقة نبالة الأسباب التي دعت الزعيم إلى الإغضاء عن زلات رشيد سليم الخوري ومحاولة إنقاذه، ودناءة الأسباب التي حملت رشيد الخوري على اختلاق المطاعن في الزعيم ودسّها سراً في أوساط السوريين المهاجرين، وخصوصاً النازلين في البرازيل. وفي هذه المقالة نتابع درس هذه الأسباب ونتائجها.
وقد أعدنا، في المقالة الأخيرة، نشر التأويل الفاسد لرحلة الزعيم إلى المهجر الذي أخذ رشيد الخوري ينشره بين معارفه ولكننا لـمّا ننتهِ من تحليله.
في التأويل المشار إليه يقول الخوري إنّ شأن الزعيم في أميركة كشأن رجل هجر بلاده متخلياً عن امرأته وأولاده. وهذا القول كله تغرض. الزعيم لم يهجر وطنه قط. فقد جاء سعاده المهجر السوري مرة أولى وهو في نحو الخامسة عشرة من عمره، عملاً بدعوة أبيه الذي كلّفه جلب إخوته الصغار معه بعيد الحرب العالمية الماضية.
ولكنه لم يتخذ لنفسه صفة المهاجر، بل أخذ يعمل مع أبيه الطيّب الذكر العلاّمة الدكتور خليل سعاده في سبيل وطنه، ويترقب الفرصة السانحة ليعود إليه ويعمل على إنهاضه، حتى سنحت هذه الفرصة السعيدة سنة 1930 فسافر من البرازيل تواً عائداً إلى وطنه وكان وصوله إلى بيروت في 30 يوليو/تموز من السنة المذكورة.
وكان الزعيم قد كرّس نفسه لتوحيد شعبه وإنهاضه وتحريره فاندفع في هذا السبيل مدركاً كل الإدراك وعورة المسلك وأنّ عليه أن يقتحم شباك الجواسيس ومعاقل الرجعيين وفخاخ النفعيين ولدغ السعاة، وألف ألف لون من ألوان الانحطاط المناقبي الذي أصاب الشعب السوري في زمن فقده سيادته القومية. فعمل عملاً، إذا قيس بأعمال أبطال الأمم الحية السابقة في الارتقاء عُدَّ معجزة من المعجزات النادرة.
وقد أثبتنا فيما تقدم من هذه السلسلة أنّ الزعيم لم يأتِ أميركة مهاجراً، بل جاءها بناءً على خطة مرسومة قرر تنفيذها ليشرك السوريين المهاجرين في نهضة أمتهم، ولينقذهم من الطبقة النفعية المفسدة التي تتلاعب بشعورهم الصادق.
وإذا كان الزعيم قد اضطر للبقاء في الأرجنتين بسبب رفض الفرنسيين، الذين لا يزالون أصحاب الأمر في شمال سورية، تمديد جواز سفره، فهو مقيم إقامة مضطر، لا مختار. أضف إلى ذلك الأحكام العرفية الأخيرة، الصادرة من المحكمة العسكرية في بيروت بسجنه عشرين سنة ونفيه عشرين سنة.
ولكن المهاجر الحقيقي الذي هجر بلاده مختاراً سعياً وراء النفع الشخصي، لاعناً أمته، شاتماً وطنه، متنقلاً سليماً في أميركة، «مغرّداً» لآلام سورية، مبتعداً عن الجلّى ومسرعاً إلى الخنا، كما تدل قصيدته «من ذاق شهدك لم يخف من سمّك» هو رشيد سليم الخوري نفسه. ومن نكد الدنيا أنّ هذا المهاجر الذي أنفق شبابه في التجول التجاري ونظم القصائد التقليدية ابتغاء حظوة في عين امرأة، أو زلفى إلى مجتمع بقصد كسب المنافع المادية التي كرّس نفسه لها، يريد أن يعيّر الزعيم بما يجب أن يكون عاراً عليه هو نفسه، رشيد الخوري، دون أن يحمرّ له وجه أو يندى له جبين. ولو كان في رشيد الخوري مقدار حبة خردل فقط من ضمير حي لكان كافياً لمنعه عن تناول سعاده بمثل هذا القول اللئيم، إذ سعاده هو الرجل الذي يحمل في نفسه آلام أمته، مقدماً نفسه لحمل الضيم عنها، مجاهداً بالفعل لإنهاضها وتحريرها، متعرضاً للدسائس والخيانة من مواطنيه وللسجن والنفي والاضطهاد في سبيل شرف كل سوري مقيم أو مهاجر، ورشيد الخوري في عداد المدينين لسعاده بإنقاذه شرف الجنس السوري من حضيض الانحطاط الذي ألقاه فيه مشعوذو السياسة ودجالو الوطنية الذين أحلّوا النفاق محل صحة الأخلاق، وأقاموا الشعوذة مقام الجهاد!
لا تقتصر عبارة رشيد الخوري التأويلية على إفادة ما ذكرناه في المقالة السابقة وفي هذه المقالة، وهو أنّ الزعيم «تخلى عن رفقائه» وأنه «هجر» وطنه وحزبه، بل تتعدى ذلك إلى معنى آخر مستور. فرشيد الخوري يريد بقوله إنّ الزعيم «ترك رفقاءه يتحملون ويلات الحالة الحاضرة في الوطن، وجاء يتنقل سليماً في المهاجر الأميركية» إنّ سعاده هرب من وجه الضغط والمسؤولية.
ولا شك في أنّ الخوري قصد إدخال هذا المعنى الحاد في أذهان معارفه من المهاجرين، استناداً إلى أنهم يجهلون تاريخ أنطون سعاده وأفعاله الكبيرة الدالة على كرم أخلاقه وشجاعته وعدم مبالاته بالموت. ولكي لا يظن القرّاء أنّ ما نقوله هنا هو مجرّد افتراض نروي لهم كيفية توقيف الزعيم للمرة الثانية في يونيو/حزيران 1936:
بعد أن قضى الزعيم مدة ستة أشهر في سجن الرمل وهي المدة التي حكم عليه بها في يناير/كانون الثاني 1936 خرج من سجنه ليرى أنّ الحزب قد تضاعف عدده مرات، بفضل دفاعه المجيد أمام المحكمة المختلطة. وهذا ما كانت قد تحققته الحكومة أيضاً. وخشي الفرنسيون استفحال أمر الحزب السوري القومي بعد عودة سعاده إلى حومة الجهاد، فأوعزوا إلى الحكومة اللبنانية أن تأمر الصحف بالكف عن نشر تصريحات الزعيم وخطبه وأعمال الحزب وأن تشجعها على نشر الأخبار الملفقة التي من شأنها تشويه سمعته. وفي الوقت عينه كلّف المكتب الثاني في دائرة أركان حرب جيش الشرق الفرنسي، العامل لحساب هذا المكتب، المحامي عزيز الهاشم بالقيام بحملة لتشويه سمعة الحزب، فأخذ المأجور المذكور ينشر في جريدة المساء حكايات غريبة ادّعى أنها وقائع حقيقية، متهماً الحزب بالعمل لمصلحة إيطالية ومدعياً أنه واقف على ما يثبت ذلك. وفي الوقت عينه كان الكاتب المستشرك في جريدة الرابطة الشرقية إبراهيم حداد ينشر في هذه الجريدة الأخيرة مقالات يدّعي فيها أنه واقف على ما يثبت أنّ الحزب السوري القومي يعمل بإيعاز من ألمانية!
فأرسلت دوائر حزبية مسؤولة تكاذيب مدعومة ببراهين موثوقة إلى الجريدتين المذكورتين وإلى جرائد أخرى، ولكن الصحف امتنعت جميعها عن نشر التكاذيب واستمرت الصحيفتان المشار إليهما في مطاعنهما. فساء ذلك أعضاء الحزب السوري القومي وأدى التشويش الذي أحدثته مقالات تينك الجريدتين إلى هياج في الأوساط القومية، كان من ورائه أنّ عدداً من الأعضاء في بيروت اجتمعوا وقرروا، على مسؤوليتهم، تأديب صاحب جريدة المساء عارف الغريب، كما اجتمع عدد آخر وقرروا تأديب الكاتب في جريدة الرابطة الشرقية إبراهيم الحداد. وسعى هؤلاء لتنفيذ قصدهم في الحال فتعقبوا إبراهيم الحداد ولكنهم لم يظفروا به في فرصة مناسبة فأضرموا النار في مطبعة جريدة الرابطة الشرقية وأحرقوها. وواحد منهم كان سائق سيارة اتفق له أن رأى إبراهيم الحداد في الشارع فهجم عليه بسيارته يريد دهسه فانحاز عنها الحداد فأصابه جانبها وألقاه وأصيب برضوض. أما الأُوَل فراقبوا عارف الغريب حتى رأوه يدخل بيته ليلاً فاقتحموا المنزل ودخلوا غرفته وأخرجوه من سريره وضربوه ضرباً مبرحاً أبقاه طريح الفراش نحو عشرة أيام في أحد مستشفيات بيروت.
وقد أعطى هذا التأديب نتيجة جيدة، فالصحافيون الآخرون الذين كانوا يفكرون باختلاق الإشاعات الكاذبة عن الحزب السوري القومي تهيبوا الموقف وسكتوا سكوتاً عميقاً مدة طويلة.
سعت الحكومة وراء الذين نفذوا التأديب، وبواسطة إفشاء امرأة أحد الذين اجتمع الأعضاء في منازلهم تمكنت من إمساك طرف الحبل. وبالتدريج أخذ التحري يقبضون على من تبلغهم أسماؤهم من رجال الحزب وعلى غيرهم ممن يظنون به. وذات يوم داهموا مكتب جورج حداد وقبضوا عليه ووجدوا في جيب جبته نسخة «مرسوم الطوارىء» المشار إليه. وقد وجدت هذه النسخة معه خلافاً للتعليمات الصادرة إليه بإخفائها في الحال في مكان أمين. فساقوه إلى السجن وصادروا المرسوم الذي كان وسيلة لفتح تحقيق جديد في قضية الحزب السوري القومي. وبما أنّ المرسوم يحمل توقيع الزعيم فقد صدرت أوامر الحكومة اللبنانية بتوقيفه.
وفي صباح الخامس والعشرين أو السادس والعشرين من يونيو/حزيران 1936 خرج القومسيار فريد شهاب في نحو عشرين من رجال التحري يقصد منزل الزعيم تجاه الجامعة الأميركانية في بيروت. فلما بلغه، وكان الزعيم موجوداً فيه، وضع عدداً من الرجال حول المنزل وأخذ عدداً آخر وتقدم بهم من باب منزل الزعيم وطرقه، فلما فتح الباب دخل تواً برجاله إلى داخل المنزل. وكان دخوله مجازفة كبيرة، لأن منزل الزعيم كان مخفوراً من الداخل بجريدة من الأشداء المسلحين بالمسدسات الأوطماطية [الأتوماتيكية]، فما كاد القومسيار يصبح في بهو الدار حتى هبّ الحرس بصفرة من حارس الباب وخرجوا من الغرفة الأمامية وأحاطوا برجال التحري.
فارتفعت ضجة جعلت الزعيم يخرج من غرفته ليرى ما الخبر. فوجد رجاله يطوقون رجالاً غرباء دخلوا بلا استئذان وهم معهم في جدال. وللحال تقدم كبير الحرس من الزعيم وأخبره بحقيقة الأمر فتقدم الزعيم وسأل من هو المقدّم على التحري فأجابه شاب أنه هو، وقال آخر من رجال التحري مشيراً إلى الشاب: «هذا القومسيار المير فريد شهاب» فسأله الزعيم «ماذا تريد وما شأن هؤلاء الرجال هنا؟» فقال: «نحن مرسلون من قبل العدلية لسؤالكم الحضور أمام قاضي التحقيق.» فقال الزعيم: «وما شأنكم مع رجال الحزب هنا ولماذا تثيرون هذه الضجة وكيف تجرأون على دخول منزلي بدون استئذان» فأجاب القومسيار: «قلنا لهم أن لا يعترضونا وأن يدعونا ننفذ مهمتنا.»
فغضب الزعيم لهذه الوقاحة وانتهر قومسيار التحري قائلاً: «في هذا المنزل لا يحكم أحد سواي وعلى هؤلاء الرفقاء لا يوجد أمير غيري. فإذا كنتم ترغبون في تجنب العواقب الوخيمة التي لا بد أن تعود عليكم فأنصح لكم بالخروج من حيث أتيتم في الحال قبل أن يمزقكم هؤلاء الأبطال. ومن كان منكم يحمل رسالة إليَّ فليس له طريقة غير الاستئذان حتى يأتيه سماحي، فماذا تختارون؟»
وكان عدد من رجال الحرس قد أخذوا مراكز يتمكنون من السيطرة منها بمسدساتهم على الموقف. فخاف رجال التحري العاقبة فانسحبوا وبعد قليل أقبل القومسيار وحده مستأذناً بالدخول فجاءه الإذن بالدخول إلى غرفة الانتظار. وفي هذه الأثناء وفد على الزعيم بعض العمد كالأمين مأمون أياس والأمين جورج عبدالمسيح، ثم وفد رئيس مجلس العمد الأمين نعمة ثابت وناموس الزعيم الأمين فخري معلوف، وجرت مخابرات تلفونية بين مقر الزعامة وبعض مراكز الحزب واتخذت تدابير احتياطية عظيمة وجاءت قوة من رجال الحزب ورابطت على مقربة من منزل الزعيم، وجاء قائد القوة ليخبر الزعيم بالتدابير التي اتخذت وبأن القوة القومية مستعدة لتنظيف شوارع بيروت من الناس ليتوجه الزعيم أنّى يشاء. وكان هذا القائد يحمل رجاء الرجال المرابطين إلى الزعيم ألا يسمح هذه المرة بوصول يد الحكومة إليه.
الموقف أصبح واضحاً: الزعيم يعلم أنّ التحري جاؤوا لتوقيفه، لأنه بلغه توقيف جورج حداد وعيونه أخبرته بوقوع مرسوم الطوارىء في يد التحري. ولكن قوة الحزب مسيطرة على الموقف والنفوس مستعدة للثورة. وإذا شاء الزعيم أمكنه شق طريقه إلى الجبل حيث تجتمع لديه قوة مسلحة لا تقل عن ثلاثة آلاف في يوم أو يومين. والزعيم كان يعلم أنه لو أنّ الأمر مع الحكومة اللبنانية وحدها لكانت مسألة انتصار الحزب النهائي مسألة ساعات أو أيام قليلة. ولكن المسألة ليست مع الحكومة اللبنانية وحدها بل مع الدولة الفرنسية المتسترة وراء الحكومة اللبنانية. وكان الزعيم يعلم أيضاً أنّ قوة الجيش الفرنسي في البلاد تبلغ نحو الستين ألفاً مجهزين بأحدث الأسلحة وبأدق وسائل المخابرات والمواصلات وبالخبراء لكل نوع من أنواع السلاح، وأنّ قوة الحزب السوري القومي المادية ليست شيئاً مذكوراً بالنسبة إلى قوة الفرنسيين، مع العلم أنّ المدد يمكن أن يأتي الفرنسيين بسرعة من أفريقية أو فرنسة. وإنّ نوع السلاح الموجود في سورية هو البنادق وهي كلها من الطراز القديم، لأنها بقايا ما خلّفه الجيش الألماني - التركي في الحرب الماضية. فالثورة في هذه الظروف لا سبيل لفوزها النهائي ولا نتيجة لها غير تقتيل عدد كبير من رجال الأمة، كما جرى في الثورات الاعتباطية التي نشبت في الماضي في الشام وفلسطين. ولم يكن غرض الزعيم إنشاء بطولة وهمية على جماجم الأبطال فدرس الموقف مع الأركان الذين حضروا، وقرر ألا يجيب رجاء العمد وضباط الحزب أن يصون نفسه. فوضع الزعيم المراسيم التي يعيّن فيها مجرى الأمور أثناء توقيفه ويعيّن الهيئات المتعاقبة على الأمر. ثم أذن لقومسيار التحري بالدخول عليه فدخل. فسأله ما يريد فبلّغه رسالة قاضي التحقيق. فنهض الزعيم وهو هادىء مبتسم ابتسام الظافر على الجبن والخوف ودعا القومسيار ليرافقه وتوجه معه إلى دار القضاء حيث أصدر قاضي التحقيق مذكرة غير موقتة بتوقيفه وأودع السجن.
هذه البطولة الهادئة الحكيمة التي تظهر لنا نفساً عظيمة تأنف من الالتجاء إلى المحاولات العقيمة التي يستر بها الصغار ضعفهم وجبنهم، هي أعظم من كل بطولة ظهرت في المعارك الدموية الهزيلة التي جرت في سورية تحت الانتداب.
إنّ سعاده لم يشأ أن يجعل الحزب حامياً له، بل شاء أن يكون هو حامياً للحزب بنفسه. ولو شاء الزعيم لأضرم ثورة لم ترَ لها سورية مثيلاً، ولما عاد إلى السجن ثانية.
إننا وجدنا رجالاً آخرين يهربون عند كل شدّة ويتخلون عن مسؤولياتهم، هم أصحاب البطولة القزمية. أما أنطون سعاده فيعلو علواً كبيراً عن هذه البطولة الحقيرة.
فهل يوجد ما هو أشد مضاضة على النفس الأبية من رمي الرجل الذي شق طريق النهضة السورية القومية بنفسه وجسده، مهاجماً بتلك ودافعاً بهذا، بتهمة الهرب التي يجب أن تلصق بجميع المتزعمين المشعوذين الذين لا محل لهم في النهضة السورية القومية.
وهل توجد في العالم قباحة أشد من قباحة الطعن من الوراء في كرامة أعظم قائد ظهر في سورية منذ عهد هاني بعل إلى اليوم؟
أهكذا يكافأ البطل الذي أوجد القومية وقام يدافع عن كرامة الأمة بنفسه، مقدماً للجيل الجديد أعظم أمثولة في النزاهة والشجاعة والإقدام والتضحية والصبر والمثابرة؟
هاني بعل
للبحث استئناف