ليس هذا المجال، كما قلنا في البدء (ص 5 أعلاه) مخصَّصاً لدرس منظومات «الشاعر القروي» فنقف في كلامنا على شعره اللاوطني عند الحد الذي بلغناه في المقالين السابقين، لنخص هذا المقال بمنظوماته «الوطنية».
نشأ رشيد الخوري في زمن ابتداء الاختلاجات السياسية في سورية، بشكل دعوة الأمم العربية إلى الاتحاد ضد السلطة العثمانية - زمن «دع مجلس الغيد الأوانس»(1) و«تنبّهوا واستفيقوا أيها العرب»(2) و«بلادي لا أرى فيك الإقامة لمن يهوى التعزز والكرامة»(3) وغير ذلك من المواضيع السياسية الأولى التي رافقت تلك الاختلاجات. فانطبعت مظاهر الاختلاجات المذكورة على نفسه. ومتى عرفنا من الدرس والمقابلة أنّ رشيد الخوري مكتسب في الشعر، لا موهوب، عرفنا أيضاً بالفحص والمقابلة أنّ نزعاته «الوطنية» في نظمه هي تقليد لنزعات غيره. وهكذا ترى قصيدته التي مطلعها: «أبيت جوارها أرضا بغير الذل لا ترضى» فهذه القصيدة هي مزيج من أفكار صاحب «بلادي لا أرى فيك الإقامة» وإحساسات صاحب «دعاني أجرع الغماء». وأفضل قصائده الوطنية لم تتجاوز أن تكون قبساً من «دع مجلس الغيد الأوانس»، و«تنبهوا واستفيقوا أيها العرب».
إنّ منظومات رشيد الخوري «الوطنية» ليست سوى صدى ما يقال ويسمع في بيئة الناظم، أي أنها منظومات، لا فكر مولد فيها ولا فكرة واضحة لها. كل ما يمكن أن تشعر به فيها هو أنها صادرة عن رجل يحب الحرية والاستقلال ويطلبهما ككل إنسان آخر، أو ككل حيوان على الإطلاق. فمحبة الحرية وطلبها ليسا شأنين من شؤون الناس فقط بل هما من شؤون الحيوان أيضاً. ألا ترى كيف يجول الأسد أو النمر المأسور في قفصه يطلب مخرجاً ومجالاً لحركته بعد أن ضاق ذرعاً بأسره وعيل صبره؟ أو العصفور كيف يمد منقاره من هنا ومن هناك طالباً الإفلات من القفص الذي سجن فيه؟
نقول إنّ قصائد الخوري الوطنية ليست سوى صدى ما يقال ويسمع، أي أنها قصائد لم تشتمل على غير صدى قصائد قديمة وغير الأفكار والفِكَر البسيطة، العامية، الشائعة، وهذا يعني أنها تابعة لا متبوعة. كل فكر أو رأي يسمعه الخوري في سهرة عائلية أو اجتماع أدباء يدوّنه أو يحفظه ثم ينظمه قصيدة من «بنات أفكاره». فالعقائد القومية أو الوطنية الغامضة تنعكس على قصائد رشيد الخوري بكل غموضها. وحين كان الزمن زمن اعتبار «الشرق» موطناً والشرقيين جماعة أو «أمة»، نظم رشيد الخوري قصيدة بعنوان «أمة الشرق» جمع فيها الترك والعرب في أمة واحدة جعلها «أمة الشرق»!
في ذلك العهد كان لا فرق بين قولك «أمة الشرق» وقولك «أمة العرب» ولذلك ترى الخوري قد استعمل القولين؛ فهو قد رأى الشرق كله وطناً واحداً وأمة واحدة ثم عاد فرأى العالم العربي كله وطناً واحداً وأمة واحدة. وفي كل ما نظم من «الوطنيات» لا تجد فكرة واضحة للوطن أو للوطنية المنسوبة إليه. فالوطن له هو حيناً الجزء الأصغر من الوطن القومي، هو لبنان، وحيناً آخر هو «سورية الوطن» كما في الرشيديات. ولكن الوطنية ظلت لفظة فوضوية شاردة لا تعرف وطناً ذا حدود ولا تعني الانتساب إلى وطن معين. وقارىء قصائد رشيد الخوري لا يجد فكرة وطنية نهائية ثابتة يستقر عليها، بل هو يجد أنّ الوطنية قد تحولت عن معناها الأصلي إلى لفظة مرادفة للحرية المطلقة، الفوضوية، أو لبغض الغربيين، ففقدت بهذه الصورة كل علاقة لها بفكرة الوطن القومي المقصود بها. وبناءً على هذا الاستعمال غير المضبوط سميت منظومات الخوري «قصائد وطنية».
جمع رشيد سليم الخوري فئة مختارة من منظوماته «الوطنية» في كتاب سماه الأعاصير. لنتناول هذا الكتاب، الذي هو زبدة «الشعر الوطني» الذي وصف به «القروي» وفيه أنضج ما نظم الخوري في هذا الباب.
نتناول، قبل كل جهة أخرى، الناحية الشعرية. والحقيقة أننا نقول «الناحية الشعرية» من باب أنّ الشعر قيمة نفسية سامية أدركتها فطرتنا الممتازة منذ قرون متطاولة في القدم، لا من باب أنّ الشعر موجود في الأعاصير. ففي مجموعة الأعاصير كلها لا يعثر القارىء على غير محاولة واحدة ضعيفة لنسج بردة شعرية. هذه المحاولة هي في قصيدة «نكبة الشام». وفيما سوى هذه المحاولة لا تجد أثراً واضحاً للشعر في الأعاصير، ولو شنق نفسه الكاتب المصري حسن كامل الصيرفي، أو ندب حظه أمين الريحاني(4)، أو أعلن نقمته أمير البيان المير شكيب أرسلان، أو حملق كثيراً توفيق قربان بعينيه من وراء نظاراته، أو تحولت فلسفة «الشاعر القروي» القائلة «إنّ الخلود يكون بواسطة المطابع» إلى سراب في الصحراء لضالّ مجهد!
أبدع قصائد الأعاصير «الحماسية» تبلغ، في العلو، حد التقصيد الزيري، على طريقة تعبير الرفيق وليم بحليس، أو حد «قول» القوالين المشهور أمرهم. وإذا كان «القول» يبلغ أحياناً حد الشعر بالمعاني التي تعطي صورة مجازية جميلة لفكرة أو شعور حقيقي، فإن صفاته الأساسية تجتمع في الاندفاع في المظاهر الوهمية وترك كل نسبة أو قياس بين الوهم والواقع، شرط أن يكون معنى القول مغرياً بما يفتح من أبواب خداع الوهم المجرّد أو يقفل من أبواب البداهة. كل مظهر اعتباطي، مهما كان مبتذلاً أو سخرياً، جائز في القول. وهكذا في الأعاصير وإليك المثال:
خذ قصيدته «الرجاء الوطني»(5) التي قصد منها أن تكون شعوراً جميلاً يربط الإنسان بوطنه وهذه بعض أبياتها:
غــرســت بـــلـبـنـــان ورد الأمــــل
فـــقــــل لــــلبرازيـــــل أن تمـحـــــلا
وجــــدت عـــليــه بمــــزن المقـــــل
فـــقـــل لـــلأمــــازون أن يــبـخــــلا
وحــلـيـت قــلبـي «بـنبـع الـعســـل»
فـقــل لــلـيـالي أمــطــري حــنـظــــلا
هذه الأبيات هي «قول» أو «تقصيد» مجرّد من كل صورة شعرية. والصورة التي ترسمها من أسخف ما يمكن أن تتصوره مخيلة قوّال بسيط. لماذا يجب أن تمحل البرازيل إذا كان الناظم قد غرس ورد الأمل بلبنان؟ وما هو الجمال الشعري في سقي الأمل بمزن المقل وبخل الأمازون؟ وما هي الفائدة الحقيقية أو الخيالية وما هو سر الجمال في سقي ورد الأمل بمزن المقل إذا عز الوصول إلى ماء الأمازون؟ الباكي فوق ورد الأمل ماذا تكون حالته وماذا ينتظر أن تكون نهاية أمله؟ ولماذا يجب أن يزدري خصب البرازيل وغزارة أمازونها؟ المقطع الأخير من الموشح يقول(6):
وإن كــاد فُلكـي ببحــر الـدجــى
يــحــطـــم فـــوق صــخـــور الـغـــد
ولم أرَ مـن مـلـتــجــى مـرتجــــى
ولا مــــن يــــد تــتـلــقـــــى يــــدي
شــددت «بصنين» حـبــل الرجــا
وقـــلـــت لموج الأســـــى: أزبـــــــد
البيتان الأولان يمهدان لصورة شعرية محلقة، ولكن البيت الأخير يسف إسفافاً يولد في نفس القارىء الشاعر خيبة وانقباضاً عظيمين: الحالة النفسية التي تتطلب مثالاً نفسياً - روحياً من نوعها لا تجد سوى خاطر مادي، استبدادي، لا منطق يجيز انتهاءها إليه. فلو قال الناظم مثلاً: «... شددت حبل الرجا بتلك القوة الخفية، العجيبة في وطني التي كتب لها الخلود» لكان هنالك وجه للرجاء الوطني. ولكن ما هي الموحيات الفكرية في «صنين» لجعل الرجاء الوطني يرتبط به حين يكاد فلك حياة المرء يحطم فوق الصخور التي تخبئها الأيام؟
هذا الموشح يدل على أنّ الناظم يريد أن يفرض علينا سخافاته وخصوصياته «الشعرية» فرضاً. فهو هنا كما في قصيدته التي تناولناها في المقالة السابقة القائل فيها: «من ذاق شهدك لم يخف من سمّك» يريد أن يكلفنا قراءة المنظومات المتعلقة بخصوصيات نفسيته. وهي أمور كان يجب أن تبقى بين الناظم ونفسه أو، على الكثير، بينه وبين خلانه الذين يشاركونه في مستوى أفكاره ومُثُله وفي إحساساته ومطالبها.
ماذا يهمنا نحن أو يفيدنا إذا شدّ رشيد الخوري حبل رجائه بصنين أو بحرمون أو بجبال العكام (أمانوس)؟ وماذا يهمنا من استغنائه بدمعه الهاطل على ورد أمله عن أمواه الأمازون؟ وهل بلغ بهذا الناظم السخف حد تصور أننا مثله عاجزون عن سقي ورد أملنا في وطننا بغير دموعنا؟ أوليس عندنا نهر أدونيس (إبراهيم) الغني بأساطير الحياة، ونهر العاصي ونهر دجلة ونهر الفرات ونهر الأردن وغيرها من أنهرنا نسقي منها سهول آمالنا الموُجِدة الخصبة، حتى نقف كالنساء اللواتي أسقط في أيديهن نبكي على ورد أمل غرسناه لنعتز به، لا لنهان ونتعرض للشماتة؟
وماذا يهم العموم من محللات رشيد الخوري ومحرماته حتى ينظم للناس كيف أجاز لنفسه انتهاز فرصة ضعف فتاة وغلبها على أمرها غير مبال بسمّ غضبها ما دام يتمكن من ذوق شهدها؟ أليست هذه حالة من حالات فساد الفكر التي يصورها المعري الخالد أوهمت الناظم أنّ قطر السرى درٌّ يحسن أن يعرضه على الناس؟
في الأعاصير قصيدة بعنوان «الشهداء»(7) مطلعها تكلف ظاهر وقول عادي وهذا هو(8):
خـيـر المطـالـع تسليم على الشهدا
أزكــى الصـــلاة علـى أرواحــهــم أبـــدا
والخوري يحاول فيها بلوغ الشعر بكل وسيلة فينتقل إلى المجاز ليبرز صورة شعرية ويقول(9):
بـل علّقوكم بصدر الأفق أوسمـة
مـنهــا الثـريــا تــلــظّـى صــدرها حـســدا
ولكننا لا نجد ظاهرة واحدة أو شكلاً يرمز إلى تلظي صدر الثريا حسداً. وإخراج الرمز يظل منوطاً باجتهاد كل قارىء في تخيل الصور والأشكال.
وهنالك قصيدة في «وعد بلفور»(10) لا تختلف عن قول القرادي في شيء. تأمل هذه الأبيات(11):
الحـــق مـنـك ومـن وعـودك أكبر
فــاحســب حســـاب الحــق يـــا مـتـجـبــر
مـهــج الـعـبـــاد خسـئــت يــا مسـتعـمــــر
لو كنت من أهل المكارم لم تكن
مــن جيــب غيــرك محسـنــاً يـــا بـــلفــــر
إلى آخر القصيدة. وفيها أبيات قرادية تخرج عن كل فكر جدي كهذه(12):
أمـــا وقـــد خــلــع المرائـي ثوبــه
فــليــخـــلـعـــنّ الــغــمـد هــــذا الأبــتــــر
ولــيــلــبســنّ الأرجــوان غـلالـة
تــطـــوى عـلــى هـــام الـرجــال وتـنـشــر
ولـتـعــركـــنّ الـظــالمين سنابــك
حـــتـــى يـــحــجّــبـهــم دم لا عـــثــيــــر
وهي، لفقد كل نسبة صحيحة فيها إلى حقيقة الموقف، لا ترسم غير صورة «دنكيخوطية» [Don Quixote] تدعو إلى الهزء والسخرية. وقس على ما تقدم ففيه كفاية لتبيان قيمة منظومات رشيد سليم الخوري من الوجهة الشعرية.
ولا بد، قبل ختام الكلام على هذه الناحية، من ذكر أنه يوجد في قصيدة «الشهداء» ظل لصورة شعرية هي من إبداع الوطني الكبير المرحوم الدكتور خليل سعاده، الذي أنذر المستعمرين بالهلاك فتهكّم على سعيهم، وناداهم أن يبادروا إلى نقش آثارهم إلى جانب الآثار التي نقشتها على صخورنا الأمم البائدة.
نترك، عنـد هذا الحـد، الناحيـة الشعريـة ونتنـاول ناحيـة الروحيـة الوطنيـة في قصائـد الأعاصيـر.
الروحية السائدة في القصائد المذكورة، كما في غيرها في قصائد «القروي» الوطنية، هي روح النوح والبكاء والندب والصخب والزحير. روحية رازحة، عاجزة، يائسة، لا تملك أمرها ولا تدرك موقفها. روحية أكثر ضعفاً وأقل ثقة من روحية عاموس اليهودي بعد أن ضرب ملك دمشق، هدد عزر، اليهود ضربة عظيمة. روحية لعنة لشعبه ووطنه لا ترى بعثاً ولا أملاً.
يمكن الشعور بهذه الروح من أول الكتاب. أنظر البيتين اللذين أهدى بهما الكتاب إلى «شهداء الوطنية»(13):
يـــا رفــاتــاً تــحــت الـرمــال دفينــا
مـبـعـــداً، عــاطـــل الــرُّمــوس نــسـيّـــا
لــك أهـــدي هــذا الـكتــاب لأنــي
لم أجــــد فـي الــبـــلاد غــيـــرك حــيّـــا
فهو لا يهدي الكتاب إلى الشهداء من أجل نبالة تضحيتهم، بل يهديه إلى رفاتهم لأنه لم يجد حياة في شيء غيره!
وهو لا يقصر هذا المعنى القاتل الأمل على الحاضر، بل يتناول به المستقبل أيضاً في قصيدته «الشهداء» في الصفحة 59 حيث يقول:
تــلــك الجبــابــرة الأبطال ما ولدت
للــحــرب أمـثـــالـهــم أُمٌّ ولـــن تـــلـــدا
وترى أنه جعل من تقدير الشهداء المقصود مدحهم وسيلة للحط من الأبطال الذين تقدموهم. وهكذا محا الناظم الماضي ودفن الحاضر وأعدم المستقبل. وأين هذا القول الزري، في معرض الاعتزاز والفخر، من قول القائل: «إذا مات منا سيد قام سيد» الذي يرفع المعنويات ويقوي ثقة المرء بمستقبل قومه وحسن مآلهم؟ فإذا كانت الأمهات لم تلد ولن تلد أمثال أولئك الأبطال فبأي شيء يكون رجاؤنا للغد؟ أبحبل رجاء رشيد الخوري المشدود بصخور صنين؟!
وإليك هذا المثال على العجز واليأس(14):
يـدعـوك شـعبـك يا صلاح الدين قم
تـــأبـــى المــروءة أن تــنــام ويـســهـــروا
فالناظم لا يرى أملاً ولا مقدرة في غير قيام صلاح الدين من قبره. ولا يمكن أن يحمل هذا البيت على محمل رمز إلى ما سيجيء بسبب ما يليه وهو(15):
نســـي الصـليـبـيـون مــا عــلّمـتـهــم
قـبـل الـرحـيـل فـعـد إلـيهــم يـــذكــــروا
ريـكــاردس أدرى بـسـيفـك منـهـمــو
فـــليـســـألـــوه لـعـــلـــه لا يــنـــكر
وعلى افتراض أنّ هذه الأبيات رمز، وهو ما لا وجه قياسي أو منطقي لافتراضه، فبئسما هو هذا الرمز، الذي مغزاه الرجعة إلى القديم. وهذه الروحية الرجعية، التي هي نتيجة روحية العجز واليأس، تتجلى بمظاهرها الباهرة في القصيدة الشائنة «تحية الأندلس» في قوله(16):
فــــإذا بـغــداد عـــادت كــالقــديــــم
مــوطـــن الشــعــر وديــوان العـلـوم
وإذا رنّ بـــهـــا عـــــود الــنـــديـــــم
مــرجـفــاً بالحــب أعصـــاب النجوم
الرجوع إلى الماضي وصوره. هذا شأن جميع العاجزين عن الإنشاء والإبداع والتقدم والارتقاء. وقصيدة «تحية الأندلس» المعيبة تحتاج درساً خاصاً سيأتي. والعجز والقنوط والشكوى تظهر بوضوح في قصيدته على غلاف الأعاصير:
إلـــهــــي ردّ مــــا لـــك مــــن أيــــاد
عــلــــى وطــنــي وردّ لـــه الأيــــادا
خــلــعــت عـلــى ربــاه الحســن فــذا
وألـبـســت الـقـطيــن بــــه الحـــدادا
فهذان البيتان ليسا إعلان ثقة بالله من قبل مجاهد عزوم، بل هما ضراعة يائس عاجز عن إدراك الأسباب. فهو يقول إنّ الله هو الذي قضى بإلباس مواطنيه الحداد بالمرتبة عينها التي قضى فيها أن يكون وطنه جميلاً. إذن فالأسباب كلها من عند الله ولا يمكننا أن ننتظر شيئاً إلا أن يلبسنا الله الأثواب الزاهية بدلاً من الحداد، فهو وحده على كل شيء قدير بذاته. ولا يكفي أنه خلقنا وأعطانا من المواهب بقدر ما أعطى غيرنا وأكثر، وأنه يعيننا إذا توكلنا عليه في خطة وسعي وجهاد. ثم إنّ الناظم يتحول، في عجزه وبعد ضراعته اليائسة إلى «شبول الأرز» ويطلب منهم أن:
فــكــونــوا الــنـار تحــرق أو قـذى في
عــيـــــون الـبُطـــل إن كـــنتــم رمــــادا
والناظم يريد أن يوهمنا أنّ مناداته حمية. وقد يكون هنالك من حسبها حمية. ولا وجه لهذا الاعتبار، لأن الناظم لا يدل «شبول الأرز» على الكيفية التي يصيرون بها ناراً تحرق، ولا على الطريقة التي يكونون بها قذى في عيون البُطْلِ متى كانوا رماداً لا في هذه القصيدة ولا في غيرها. فصيحته صيحة عاجز، خامل، يخبط على غير هدى ويستعمل كلاماً في غير موضعه، كما وضع لقصيدة في فتاة إنكليزية عنوان «صيحة للجهاد» وهي قصيدة لا صيحة فيها للجهاد أو لغيره وإنما جرى فيها ذكر وجود صيحة للجهاد في كل مكان غير القصيدة!
تطل علينا روحية الزحير والعيّ والقنوط في عدة أماكن من الأعاصير. وتكاد مظاهر هذه الروحية اليهودية تكون نسخة طبق الأصل عن روحية عاموس أو إرميا. فالناظم يهدد الأعداء بقوة الله ويشتم ويلعن، شأن كل عاجز(17):
يــا ربــــة الــدأمـــاء مهمــا تـكـثـــري
عـــدد السفيــن فــعنــد ربــــك أكـــثــر
....
هـــدّدت بالأسـطــول أرواح الـــورى
إن كـنــت مـنــذرة فـفـــوقـــك مـنـــذر
وإنك ترى السباب واللعن في أقبح صورة في قصيدة «مآسد لا مراع»:
فـكـنــت لئيمــة حــــربـــاً وســـلـمـــاً
كـــلــؤمـــك فـي الـغــرائــز والطـبــــاع
....
عـــرضـــت الشــام مــوطـنـنـا لبيــــع
كــــأن الـشـــام عــرضـــك يــا لكــــاع
نقف عند هذا الحد في إظهار الروحية السائدة في منظومات رشيد سليم الخوري «الوطنية» بصورة عامة، على أن نعود في ختام هذا الموضوع إلى تناول قصيدته المجرمة «تحية الأندلس». وننتقل الآن إلى ناحية أخرى هي ناحية الفكر.
هاني بعل
للبحث استئناف
(1) للشيخ إبراهيم اليازحي. العقد (1983) ص 83.
(2) للشيخ إبراهيم اليازجي. العقد ص 25.
(3) راجع المقتطف. ج 28 (1903) ص 913 - 918. خطاب بولس خولي.
(4) «كتبت هذا المقال قبل ورود نعي الريحاني».
(5) رشيد شليم الخوري. الأعاصير. مطبعة الشرق ص 32.
(6) المصدر نفسه.
(7) الأعاصير، ص 55-60.
(8) المصدر نفسه، ص 55
(9) المصدر نفسه.
(10) المصدر نفسه، ص 71-84.
(11) المصدر نفسه، ص 72.
(12) المصدر نفسه،ص 74.
(13) المصدر نفسه، ص 3.
(14) المصدر نفسه، ص 75.
(15) المصدر نفسه.
(16) المصدر نفسه، ص 22.
(17) الأعاصير، ص 76.