الأفكار نادرة جداً في منظومات رشيد سليم الخوري. وهي، على قلّتها، شعث غير ملموم. بل هي فسيفساء أفكار عامية، في الغالب، أو شائعة. فهو إذا فكّر بالاستقلال لا يراه آتياً إلا على يد العرب فيطلب من السوريين أن يتجهوا بكليتهم إلى الصحراء، كما في «تحية الأندلس»(1):
وإذا الـسيـف مـن الـصحــراء ســـلاّ
نــافـــضـــاً عن أربـــع الـفيـحـــاء ذلاّ
وكما في قوله في تأبين الوطني الكبير المرحوم الدكتور خليل سعاده:
سنـقـتــلـكــم ونـحييــكـــم إلــى أن
يمــزق عـن عيــونــكـــم الحـــجــــاب
غــــداة نـــروّع الـــدنــيــا بـــجـــن
عـلــى صـهــواتـهــا شـبــوا وشــابــوا
ويـجــرفــكــم من الصـحــراء سيـل
لــه فــي ضـفــة «السيــن» اضـطــراب
ظـنـنـتــم كـــل مــا فـيهــا ســرابـــاً
سيشــرب بحــركـــم هــذا الســراب
في بدء هذه الأبيات يظن القارىء أنّ الناظم يرى رؤيا جميلة تبشر بنهوضنا نحن، فتخرج الأبطال الجبابرة من مدننا وقرانا، من جبالنا وسهولنا وأوديتنا، فلا تكاد
نفسه تستبشر لذة الأمل بالنهوض حتى يقطع الناظم أملها بوضعه الرجاء في الصحراء وأهلها، لا فينا!
وهو إذا فكر بالبطولة والشجاعة والكرامة ردد أفكار زمن الانحطاط العامية التي نسبت الذل إلى تعليم المسيح: «أحبوا بعضكم بعضاً» وانتهى إلى هذه الحكمة التي أخفيت عن العقلاء وأعطيت للجهال(2):
إذا حــاولــت رفــع الضيـم فـاضـرب
بسيــف محمــد واهـجـــر يـســوعـــــا
«أحــبــوا بعـضـكـم بعـــضاً» وعظنــا
بــهـــا ذئـبــاً فـمـــا نجّــــت قـــطيـعــــا
وقوله(3):
والسيــف لا عيـســى ولا أضــرابــــه
خــلــق «الكـمــال» لـهـم مـن النقصـان
ومن هذا النوع العامي الانحطاطي تفكيره في شأن المبادىء وأهميتها(4):
وقــيـــل لـنـــا من الأخـــلاق واقـــي
أواشـنـطــــون كـــان بــــلا خــــــلاق
وهــل قــهــر العـــدى يــوم التلاقــي
بتــلــك السـمـــر والبيـــض الــرقـــــاق
وعلم الحرب أم علم المبادي؟
وهذا التفكير سخيف مؤسس على جهل مطبق، إذ لولا المبادىء لما ظهر واشنطن ولا غيره من العظماء. فالمبادىء والإيمان كانت وراء شراذم واشنطن، كما كانت وراء شراذم خوارس. والإيمان والمبادىء كانت وراء المسيح وأتباعه، والإيمان والمبادىء، قبل الحسام، كانت وراء محمد وأتباعه. وإنّ السمر والبيض الرقاق وعلم الحرب إذا لم تستند إلى روحية قوية من الأخلاق والمبادىء والمناقب كانت عديمة الجدوى. وليست المبادىء بمانعة من امتشاق الحسام. والسيف، في الحالات المؤاتية، يؤلف جزءاً من الأخلاق والمبادىء، فلا وجه إذن للأخذ بذاك وترك هاته.
وقوله في الأغنياء ومصير أموالهم بعد موتهم(5):
لم يمنـعـوا الـنـاس يومـاً بعض ما جمعوا
إلا لكـي يمنحـوهـم كــل مـا جـمعـوا
ليس سوى نظم فكرة عامية متداولة عند البسطاء يسمعها المرء في مجالسهم وسمرهم، وليس فيها مغزى مفيد في مجتمعنا العصري المركّب.
وفي قصيدته «هنا وهناك» من سخف الفكر ما يحار المرء في بلوغه هذا المبلغ الزري(6):
إن كــرّمـوا العجــم ولّـوهـم ظهورهـم
ومـلّكـوهـم رقــابــاً حـقهــا النـطـــع
والنظّام يشرح قوله «ولّوهم ظهورهم» هكذا: «من عادات شعبنا أنهم يحملون من يرومون تكريمه على أعناقهم أو يجرّون مركبته» فهل هذا صحيح؟
صحيح إنّ من عادات شعبنا أن يرفعوا أبطالهم على أيديهم وأكتافهم في ظروف حماس شديد ولكنه ليس صحيحاً أنّ «من عادات شعبنا» أن يجرّوا مركبة من يرومون إكرامه من العجم. ولا عبرة بحادث من هذا النوع جرى في زحلة وكان خروجاً على عادات شعبنا، لا عملاً بها.
والظاهر من هذا الاختلاق ومن غيره أنّ الناظم يروم رمي شعبه بكل حقارة ونسبة كل صغارة إليه، ليظهر هو بمظهر الأبي الأوحد وليتمكن من القول(7):
ألا ذوَّقــــتــــهــــم ألمـــي فــــثـــــاروا
فــيـــا ربّـــاه لســت أنـــا الــبــــلادا
وهو يريد به أنه الوحيد من أبناء الشعب المتألم تألماً شديداً لما حلَّ بالوطن وأنّ الله قد حمّله وحده عذاب البلاد كلها!
الناظم يحقّر الشعب كله ليظهر بمظهر وطني كريم فيقول في قومه(8):
يــرنـو الإبــاء إليهــم، دمعه بــركٌ،
أنـفــاســـه لـهــبٌ، أحـشـــاؤه قــطــــع
وهو دائماً ينعي لبنان ويرى في عدم ثورانه انتفاء الإباء والكرامة منه، لا حالة سياسية - اجتماعية خاصة. فيقول فيه(9):
لــبـنــان يــا لـبــنـان بل مـا ضـرنـي
لــو قــلــت يـــا بــلـــداً بــلا سـكـــــان!
ثم يسمع الناظم أنّ مصيبة الشعب من تفرّق مذاهب دينية فيقول(10):
بـــلادك قــدِّمــهــا على كــل مـلّــة
ومن أجــلـهــا إفطــر ومن أجــلـهـا صــم
....
فــقـد مـزقــت هذه المذاهـب شملنا
وقــد حـطمـتـنــا بيــن نـــاب ومـنســـــم
ســـلامٌ علـى كُــفــرٍ يــوحّــد بيننـا
وأهـــــلاً وســهـــلاً بــعـــده بـجـهـنــــم
وفي قصيدة «الشهداء» يقول الناظم(11):
أكـــرِمْ بحبــل غــدا للعــرب رابطة
وعــقــدةٍ وحــــدت للعــرب مــعـتـقـــدا
وهو يريد بهذا البيت أنّ استشهاد الرجال السوريين الذين سعوا للثورة على الحكم التركي، ولتحرير سورية والأقطار العربية الأخرى منه، قد صار رابطة لشعوب العالم العربي. وهي فكرة وهمية خادعة. فكيف وأين وجد الناظم أنّ أمم العالم العربي عدّ هؤلاء الشهداء شهداءها هي وتحيي ذكرى مآتمهم؟ وهل تقام لذكراهم المجالس والمآتم في مكة والمدينة وصنعاء وفي القاهرة والإسكندرية ودمياط والخرطوم وفي فارس [فاس] والرباط وتونس والجزائر والمرسى الكبير وفي بغداد والنجف والبصرة وكربلاء؟
أوَيكفي أن يتبع الناظم بالبيت المتقدم بيتاً آخر يقول فيه(12):
يــا زائـــر الأرز خبّــر زائــر البلد الـ
حـــرامِ أنّـــا جــمـعـنــا الأرز والبـلــدا
لتكون الرابطة بين الأقطار العربية قد تمت وتكون معتقدات الأمم العربية قد توحّدت؟
وإذا حملنا معنى هذين البيتين على محمل الشعور بدلاً من محمل الفكر فإننا، حينئذٍ، نحتاج إلى أحد علماء مدرسة فرويد في التحليل النفسي ليعلل لنا أسباب هذا الاختلال الكبير في شعور الناظم وإحساسه. فإن علماء هذه المدرسة النفسية قد أظهروا لنا أمثلة غريبة على استبدال مختلّي الشعور أوهاماً غريبة الأشكال بالحقائق التي هي بالحقيقة غرض شعورهم الأصلي!
روى أحد علماء هذه المدرسة السيكولوجية أنّ إحدى العوانس كانت تعبّر عن دوافع شوقها وحنينها إلى ولادة ولد بأحلام غريبة، منها حلم هذا مضمونه: حلمت هذه العانس أنها استدعت خبيراً بأوتار البيانو ليصلح خللاً طرأ على الأصوات، فلما فتح الرجل صندوق البيانو وظهرت الأسلاك نظرت العانس فرأت بذوراً كثيرة تتساقط خلالها!
كانت هذه المرأة تحت مراقبة أحد خبراء مدرسة التحليل النفسي الذي حلّل حلمها وأحلامها الأخرى إلى أجزائها، وأبان كيف أنّ اختلال شعور المريضة النفسي - العصبي جعل صور شعورها الأصلي تضطرب وتأخذ أشكالاً غريبة بعيدة عن الحقيقة.
وافترض أننا وضعنا رشيد سليم الخوري أو واحداً آخر من المصابين بالعيّ والعجز وفقد الرجولة الحقيقية، أما كان تحليله لأقواله يعطي هذه النتيجة؟
إنّ رشيد الخوري أحد الذين يصبون ويشتاقون إلى الإحساس بأنهم ينتمون إلى دولة سائدة ذات حول وطول، ولكنهم، لعجزهم عن إشباع هذه الحاجة في نفوسهم بممارسة أعمال فيها بطولة وشعور حقيقي بالقوة، فقد اختل شعور الرجولة فيهم حتى أنهم أخذوا يحلمون الأحلام الغريبة، ويتصورون التصورات العجيبة ليستعيضوا بها عن الحقيقة المفقودة!
هاني بعل
للبحث استئناف
(1) الأعاصير، ص 23.
(2) قصيدة "سلطان باشا الأطرش والتنك". الأعاصير، ص 27.
(3) قصيدة "الاستقلال حق لا هبة". الأعاصير، ص 34.
(4) قصيدة "لبنان وثورة حوران". الأعاصير، ص 63.
(5) قصيدة "هنا وهناك". الأعاصير، ص 67.
(6) الأعاصير، ص 68.
(7) غلاف الأعاصير.
(8) الأعاصير، ص 68.
(9) المصدر نفسه، ص 40.
(10) قصيدة "عيد الفطر". الأعاصير، ص 110-111.
(11) الأعاصير، ص 56.
(12) المصدر نفسه، ص 57.